رغم أهمية موضوع الكتابة على الجدران، أو الخربشة ، أو الغرافيتيا، فإن البحث العلمي فيه لم ينطلق إلا في نهاية ستينيات القرن الماضي في أميركا تحديدا، وفي ثمانينيات القرن الماضي في فرنسا..أما في العالم العربي فإن البحث في هذا المجال لم يبدأ بعد، وإن كانت هناك بعض الدراسات المتفرقة عن بلدان عربية مثل: مصر، والسودان ومصر، ولكن من طرف باحثين أجانب. كما أنه رغم الضجيج، الذي يثيره موضوع الغرافيتيا في العالم العربي فإن الكتابات حوله مازالت قليلة وغير ذات جدوى. وانطلاقا من هذا الهاجس المعرفي، والرغبة الدفينة، التي سكنت منذ زمان الباحث السوسيولوجي المغربي أحمد شراك، للبحث في هذا الخطاب، الذي يحتل كل الفضاء المدرسي من طاولات وجدران وممرات وأقسام، ومرافق صحية، وواجهات خارجية وداخلية، ومداخل رئيسية وثانوية، قام، أخيرا، بإصدار كتاب في هذا الصدد بعنوان "الكتابة على الجدران: مقدمات في سوسيولوجيا الشباب.. والهامش.. والمنع.. والكتابة.." عن "منشورات دار التوحيدي للنشر والتوزيع ووسائط الاتصال" بالرباط. في تقديمه للكتاب ذكر أحمد شراك " لا أخفي أنني كنت أنظر إلى الغرافيتيا من زاوية تيولوجية أخلاقية، العن ممارستها في السر والعلن معتبرا إياها كتابات ساقطة، ماجنة، وقحة، تنم عن خلل في التربية وعطب في التنشئة، لكن مع مرور الوقت، بدأت تلح علي أسئلة أخرى: ما الداعي إليها؟ لماذا تمارس بهذه الكثافة إلى حد اعتبارها ظاهرة كتابية اجتماعية وجمعية ووشما حقيقيا لجسد المدرسة؟ فبدأت أبحث عن أفق لأجوبة مغايرة بدأت أفكر في مناولتها، خاصة أنها بقيت في الظل، بعيدة عن مناطق الضوء السوسيولوجي والبحث العلمي بصفة عامة". ينقسم كتاب "الكتابة على الجدران"، الذي يقع في 462 صفحة من الحجم المتوسط، إلى أربعة أبواب إلى جانب مقدمة وخاتمة، يحدد في الباب الأول الشخصيات المفهومية، يتناول فيها عبر ثلاثة فصول: الغرافيتيا في سياق الأنا والغير، والمؤسسة والهامش كمفهومين، ومدخل لتعريف الغرافيتيا، وفي الباب الثاني يتناول الغرافيتيا أو الكتابة باليد أو العين، من خلال أربعة فصول: الغرافيتيا ملتقى الأبصار، والغرافيتيا والثقافة، والغرافيتيا والكتابة، والغرافيتيا والمحو. ويتناول في الباب الثالث استراتيجية الخطاب والتواصل عبر أربعة فصول، يتطرق فيها للخطاب والمرسلون، والغرافيتيا والتلقي، والغرافيتيا والاتصال، وجمالية الغرافيتيا. أما الباب الرابع فخصصه الكاتب للقراءة والتأويل، وتناول فيها الهوية والثقافة، والايدولوجيا الجنسية، والمؤسسة والهامش كموضوعتين. وعبر هذه الأبواب يقارب الباحث السوسيولوجي أحمد شراك ظاهرة الكتابة على الجدران المدرسية أو الغرافيتيا كخطاب متعدد الوسائل والحاملات والأشكال، ويتأمل في ثلاث لحظات أساسية، تتواصل فيما بينها: لحظة نظرية ابستيمولوجية، ركز من خلالها على الجانب المفاهيمي والإشكاليات، حيث تمثل تعريف الغرافيتيا وتصنيفها وتجنيسها ورصدها تاريخيا وجغرافيا. كما أطر بحثه إشكاليا ضمن مفهومين أساسين هما مفهوم المؤسسة ومفهوم الهامش، وتحديد العلاقة الممكنة بينهما على صعيد الغرافيتيا، انطلاقا من أطروحة مركزية هي الهامش المؤسسي خلافا للهامش الهامشي. اللحظة الثانية لحظة وصفية تشخيصية ركز فيها على توظيف عناصر التواصل عند جاكبسون من أجل تحديد أهم معالم الوظيفة التواصلية لهذا الخطاب والإشكالات المرافقة لها. أما اللحظة الثالثة فهي لحظة تحليلية وتأويلية حاول الباحث أن يرصد من خلالها ويحلل أهم التيمات والموضوعات، التي تتناولها الغرافيتيا المدرسية، من خلال إعطاء أسبقية للسؤال الميداني ومجتمع دراسة يتكون من 24 ثانوية بمدينة فاس، روعيت في اختيارها معايير متعدد كالمعيار الثقافي والتعليمي، حيث شمل التعليم العمومي والعصري، والتعليم الخاص والتعليم الأصيل، والتعليم التقني والتعليم الفرنسي "البعثة الفرنسية"، عبر مختلف مناطق وفضاءات مدينة فاس، من أجل إنتاج أو جمع متن مباشر يتكون من 502 وحدة "غرافيتيا". ويخلص الباحث السوسيولوجي أحمد شراك في كتابه إلى كون "الغرافيتيا خطاب مكتوب يتخذ صبغة المناولة والمتابعة اليومية للإنسان ككائن رامز، يشكل فيه البعد الرمزي ملمحا أساسيا على الصعيد الأنطولوجي للإنسان "كوجود دال وفعلي" في أبعاده الثقافية والنفسية والاجتماعية. خطاب لا يمكن تجاهله أو تجاوزه بغض الطرف، أو ممارسة خطاب تيولوجي من أجل دحضه وتسفيهه وتتفيهه، إنه خطاب ينم عن نبض تلقائي وحقيقي للإنسان ككائن اجتماعي". كتاب "الكتابة على الجدران المدرسية" يمثل الإصدار الحادي عشر في بيبلوغرافيا الكاتب والباحث أحمد شراك، بعد "الخطاب النسائي في المغرب- نموذج فاطمة المرنيسي" 1990، و"السوسيولوجيا المغربية بيبليوغرافيا" بالاشتراك مع عبدالفتاح الزين، 1996، و"الثقافة والسياسة" 2000، و"مسالك القراءة: مدخل إلى سوسيولوجيا الكتابة والنشر" 2001 ، و"سوسيلوجيا التراكم الثقافي" 2004، و"فسحة المثقف" 2006، و"الثقافة وجواراتها" 2008.