بداية لا يسعنا سوى أن نعرب عن استنكارنا الشديد وإدانتنا بكل حزم للانفجارات الإرهابية الغاشمة التي ضربت باريس، والتي أودت بحياة 129 شخصا، والعدد لا زال في تصاعد، بسبب الإصابات الخطيرة لمئات آخرين... لكن كحقوقيين، مؤمنون برسالة حقوق الإنسان الكونية، لدينا قراءتنا للحدث، من منظور أوسع، عسى نذكر به من يسهو أو يتنكر... ما جرى لأرواح بريئة بباريس، يجري بشكل يومي وبنفس الأعداد على أقل تقدير، في حق أبرياء الشعب السوري، الذين تزهق أرواحهم، إما بسبب البراميل المتفجرة، التي يطلقها عسكر النظام السوري السفاح، أو بسبب صواريخه وصواريخ الدب الروسي الأرعن، أو بسبب هجمات الإرهابيين الإجراميين، الذين قرأوا وفهموا الإسلام بالمشقلب، وحلفاؤهم في سفك الدماء من الصفويين ''ذكار آل البيت وعن ذكر الله غافلون، ودراعهم المارق المعلوم، ولكل من هؤلاء مصوغاته فيما يخوضه من جرم، المهم أنه في الأخير، الطفل السوري البريء، والأم السورية البريئة، والأب المكلوم بسوريا، بالعراق وباليمن، كلهم حطب لهذه النار التي لا تبقي ولا تذر، بل أضحت أشلاؤهم وآهاتهم صورا ومنشيتات نمطية اعتيادية على شاشات التلفاز العالمية، وعلى صدر صفحات الجرائد والمواقع الإلكترونية، يتلقاها الناظر بلا وجل. ما يجرى من دمار وخراب في الأمم، بسوريا، بالعراق وباليمن وغيرهم، نتاج حرب وحشية، تستعمل فيها أسلحة فتاكة، فصانعها مجرم، ومروجها مجرم، وممول اقتناءها مجرم، ومستعملها مجرم، لكن هذا الأخير هو الذي يبدو في الصورة الجزئية، التي ينقلها الإعلام المخادع. فليتذكر الجميع بأن فرنسا والسويد وبريطانيا وأمريكا وروسيا، كلهم دول متورطة في تدوير أزمة الفتك بالأرواح البريئة، عن طريق صناعة وترويج الأسلحة الفتاكة، أضف إليهم حكام العرب والمسلمين الفسدة، عن طريق شراءهم لتلك الأسلحة وتسليمها للأطراف التي تتراشق بها، فتصب في صدور اناس، ذنبهم أن صدحوا يوما بصراخ لرفع الظلم، فحل بدله الخراب... وليتذكر الإرهابيون، الذين يظنون بأن جهادهم المزعوم نصرة للدين الإسلامي، بأن محمدا صلى الله عليه وسلم، لم يأتي بالذبح كما يزعمون، ولم يأتي بالخراب كما يتصورون، بل حينما اضطر للقتال، بعدما اعتدوا على رسالته الربانية وحاولوا إجهاضها في مهدها، حارب بشرف ومروءة، فلم يبقر بطن بريء بل حماه، ولم يقتل أسيرا بل رحمه وعفى عنه، ولم يقتل آمنين بغدر، مهما كانت عقائدهم وحياتهم، وآيات الله في الذكر الحكيم مسترسلة في هذا المعنى وهذه الدلالة، بوضوح لا لبس فيه. وليتذكر الإرهابيون بأن رسالة الإسلام رسالة كونية ليست بحاجة لحروب أو قتل بالوكالة كقتل العصابات، والأدهى من ذلك، ليست بحاجة إلى أشخاص عديمي الضمير الإنساني، وعديمي الإيمان الصادق، فهؤلاء الانقتاليون، يوظفهم قادة الخراب بإسم الدين في خراباتهم الوحشية، ليسوا سوى شرذمة من المعتوهين عقليا وسلوكيا وإيمانيا، ورثوا في جيناتهم حقدا دفينا، جراء بؤس ضرب نفوس آباءهم، فتراكم وانتقل شفرة عبر الحمض النووي، ولما تربوا وترعرعوا في وضع اجتماعي مهزوز، أسري ومحيطي، فقدوا شروط الحياة السوية، وانتفت لديهم فرص الاندماج الإيجابي في المجتمع، الذي مد لهم يد العون لينعموا بفرص العيش الكريم، فغشت عقولهم وقلوبهم غشاوة الحقد والضغينة، وانحرفت سلوكياتهم، ثم على حين غرة، سعوا لخلاص مطلق من تيه وجودي مطلق، بحلاوة إيمان مزعومة وهمية، نجمت عن إدمان شاذ، وظنوا أنهم بقتلهم الناس، ممن يعتبرونهم ''كفارا ومنحرفين'' سيدخلون الجنة وسينعمون بالحور العين، فهذا لعمري من أبشع أنماط غسل الدماغ، فما للإيثار ولا للرحمة أو الإنسانية أو فعل الخير أو مساعدة الناس أو إنقاذ الأرواح من جدوى ولا من معنى، ولا من قيمة في قاموس إسلامهم المزور، فليطمئنوا بأن الإسلام الحقيقي لن تقوم له قائمة بحربهم الوحشية هاته، ولن تستقيم رسالة النبي محمد صلى الله عليه وسلم على خطهم المنحرف، ولا قيمة لإفك الخلافة المزعوم، التي يقدمون أرواحهم قربانا لأبطالها السفلة، بل سعيهم محظ حرب انتقامية، حول الحكم والسيطرة والاستحواذ على الثروات وعلى الأمم وعلى رقاب الناس، وليس لهذه الحرب من صلة برسالة الإسلام، لأن الرسول عليه الصلاة والسلام ترك أمة المسلمين، ولم يترك دولة المسلمين، بعدما ورث الوصية من سيدنا إبراهيم، الذي سمانا مسلمين، يجمعنا الإيمان والإسلام، ولا تجمعنا الحدود السياسية أو الترابية، إلا بما يسره الله للشعوب والقبائل من سبل التلاقي، وقدره من عوامل التفرقة وتبدل الأحوال، فأمرهم بالتعارف، حتى يكون أصدقهم عند الله أتقاهم. وليتذكر صناع الأسلحة بأنهم صناع للموت بالمحصلة، يزعمون أنه مجرد تجارة واقتصاد، لا يدركوا بأنه، بقدر ما تقتل النفوس بتلك التجارة القتالة، بقدر ما ينتظًرهم الدور، والحبل على الجرار، لأن في الحياة ناموس تستعصى قراءته لمن لم يلقي السمع وهو شهيد، فيتصوروا أنفسهم بأنهم في منآى من طلقات أسلحتهم الهجومية الفتاكة، ويظنون بأنها ستضرب أناسا دونهم، وأنها لن تصيبهم في عقر داركم يوما ما، إنه وهم ما بعده وهم، متناسين بأن الرد من جنس الفعل... كيف لنا أن نقرأ الهم الغاشم، الذي يبسط غمامه على قلوب المسلمين، بمتطرفيهم ومعتدليهم، بمتسامحيهم ومتعصبيهم ، وهم يروا كيف يموت أبرياء فلسطين تحت قصف و"طخ" الاحتلال الإسرائيلي الصهيوني اليهودي الغاشم على القلوب مباشرة، وكيف يقتل أبرياء الروهينغيا على يد بوذيي بورما، على مرآى ومسمع من مناهضي الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان الدوليين، وكيف تهان عقيدة المسلمين ليل نهار، برسومات مستفزة، وممارسات وأقوال عنصرية، وكيف يسلب المسلمون حريتهم وكرامتهم وحقوقهم داخل مواطنهم. كل هذا الوضع قد تكفل بزرع وتغذية بذور الإرهاب لسنين عددا، ومنذ نهاية القرن الماضي والعالم يجني ثمار ما زرع الظالمون... خلاصة القول، الظلم والإرهاب وجهان لعملة دولية، ظاهرها واهم لناظره، وباطنها مرعب لقارئه...