كما أشرنا سابقا، فإن الفقه الإسلامي، لم يولِ جانب السياسة الشرعية ما تستحقه، لسببين رئيسين: الأول، لأن إدراك أبعاد هذا الفقه يتطلب جمعا بين علمي الظاهر والباطن، في أعلى الدرجات، وهذا فوق طور الفقهاء؛ والثاني، لأن هذا الفقه لا يمكن أن يُعتنى به تحت الجبر والقهر؛ لأنه يشترِط حرية الرأي. ومبدأ الحرية بالمعنى الكفري، الذي يُتداعى إليه اليوم، لا يفي بالغرض؛ لأنه يعطي ما توصّل إليه الفكر السياسي العالمي من ديموقراطية بجميع نُسخها...؛ أما الدين، فهو نظام قائم على العبودية لله، التي قد تتحول إلى عبودية (ولو بمعنى جزئي) لبعض العِباد عند الإخلال بالشروط على أيدي الفقهاء؛ فيصير الدين لغير الله، بعد أن كان لله. نعني من هذا، أن العبودية لله الحق، هي الحرية المشروطة حقيقة؛ لكن هذه الحرية، لا توجد حيث الفقهاء في الغالب. والزمن الذي يمكن أن ينمو فيه الفقه السياسي الصحيح، هو زمن الخلافة الربانية؛ وهذه، زمانها متقطع غير متتابع على مدى عمر الأمة؛ اللهم إلا ما كان من السنوات الثلاثين التي أخبر عنها النبي صلى الله عليه وآله وسلم، والتي هي مدة الخلافة الأولى. فقد جاء عنه صلى الله عليه وآله وسلم: «الْخِلافَةُ بَعْدِي ثَلاثُونَ سَنَةً، ثُمَّ تَكُونُ مُلْكًا»[1]. ولقد التبس هذا المعنى على كثير من الناس، وظنوا أن الخلافة كلها ثلاثون سنة؛ وهو غلط فادح! وهذا قادهم إلى اعتقاد الخلفاء الخمسة الأُول وحدهم، وحصر الخلافة فيهم؛ وهو أيضا غلط!..
وحتى لو فرضنا وجود هذا الفرع من الفقه، فإنه سيصعب العمل به في الأزمنة التي تفترق فيها الخلافتان، ويكون الناس فيها تحت الملك، لا تحت الخلافة. وهذا أَدْعى أن لا يُعلم هذا العلم للعموم، ما دامت مدة الملك في الأمة أكبر من مدة الخلافة الجامعة بما لا يقارن. فها هي الأمة الآن قد تجاوزت الألف سنة وأربعمائة سنة، من عمرها؛ وعُمر زمن "الخلافة الجامعة" المتفرق على مدى عمر الأمة كله، لا يتجاوز المائة سنة. عَلِم الناس "بالنص" ثلثه، ويبقى الثلثان منه في دائرة الجهل. وهذا مما لم يتنبه إليه الفقهاء البتة.
وهذا قد يجعل المرء يتساءل: فهل يكون نظام الحكم الأصلي في الإسلام هو المُلك؟.. فنقول: لا، قطعا!.. إن نظام الحكم في الإسلام هو الخلافة؛ لكن الخلافة لها حكمان: الاجتماع، والافتراق. وهي في حال الافتراق، تُعرف بالملك؛ لكنها لا تشبه الملك عند غير هذه الأمة، بسبب كون الخليفة الباطن زمن المُلك، يكون من هذه الأمة أيضا. فبالنظر إلى الأمة، فإن الخلافة قائمة في كل زمان؛ وبالنظر إلى الحاكم، فتارة يكون خليفة (حال الاجتماع)، وتارة يكون مَلِكا (حال الافتراق). أما الأمم الأخرى، فلا تعرف إلا نظام المُلك الجزئي، في جميع الأحوال؛ بغض النظر عن الاختلاف النوعي عندهم، بين نظام الملك والنظام الرئاسي (الرئاسة مُلك بالمعنى الشرعي). فمن جهة الشرع، لا اختلاف بينهما، عندهم وعند من يقلّدهم منا، في زمن الدول القطرية. وقد أوضحنا هذا، في غير هذه السلسلة.
ثم إن الفقهاء من أهل السنة لم يحوزوا علم الخلافة، فهي عندهم الإمامة (=رئاسة الدولة)؛ وهي عامة، ينسبونها للنبي، وينسبونها لكل حاكم[2] (إمام)، جاء بعده صلى الله عليه وآله وسلم؛ سواء أكان خليفة أم ملكا؛ لأنهم لا يميّزون بين الملِك والخليفة على التحقيق. وحتى الخلافة الأولى، فإنهم ما ميّزوها إلا بالحديث الوارد فيها، والحاصر لها من حيث الزمن. ولعل من أسباب التنافر بين الشيعة وأهل السنة، استعمال مصطلح الإمامة، بمعنييْن مختلفيْن؛ وهذا قد أوجد تزاحما بينهم. بينما الأمر ليس كذلك في حقيقته.
ولو أخبرْنا فقهاء أهل السنة بخلافة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لأنكروها؛ لأن الخلافة عندهم هي خلافة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وهذا معنى صحيح؛ لكنه معنى فرعي، لا ينفي خلافة النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الله. وفي الحقيقة هذه هي الخلافة، سواء أنُسبت إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أم نسبت لخليفة بعده. لذلك فنحن نجعل مرتبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم العامة هي الخلافة، لا الإمامة؛ وإن كانت الإمامة تصدق لغة على معنى الخلافة، وتصح بالمعاني الجزئية كالإمامة في الصلاة وفي غيرها أيضا...
ثم إننا عندما استقرينا كلام الفقهاء، وجدناه يشتمل على جهل بمرتبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الأمة. نعني أنهم عندما يتكلمون عن تصرفات (أفعال) النبي صلى الله عليه وآله وسلم، المتعلقة بوظائفه في الأمة، والتي هي الفتيا والتبليغ والحكم (القضاء) والإمامة (رئاسة الدولة)؛ فإنهم يقيسونها على ما يعلمونه من أمثالهم في الناس. وهذا يشبه قياس المتكلمين لصفات الحق، على صفات المخلوقين. وهو معتبر؛ لكن في مقام الحجاب؛ وهو مفضول من غير شك. والحق عندنا في هذه المسائل (أفعال النبي)، هو علمها في نفسها، ثم قياس الغير عليها، لا العكس. ولقد رأينا للقرافي كلاما في كتابه: "الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام وتصرفات القاضي والإمام"، يمكن أن يكون مبادئ أولية في المسألة، لكنه لا يرقى لأن يكون العلم التام الصحيح؛ رغم بناء فقهاء العصر عليه.
ومن آثار سوء إدراك الفقهاء لمرتبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم (خلافته)، أنهم يفصلون بين نبوته وقضائه وإمامته وفتياه عليه الصلاة والسلام؛ بينما الحقيقة التي لا يميّزونها، هي أنه نبي صلى الله عليه وآله وسلم في كل ذلك. وهذا دخَل عليهم، لأن الأصل عندهم في الاستدلال، سوى النبي صلى الله عليه وآله من الناس؛ وهؤلاء لا يمكن أن يكونوا أنبياء في أفعالهم (الفتيا والإمامة والقضاء)، حتى يعطيهم قياسهم عليهم علما صحيحا. وهذا القياس المعكوس، لا يمكن أن يفارقوه، لأن مرتبتهم لا تعطي علمهم بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم من مرتبة الخلافة الإلهية؛ فهذه للربانيين لا لهم.
وفي الحقيقة، إن جل وجوه تصرفات النبي صلى الله عليه وآله وسلم، التي يعلمها الفقهاء، هي عائدة إلى مرتبة واحدة، هي الرسالة؛ وإنما تعددت لدى الفقهاء، لجهلهم بسواها. ونعني بسواها هنا، مرتبة النبوة التي هي باطن الرسالة؛ ومرتبة الولاية التي هي باطن النبوة. وخلافة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، التي ذكرناها آنفا، هي من مرتبة الولاية؛ لهذا هي مجهولة عند غير الأولياء. ومن هنا يتضح أن اصطلاح الإمامة الفقهي، يصدق على معنى جزئي من الخلافة، لا غير؛ وهو ظاهرها. وتبقى نبوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قريبة من إيمان الفقهاء، لا من علمهم أو علم غيرهم. ذلك لأن النبوة كما هي مجهولة عندهم من جهة الذوق، هي مجهولة أيضا عند الأولياء من هذا الوجه. فما أجلّ قدر الأنبياء عليهم السلام!..
نعني من هذا الكلام كله، أن مَن جهل حقيقة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، كيف سيُدرك حقيقة أفعاله! وكيف سيعلم الأحكام المستندة إليها حقيقة؟!.. وهذا يؤكد مرة أخرى أن الاقتداء بالفقهاء، هو كالرخصة للمقتدي، عند فقد الإمام الرباني فحسب؛ لأن علمهم بالدين، الذي هو فرع عن علمهم بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، من كونه محورا له، ناقص. بل هو لا يجاوز في الحقيقة مرتبة الظن وإن قَوِي؛ ولا يصح أن يُعدّ علما عند التحقيق. هذا رغم جهلهم بحقيقة أنفسهم (مرتبتهم)، وظنِّ بعضهم أن لا أحد أعلم منهم!..
كل هذا عند كلامنا عن الفقهاء المعتبرين؛ أما فقهاء العصر الذين أنشأوا الأيديولوجيات السياسية، التي اعتمدتها الحركات الإسلامية على مد البلاد الإسلامية كلها، فإنهم قد نزلوا عن مرتبة الأولين، ودخلوا في خلط يضم بقايا علم ديني، وفكر سياسي، وهوى شخصي أو جماعي؛ زاد من اشتداد الفتنة، وقوّى الصراعات الداخلية في الأمة، إلى حد لا مزيد عليه؛ نرجو أن يكون مؤْذنا بمقرب الفرج الموعود إن شاء الله... ________________________
[1] . أخرجه أحمد في مسنده، وابن حبان، واللفظ له؛ عن سفينة رضي الله عنه. [2] . الحاكم عند الفقهاء، هو القاضي؛ ونحن نستخدم اللفظ بمعناه العام.
يُنشر هذا المقال (من سلسلة سلطة الفقهاء وأثرها على الشعوب) بعد مرور 557 يوم، من الاعتصام المفتوح للشيخ وأسرته؛ بسبب اضطهاد الحكومة وأجهزتها الذي ما زال مستمرا إلى الآن.