أحمد التبايك إن النقاش الصحي الدائر حاليا بين كافة أطياف المجتمع المغربي، حول شكل وطريقة تدبير الموسم الدراسي القادم، ليعد مناسبة فريدة لبسط وتشارك مختلف الآراء والتصورات، المتعلقة بتصريف كافة المحطات والمواعيد التربوية وكذا مجموع العمليات التعليمية-التعلمية، في ظرفية جد عصيبة تتسم بتقلبات فجائية ومستمرة، سواء على المستوى الصحي، الاقتصادي والتربوي. من أجل كل هذا، نرى أن أي سلوك تدبيري للمرحلة، يجب أن ينبني لزوما على محددات منطقية ومنهجية علمية دقيقة، وكذا بروتوكولات واقعية، بعيدا عن أي حسابات ضيقة أو انحيازات عاطفية. ومنه، فإن أي تحليل أو مقترح لا يتوجب أن يخرج عن إطار هذا التعاقد البيداغوجي، أخذا بعين الاعتبار لمدخلين أساسيين، مدخل ديدكتيكو-تربوي ومدخل تدبيري تشاركي. كذلك، فقبل الخوض في أية مقاربة، يتعين علينا أن نتقيد بمجموعة من الضوابط المنهجية، لضبط وحصر كافة الاختيارات المطروحة، وكذا وضعها في ميزان علمي دقيق، يقيم حجية كل طرح بموضوعية، لكي نتمكن في الأخير من فرز أفضل وأنسب المخرجات، التي تحفظ بالضرورة كافة الحقوق المكفولة دستوريا، ونعني هنا بالتحديد والشمولية: الحق في الحياة، في التعليم وفي تكافؤ الفرص. وأخذا بكافة هذه الاعتبارات، نرى أنه قد يكون من المفيد لنا هنا جميعا، قبل الخوض في الموضوع، الاستئناس ببعض التجارب الدولية في تدبير وإنجاح الدخول المدرسي المقبل: هكذا، نجد أنه في الجارة إسبانيا، لا وجود لتاريخ محدد لدخول مدرسي موحد على المستوى الوطني، إذ إن كل جهة من الجهات السبع عشرة (17) تتمتع باستقلالية تربوية جهوية. ففي الوقت الذي اقتصرت فيه السلطات المركزية على التذكير بإتباع التدابير الوقائية المعروفة عالميا، تعالت بعض الأصوات الرافضة لوجود عدة مواعيد مدرسية في البلاد. أما على أرض الواقع، فمن بين السيناريوهات التي أقرتها سلطات إقليممدريد، التعليم عن بعد والتعليم نصف-حضوري، من جهتها تقترح سلطات مقاطعة لاروخا، صيغة للتعليم الإلكتروني مع إمكانية السماح للأطفال فوق 14 سنة بالحضور للمدارس خلال فترات متقطعة. إيطاليا هي الأخرى، لا تزال تجد صعوبات بالغة في توفير 20000 قاعة إضافية لحوالي 400000 متعلم(ة)، مما يوحي بضبابية حول إمكانية وشكل الدخول المدرسي القادم. أما في بلجيكا، فقد اقترحت السلطات أن يتم ارتياد المدارس الثانوية كل أسبوعين فقط في حالة تطور الوضعية الوبائية، علما أنه في حالة وقوع هذه الأخيرة، فإن السلطات ستتخذ إجراءات أكثر تقييدا. وفي ألمانيا، تعول السلطات على إمكانيات الدولة والولايات الفيدرالية، في توفير وسائل الحماية بوفرة للمتعلمين، وإنجاز تحاليل مكثفة ومستمرة، مع التقيد بتعليمات الوقاية، التي تبقى في نظر العديد من الفاعلين التربويين الجرمانيين، غير كافية بل متضاربة. من جهتها، قررت فرنسا مبدئيا أن تفتح المدارس أبوابها، باستثناء الجهات المصنفة "نشطة فيروسيا" التي ستظل فيها المؤسسات التعليمية مغلقة، كما هو الحال في باريس ومارسيليا. وفي أقصى الغرب، وتحديدا في الولاياتالمتحدةالأمريكية، وبغض النظر عن التجاذبات السياسية المرتبطة بالاستحقاقات الانتخابية المقبلة، فالتقرير في الدخول المدرسي وطبيعة تمدرس المتعلمين تبقى موكولة للمجالس التعليمية (School board) والمشرف الخبير (Superentendent)، علما أن بعض المدارس تراجعت عن التعليم الحضوري، بعد ظهور حالات عدوى، كما حصل مؤخرا في بعض مناطق ولاية جورجيا (Georgia). في حين ترى السلطات التركية ضرورة تأخير الدخول المدرسي ثلاثة أسابيع أخرى، ريثما يتضح منحى تطور الوضعية الوبائية، شأنها في ذلك شأن الجارة الجزائر التي قررت بدورها إزاحة موعد انطلاقة الموسم الدراسي إلى شهر أكتوبر، كما أمرت مؤخرا كوريا الجنوبية بإغلاق المدارس بعيد فتحها بعد أن سجلت البلاد 280 إصابة جديدة. وعموما، تبقى لكل دولة خصوصيتها في التعامل مع هذه الوضعية العالمية الطارئة، والمغرب بدوره لا يختلف كثيرا عن تبني طرح هذه الدول، فبين التأجيل، التناوب والتعليم الرقمي، تبرز لنا عدة سيناريوهات يمكن تطويعها لخدمة المصلحة الفضلى لكل المتدخلين التربويين المعنيين بالمغرب. مبدئيا، فكجرد لمختلف الحلول والمقترحات المتوفرة آنيا نجد: التعليم الحضوري، التعليم عن بعد، التعليم بالتناوب والتأجيل، علما أن خيار السنة البيضاء، يظل ذا فاتورة مجتمعية جد مكلفة، وبالتالي يبقى خارج دائرة المقترحات. هكذا، فبالرغم من أن خيار التعليم الحضوري يظل بالتأكيد، أفضل وأنجع السبل لضمان استمرارية التدفق المعرفي والتفاعلي بين كافة عناصر المثلث البيداغوجي (المتعلم-المعرفة-الأستاذ)، إلا أنه ينطوي على نسب عالية من الخطر، المتمثلة في احتمالية الإصابة بالعدوى، وبالتالي تفريخ بؤر وبائية خارجة عن السيطرة، إذا استحضرنا استحالة منع المتعلمين من الاختلاط، إن داخل فضاء المؤسسات التعليمية أو خارج أسوارها؛ أما بالنسبة لخيار التعليم عن بعد، فالعامل اللوجستيكي والتكويني يظلان العائقين الأكبرين في تطبيقه وحسن تنزيله، إذ لا يمكن مثلا مطالبة الأطر التربوية والأسر بتحمل نفقات الاشتغال بهذا النمط تطوعيا وبوسائلهم وإمكانياتهم الخاصة، لأنها كما نعلم، تضررت اقتصاديا أيما تضرر، نتيجة للركود والانكماش الاقتصادي الحالي. وكمحاولة منا لتقديم تصور متقدم قابل للتنفيذ، يراعي أولا وقبل كل شيء، الحق في الحياة وفي التعليم وفي تكافؤ الفرص لجميع المتدخلين، ويأخذ بعين الاعتبار في نفس الآن، عاملي الزمن والإمكانيات المتوفرة لدى الدولة ولدى مؤسسات التعليم الخصوصي، من بنيات تحتية، موارد بشرية وسيولة مالية، نقترح خطة من ثلاثة مراحل زمنية، تمزج بين كافة المعطيات، الخلاصات والتجارب السابقة، المحلية منها والدولية، وذلك على الشكل التالي: اعتماد ظرفي مؤقت لصيغة التعليم عن بعد، في المرحلة الممتدة من 7 شتنبر إلى 3 أكتوبر(شهر واحد)، وهي المدة الزمنية التي خصها المقرر الوزاري بعملية التقويم التشخيصي، بحيث: من الجانب اللوجستيكي يتم الاسراع بتحويل الاعتمادات المالية المخصصة للمبادرة الملكية مليون محفظة، والمبالغ المخصصة لدعم جمعية مدرسة النجاح، وبعض الهبات الدولية لدعم تمدرس أطفال العالم القروي بالإضافة لمساهمات الجماعات المحلية، من أجل اقتناء لوحات إلكترونية ذات جودة مقبولة، معفية من كافة الضرائب الجمركية، لفائدة ثمانية ملايين متعلمة ومتعلم، وذلك على دفعتين، دفعة أولى موجهة للأسر التي فقدت عملها نتيجة الجائحة، أو في وضعية هشاشة، مع إقرار التمييز الإيجابي لأسر العالم القروي، ودفعة ثانية تخصص لباقي الأسر. أما من الجانب البيداغوجي، فالتقويم التشخيصي ودعم التعلمات السابقة، سيستهدف بالأساس الكفايات الرئيسية للمستويات السابقة، مع التركيز على مادة الرياضيات ومكوني القراءة والكتابة: فعلى مستوى مكون القراءة مثلا، يمكن اللجوء لطريقة فوكمبير (La méthode idéovisuelle) مع قراءة نموذجية للأستاذ (Lecture magistrale)، وعلى مستوى الكتابة والأنشطة اللغوية، يتم استثمار نفس النصوص المقروءة سالفا، للتذكير بالقواعد الإملائية، الصرفية والتركيبية بالأساس، عن طريق تسجيلات صوتية موحدة للأستاذ، موجهة بشكل جماعي حسب النموذج الإلقائي (Le modèle transmissif)، في سبيل التغلب على الإكراه العددي للمتعلمين، ونشير إلى أن هذا النموذج التعليمي ليس متجاوزا كليا، بل يمكن اللجوء إليه اضطراريا كما في حالة التعليم الجماعي (L'enseignement de masse)، أما مادة الرياضيات بكل مكوناتها: الاعداد والحساب، الهندسة، القياس، البيانات وحل المسائل، فستقتصر على مبدأ المحسوس فقط، لأن التقويم التشخيصي يبقى غير معني مبدئيا بأنشطة البناء والمأسسة، التي تمكن المتعلم من تجريد المفهوم، وبالتالي فتقديم الأنشطة الرياضية في هذه الفترة، سيكون ذا صبغة توجيهية وغير مناولاتية، باعتماد وضعيات مصورة ومكررة لحل المشكلات، تقتصر على الانجاز الفردي (مرحلة الفعل) والتقديم الجماعي للأجوبة (مرحلة التصحيح)، ولا تعنى بالمراحل الأخرى كالصياغة والتداول … بعد انقضاء جميع العمليات المرتبطة بمرحلة التقويم التشخيصي، وفي حالة عدم استقرار الوضعية الوبائية، يمكننا الانتقال للمرحلة الثانية بصيغة تناوبية، وذلك من 05 أكتوبر إلى غاية 23 يناير 2021، أي ما يعادل 10 أسابيع تربوية صافية خارج العطل الرسمية. هنا لا بد من التذكير إلى أن هذا النوع من التعليم، معمول به في المغرب منذ مدة ليست باليسيرة، نتكلم عن La formation professionnelle alternée (FPA)، أو حتى على مستوى الجامعة، بتخصيص نسبة 25% من زمن التعلمات لأنشطة ووضعيات بيداغوجية ممهنةSituations pédagogiques professionnalisantes. ويتم تنزيل هذه الصيغة كما يلي: تخصص نصف المدة القانونية الموكلة لكل أستاذ(ة) للتعليم الحضوري لفائدة الفوج الأول ولمدة أسبوع، ونصف المدة المتبقية على شكل أنشطة عن بعد موجهة لكافة المتعلمين (الفوج الأول والفوج الثاني)، على أن يتناوب الفوجان مع بداية كل أسبوع تربوي، على حصص صفية تخصص للشرح المركز فقط، تستهدف المواد والمكونات الأساسية، وتراعى في ذلك وضعية المدارس الجماعاتية والمدارس الداخلية، علما أن الزمن المدرسي العام سيتقلص في هذه الحالة إلى 25%، يتم تعويضها بواسطة التعليم التلفزي، والذي يتوجب أن يحترم إيقاعات التعلم المعدلة في هذه الصيغة، المقسمة إلى ثلاثة أقطاب: قطب الرياضيات، قطب اللغات، وقطب التربية الوطنية (هذه الأخيرة، التي من ضمن ما ستعنى به، تأطير وتحسيس وتوعية المتعلمين، بالظروف الحالية التي تمر منها بلادنا). على أن يتم تقويم المتعلمين حضوريا وبالتفويج، في نهاية كل أربعة أسابيع، بتخصيص الأسبوعين الخامس والعاشر للتقويم الحضوري. مع الاستغناء عن الامتحانات المحلية للمستويات الإشهادية، والتي طالما كانت مطلبا للعديد من الفاعلين التربويين، دونما إغفال إلغاء فترات الاستراحة، مع توفير مستلزمات التعقيم وتشوير الفضاء المدرسي، لتهيئة ظروف التباعد الاجتماعي والفيزيائي، بين المتعلمين أثناء ولوجهم وخروجهم من المؤسسات التعليمية. وكمرحلة أخيرة، يتم الشروع في التحضير لها قبليا خلال عطلة منتصف السنة، أي من 24 يناير إلى 31 منه، يتم تحديد كيفية إكمال السنة الدراسية، بناء على إمكانية الاستفادة من اللقاح في حال توفره، وكذا المعايير الإحصائية المعمول بها لدى وزارة الصحة والتي تشمل: معايير التردد (Les mesures de fréquence)، معايير الارتباط (Les mesures d'association) ومعايير التأثير (Les mesures d'impact)، بحيث يتم اختيار الانماط التدريسية، بناء على مؤشرات المعايير الاحصائية السابقة كما يلي: * خطر مرتفع: استكمال ما تبقى من السنة الدراسية بصيغة التعليم عن بعد، مع الاستفادة من تجربة تنظيم امتحانات البكالوريا للسنة الفارطة، في تدبير جميع الامتحانات الاشهادية، وتحيين مجموع الأطر المرجعية المتعلقة بها، بما فيها الامتحان الجهوي للسنة المنقضية، الخاص بمستوى الثانية بكالوريا. * استقرار الحالة الوبائية: تجويد التعليم بالتناوب، خصوصا عن طريق الاستمرار في اغناء العرض التربوي الرقمي، الذي ينبني على رافعتين: الرافعة الأولى متعلقة بالجسم الأستاذي، بحيث يتم صرف تعويضات جزافية، عن المبادرات التطوعية والاجتهادات الفردية، المتمثلة في استعمال الوسائل الشخصية من حواسب وهواتف ذكية، وتعبئات هاتفية لتسيير التعليم عن بعد، وذلك في حالة تعذر توفير هذه المستلزمات بطريقة مباشرة للأطر التربوية؛ ورافعة ثانية أسرية، تتمثل في تعاقد متجدد، يربط الاستفادة من دعم تيسير بالنسبة للتعليم العمومي، ومن تخفيض شهري تضامني، ملائم لجميع الأطراف، وفي حدود الممكن بالنسبة للتعليم الخصوصي، (يربط هذه العناصر) بتحفيز الأسر في حث أبنائها، على الانخراط باستمرار، في العمليات المرتبطة بالتعليم عن بعد. * التحكم في الوباء: اعتماد التعليم الحضوري، مع ضرورة العمل على اختزال ملمح الخروج، في كل مكون ومادة، بطريقة شاملة تسري على كافة المتعلمين على المستوى الوطني. إن المقترحات التي قمنا ببسطها سابقا، لا يمكن اعتبارها، في أي حال من الأحوال، أنموذجا معياريا يمكن إسقاطه على جميع الأسلاك، فلكل سلك تعليمي خصوصياته الفريدة، التي يتوجب معها إشراك ذوي الاختصاص الممارسين، لتجويديه وتحسينه أو حتى تعديله. فإن كان بالإمكان تنزيل جزء هام من مقترحنا، لنقل على متعلمي المستوى السادس من التعليم الابتدائي مثلا، فسيكون لزاما علينا من جهة أخرى، إعادة النظر في طريقة اعتماده، بالنسبة لمتعلمي المستوى الأول، غير المستفيدين من سنتي التعليم الأولي، لعدة اعتبارات كضرورة المواكبة والرقابة الأبوية، بالإضافة إلى وجوب ترسيم تشريع قانوني صارم، يحمي المتعلم والأستاذ، من أي استغلال للتقنيات الرقمية المستخدمة في التعليم عن بعد، لأي أغراض أو استخدامات أخرى وخارجة عن القانون، مع توفير حماية قانونية للمعطيات الشخصية للأستاذ والمتعلم على حد سواء، من كل أنواع الاستغلال والتشهير، واستعمالها في الابتزاز والنصب والاحتيال، وكذا إقرار عقوبات زجرية وتعويضات مادية للضحايا في حالة حدوثها. هكذا نكون في نظرنا، قد قدمنا مشروع دخول مدرسي، يراعي المنطلقات التي حددناها في مطلع هذا المقال، والتي كما أشرنا، يجب أن تبنى على أفكار وسناريوهات، تراعي المنهجية العلمية إضافة إلى البرتوكولات المرتبطة بها القابلة للتنزيل، باعتبار مدخلين اثنين، مدخل ديدكتيكو-تربوي ومدخل تدبيري تشاركي، بما يضمن الحق في الحياة، في التعليم وفي تكافؤ الفرص لجميع بناتنا وأبنائنا. باحث في سلك الدكتوراه تخصص البيداغوجيا والديدكتيك جامعة محمد الخامس بالرباط