الفقه في اللغة هو صحيح الفهم والإدراك للشيء؛ ومنه دعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم لعبد الله بن عباس رضي الله عنهما بقوله: «اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ فِي الدِّينِ »[1]. وبهذا المعنى يكون كل مَن علم مِن الدين شيئا، فقيها؛ على قدر ما علم. وفي هذا المعنى العام للفقه، يدخل كل علم من علوم الدين، مما هو معروف بكونه علما، ومما هو غير ذلك. فيدخل في معنى الفقه، فقهُ الأحكام والمواريث والتفسير وعلم الحديث والسيرة وفقه السلوك (التزكية)، وعلم أحوال القلوب (التصوف)، وعلم الحقائق الذي هو أعلى صنف من العلوم. وأما الفقه بالمعنى الاصطلاحي، فهو مقصور على العلم بأحكام الحلال والحرام. وهذا العلم هو المقصود بقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «إِنَّ الْحَلَالَ بَيِّنٌ وَإِنَّ الْحَرَامَ بَيِّنٌ؛ وَبَيْنَهُمَا مُشْتَبِهَاتٌ لَا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاس؛ فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ؛ وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ؛ كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَرْتَعَ فِيهِ. أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، أَلَا وَإِنَّ حِمَى اللَّهِ مَحَارِمُهُ..»[2]. ولا يخفى ما لفقه الأحكام من أهمية بالنظر إلى الفرد وإلى الجماعة والأمة جميعا. وهذا الفقه هو نظير القانون المعروف اليوم، لو أنه كان مواكبا دائما للمستجدات، سادّاً لكل الفراغات. غير أن ما وقع للأمة، هو أن الفقهاء بالمعنى الاصطلاحي، ما لبثوا أن احتازوا -بحق أو بغيره- كل المجالات العلمية الأخرى، إما كليا وإما جزئيا؛ حتى عاد الفقيه مرجعا -بقصد أو بغيره- في جميع العلوم الدينية؛ من دون أن يأبى هو ذلك دائما، أو يعيد فيه الحق إلى ذويه. بل إن الفقهاء، جاروا على علوم مستقلة بنفسها كالتصوف، فأنكروها من الأصل، مع كونها لا غنى عنها. وإن هذا الفعل منهم، قد أسس منذ القرون الأولى للغفلة العامة، التي ستخرج بها الأمة في غالبيتها عن الجادة بدرجات متفاوتة، مع المحافظة على صورة التدين في الظاهر. ولا بد هنا أن نؤكد على أن الفقه له شقان من المنطلَق، هما: الظاهر، وهو ما تعلق بالأبدان؛ والباطن، وهو ما يتعلق بالقلوب. والأحكام التي ذكرها الحديث السالف، من حلال وحرام ومتشابهات، هي أحكام شاملة للظاهر والباطن معا. وكلام الفقهاء فيها من جهة الظاهر وحده، هو إخلال بالمعنى العام، الذي كان يجدر بهم إيكاله إلى أهله، إذ لم يحيطوا به. وقد زاد من بلوى الفقهاء، ظن العامة أن الفقيه عليم بكل شيء له صلة بالدين. ومع استمراء الفقهاء لِما يجدون من تعظيم في قلوب العامة (وهو مرض قلبي لديهم)، صاروا يتكلمون في كل شيء، فكثرت سقطاتهم إلى أن عادت فضائح يُتندّر بها. ومع أن الله قد أذن للفقهاء بالاستنباط، في قوله تعالى: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83]، إلا أنهم قد تجاوزوا في كثير من الأحيان الحد؛ فقعّدوا من الكليات ما لم يكن ضروريا؛ وفرّعوا من المسائل ما كان افتراضا بعيد التحقق. وقالوا مرات في الأمور بجهل، جعل الفقه يعكس التخلف الذي تعيشه مجتمعاتهم على جميع الأصعدة. ولسنا هنا بصدد التفصيل، حتى نأتي بالأمثلة على كل ضرب من الأضرب المذكورة؛ وإنما نريد أن نخلص إلى أن الفقه لم يكن دائما معينا للفرد وللجماعة على ما يقوم به تديّنهما. بل على العكس من ذلك، صار الفقه شيئا فشيئا يثقل كاهل المسلمين، إلى أن عاد محصورا في أضيق دائرة اليوم. ومع هذا الانحسار المخالف لما ينبغي أن يكون الأمر عليه، فإنه ما زال يُطلب تعلّمه، كما تُتعلم الحرف التقليدية في زمن التقانة العالية، كي يُعرضا معا (الفقه والحرفة التقليدية) في المتاحف عرضا يعجب التراثيين من الناس. ولما نسي الفقهاء أن الأصل في الأمر القلب، كما جاء في تكملة الحديث السابق: «أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ؛ أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ.»[3]، صار فقههم قشريا، ما لبث أن قُصِر على الدنيا وما يوصل إليها. وهنا انقلب الدين رأسا على عقب!.. بلغ الأمر بنا اليوم إلى أن أصبح الفقه يُتعلم من أجل الدنيا، وأصبحت الدرجات العلمية فيه تُطلب للترقي في الوظائف؛ وهو ما جعل الفقه حرفة من جملة الحرف، كما سبق أن ذكرنا. لا يُمكن أن يزعم زاعم أن الفقيه في هذه الحال، يبقى له أدنى اتصال بالدين، كما هو في أصله، باعتباره طريقا إلى الآخرة وإلى تحقيق القرب. ولا يكفي الإبقاء على الاسم، لضمان بقاء المسمى دائما؛ بل فيما يخص الفقه، فإن الاسم قد ذهب بعيدا عن المسمى؛ إلى أن عاد الدين عُسرا، بعد أن كان يُسرا. وإنْ وقع التقصير فيما يخص شقّ الحلال والحرام البيّنين، فما الظن بشق المشتبهات التي لا يعلمها إلا قليل من الناس!.. وعلى الرغم من وجود فقهاء من هذا الطراز العالي في كل زمن، إلا أن السؤال يبقى هو: كيف سيُعاملهم عوام الفقهاء؟.. ثم العامة من الناس من بعدهم؟.. وإذا غاب فقه كبار الفقهاء عن التداول، فكيف سيكون حال الأمة مع تطور مظاهر العيش وتشعب المعاملات؟.. لقد اشتهر بالفتيا من الصحابة رضي الله عنهم عمر، وعلي، وابن مسعود، وزيد، وأُبَيُّ بن كعب، وأبو موسى الأشعري؛ لكن هذا لا يعني أن غيرهم لم يكونوا على فقه، كحال الناس اليوم مع فقهائهم. ذلك لأن فقه الصحابة كان نتيجة لإيمانهم وأعمالهم الصالحة؛ نعني أنه كان نورا لا رأيا عقليا. وكثير من هذا الفقه كان كشفا يتلقاه الصحابي بدليله من القرآن أو من كلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم. ولم يشتغل الصحابة في زمنهم بالاستنباط، ولا فرّعوا مثلما فعل الذين جاءوا من بعدهم. لا لأنهم كانوا يقصُرون عن ذلك؛ وإنما لأنهم كانوا في غنى عنه. وليس غناهم عائدا إلى بساطة معيشتهم وقلة دنياهم وحدها كما قد يُظن؛ وإنما لأنهم كانوا على تديّن في الظاهر، لا يتجاوز الضروري منه؛ لينصرفوا إلى ما هو داخل في فقه الباطن والقلوب، مما يقربهم من ربهم. وهذا يأخذ من المشتغل به، جل وقته؛ لأنه تفقه بالحال، لا بالمقال. وخَلَف الصحابةَ فقهاءُ التابعين، الذين كانوا على رعاية بواطنهم ماضين؛ منهم سعيد بن المسيّب، وعروة بن الزبير، والقاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، وعبيد الله بن عتبة بن مسعود، وخارجة بن زيد بن ثابت، وسليمان بن يسار.. وفقه التابعين عموما أقل من فقه الصحابة، بسبب البعد عن نور النبوة؛ وهو ما يجعل الفقه بمعناه الأصلي، يتناقص مع زيادة هذا البعد شيئا فشيئا مع مرور الزمان؛ إلى أن جاء زمن الأئمة المؤسسين للمذاهب الفقهية المعلومة، والذين على رأسهم زيد بن زين العابدين، وجعفر الصادق عليهما السلام، وأبو حنيفة النعمان، ومالك بن أنس، والليث بن سعد، والشافعي، وأحمد بن حنبل. ولقد كان هؤلاء على نور وإن خالط بعضَهم فكر (رأي). والفكر في الفقه مأذون به، كما سبق أن ذكرنا؛ غير أن من كان على نور تامّ كفقهاء الصحابة، لا شك سيكون أعلى رتبة من هؤلاء. ولقد نبه الإمام مالك إلى حقيقة الفقه بقوله رضي الله عنه: "لَيْسَ الْعِلْمُ بِكَثْرَةِ الرِّوَايَةِ، إِنَّمَا الْعِلْمُ نُورٌ يَضَعَهُ اللَّهُ فِي الْقُلُوبِ"[4]؛ وكأنه رضي الله عنه ينظر إلى فقهاء المتأخرين، وليس لهم من الفقه إلا الأقوال. والنور الذي يخبر عنه مالك، هو كشف خاص بالفقهاء، نظير ما للأولياء في علومهم. والفرق بينهما هو أن كشف الفقهاء يكون مع الحجاب عن الله، بخلاف كشف الأولياء. وكشف الفقهاء يكون في مسائل الفقه، لا فيما يُكشف للأولياء عادة. وهذا الكشف الفقهي، هو ما يؤيد الله به أهل الاجتهاد، وما يهديهم إليه من أدلة لا تكون وليدة عقولهم. وقد يغلط كثيرون عندما يظنون أن الاجتهاد كله استنباط فكري. والسبب في ذلك هو عدم ذوق حال المجتهد، وأخذه بالقياس النظري، لمن هو دونه في المرتبة. وما أخبر مالك بقوله إلا عن حاله وحال نظرائه رضي الله عنهم. كل هذا كان جزاء إيمانهم وعملهم، وإخلاصهم لربهم في كل ذلك. وهم بهذا، لم يكونوا يخالفون الصحابة إلا في قوة النور، وفي القدر الذي يدخل عليهم من الفكر فحسب. أما متأخرو الفقهاء فقد خالفوا، حينما انقطعوا عن النور النبوي، عند انفصالهم عن الأعمال المقوية للإيمان وعن التزكية. وكلما نقص نورهم، استعاضوا عنه بإعمال الفكر؛ إلى أن كادوا ينقطعون عن أصل الدين. بل إن منهم من انقطع؛ وصار الفقه لديه نظريا بحتا. ومن يستمع إلى غرائب الفتاوى عند المتأخرين، فإنه لن يجد لها سندا من الفقه الأول البتة؛ وسيجدها تستند إلى عقول ضعيفة شوهاء، هي دون عقول العامة المتلقين. ومن ينظر إلى غياب أوّليات المعاني عن إدراكهم، فإنه سيعلم ما نقول حتما؛ وإن كان الله لا يُخلي زمنا ممن هم باقون على الأصل ولا بد؛ حفظا منه سبحانه للمرتبة؛ كما نحرص على القول دائما. ولما جاء مقلدة الفقهاء، ومع انطماس البصائر، ظهرت العصبية للمذهب الفقهي، التي بلغت أوجها في أزمنة غير بعيدة؛ حتى ما كان أحدهم يجيز الصلاة إلا خلف من هو على مذهبه؛ مع وضوح بطلان هذا القول وضوحا لا يُحتاج معه إلى دليل. ولقد بلغ التخلف الفقهي في بعض البلاد، أن يسعى أهل مذهب إلى إبادة أهل المذهب المخالف إبادة. وهذا أقصى ما يكون من الانقطاع عن النور، والهُوِيّ في مهاوي الضلال والانحطاط.
[1] . متفق عليه؛ عن ابن عباس رضي الله عنهما. [2] . متفق عليه، عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما. [3] . متفق عليه، عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما. [4] . مسند الموطإ للجوهري؛ ص: 88. يُنشر هذا المقال (من سلسلة سلطة الفقهاء وأثرها على الشعوب) بعد مرور 550 يوم، من الاعتصام المفتوح للشيخ وأسرته؛ بسبب اضطهاد الحكومة وأجهزتها الذي ما زال مستمرا إلى الآن.