ظهرت في الغرب بعدما تخلصت أوروبا من الدين الذي سيطرت الكنيسة عليه لعدة عقود عدة مدارس ونظريات وفلسفات تربوية تعمل على إصلاح المجتمعات من خلال تربية الأفراد والجماعات، ورغم اختلاف هذه المدارس في وسائلها التربوية ومناهجها التعليمية إلا أنها اتفقت في المقصد والهدف وهو تربية الفرد على وفق ما تريده تلك الفلسفات، غير أن كل تلك النظريات التربوية بقيت قاصرة على بلوغ الهدف التربوي الشامل الذي كانت تريده الإنسانية، لعدة أسباب وحيثيات، نذكر منها سببا واحدا فقط، وهو أن هذه النظريات التربوية كانت تهدف إلى تربية "المواطن الصالح" بدل "الإنسان الصالح". إلا أن التربية التي جاء بها الإسلام لم تكن تهدف إلى تربية "المواطن الصالح"، بل كانت تهدف إلى تربية "الإنسان الصالح"، وهذا تفصيل للنتيجة الحتمية التي تهدف كل من التربية الإسلامية والنظريات التربوية الغربية بلوغه. أولا: هل الإنسانية بحاجة إلى تربية "المواطن الصالح" أم "الإنسان الصالح"؟ النظريات والمدارس التربوية في الغرب عموما وفي أوروبا على وجه الخصوص رغم اختلاف وسائلهم التربوية ومناهجهم التعليمية إلا أنها استطاعت أن تجعل من الفرد الأوروبي "مواطنا صالحا"، يحترم قوانين بلده ومبادئ وطنه وثوابته ومقدساته، وكل ما يجعل منه مواطنا صالحا، ورغم ما يظهر من خلال هذا المصطلح من لمعان وجاذبية وإيجابية إلا أننا إذا أمعنا النظر جيدا فيه، ودققنا التأمل الرزين، نجد أن هذا المصطلح قاصر سلبي، لم يحقق الهدف الكبير والشامل الذي تريده الإنسانية جمعاء وهو السلم والأمن والتعاون والاحترام الشامل بين جميع أبناء الإنسانية. والسبب في ذلك أن هذه المدارس التربوية تحصر الفرد عند تربيته في حدود قطرية ضيقة جدا، حيث تنمي فيه الاعتزاز بوطنه واحترام مواثيق بلده، وثوابت وقيم وطنه، في حين لا يهمها مبادئ وثوابت الآخرين. وحتى يكون كلامنا يلامس الواقع نقوم بإنزاله على أرضه. فما نشهده هذه الأيام وغيرها من الأيام التي خلت مِن الإساءات المتوالية المتكررة للرسول صلى الله عليه وسلم والاستهزاء به وبالإسلام، ليس ذلك سوى تعبير واضح على قصور تلك النظريات التربوية على تربية مثل أولئك الذين أخذوا تربية تجعلهم يحترمون قيم ومبادئ وطنهم فقط، ولا يهمهم بعد ذلك قيم ومقدسات الآخرين، وهذه إشكالية خطيرة ونتيجة سيئة انبثقت من تلك النظريات التربوية التي تهتم "بالمواطن" ولا تهتم "بالإنسان"، إذ مادام الإنسان الآخر لا ينتمي لهم دينا ولا عرقا ولا لغة و لا وطنا، فليس هناك ما يمنعهم من الاستهزاء والسخرية منه لأن تربيتهم وقوانين وطنهم تمنحهم ذلك، فهم يمارسون "الاستهزاء" باعتباره حرية وقناعة وطنية، أما نفس الاستهزاء إذا مس مواطن من مواطنيهم فذلك ممنوع، لأن تلك التربية التي تلقوها تمنعهم من الإضرار بغير مواطنيهم، وإذا ما أراد أحدهم أن يخالف تلك التربية التي تلقاها والمنبثقة من (تربية المواطن الصالح) فإنه يواجه بالنبذ والأخذ عل يديه، وهذا ما حصل لأحد الرسامين الكاريكاتوريين سنة 2009، الذي رسم مستهزأ ابن ساركوزي عندما بدل دينه إلى الديانة اليهودية، فما كان من الصحيفة إلا أن تطلب منه الاعتذار على فعلته، وعندما رفض الاعتذار قامت الصحيفة بطرده من العمل. وهنا يظهر الفرق واضحا بين تربية المواطن الصالح الذي تسعى إليه النظريات التربوية الغربية، وتربية الإنسان الصالح الذي تريده التربية الإسلامية، لذلك لم نجد من المسلمين المتشبعين بالقيم الإسلامية مَن يرد على هؤلاء المستهزئين، فيستهزئ بعيسى عليه السلام باعتباره "نبيهم"، لأن الإسلام يطلب من المسلمين الإيمان واحترام جميع الأنبياء والرسل "لا نفرق بين أحد من رسله"، أو الاستهزاء بمبادئهم وثوابتهم لأن الإسلام يربي الإنسان الصالح، الإنسان الذي يحترم دينه ووطنه ومقدسات وثوابت بلاده، كما يحترم حضارته الإنسانية وتراثها ومعتقداتها، "فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر"،"لا إكراه في الدين"، فالمسلم أخذ التربية الشاملة، التربية التي تجعل منه الإنسان الصالح يحترم جميع الأديان ويتعامل مع جميع الناس وفق ما أراده الشرع، ولا يرد الإساءة بالإساءة ولو باعتبار الآخر من غير وطنه أو دينه، فالمسلم يمتثل قوله سبحانه "ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم". وفي سياق هذا الموضوع قال الدكتور محمد قطب في كتابه "منهج التربية الإسلامية" عند حديثه عن النظريات التربوية الغربية ومقارنتها بالتربية الإسلامية، قال: "... بينما تلتقي مناهج التربية الأرضية كلها تقريبا على هدف متشابه وإن اختلفت في وسائل تحقيقه متأثرة بالبيئة والظروف التاريخية والاجتماعية والسياسية إلخ، نجد الإسلام منذ البدء مفترقا عنها في هذا الهدف مغايرا لها في الاتجاه، تلتقي مناهج التربية الأرضية على أن هدف التربية هو إعداد المواطن الصالح وتختلف الأمم بعد ذلك في تصور هذا المواطن وتحديد صفاته، فقد يكون هو الجندي الشامل سلاحه لمواجهة العدو وقد يكون هو الرجل الطيب المسالم، وقد يكون هو الناسك المتعبد الذي يهجر الحياة الدنيا وينصرف عن صراع الأرض، وقد يكون هو العاشق لوطنه المجنون بعنصريته... ولكنها تشترك كلها في شيء واحد هو إعداد المواطن الصالح، أما الإسلام فلا يحصر نفسه في تلك الحدود الضيقة، ولا يسعى لإعداد المواطن الصالح وإنما يسعى لتحقيق هدف شامل هو إعداد الإنسان الصالح". ومن خلال هذا الهدف الذي ترمي التربية الإسلامية إلى زرعه بين الناس يتضح أنها تربية شاملة تقوم على نشر الخير والتعايش والاحترام بين الإنسانية جمعاء بمختلف أطيافها وأنواعها وعقائدها، بينما غيرها من النظريات التربوية لا تفي بالغرض، بل على العكس من ذلك هي وبال على الإنسانية لأنها تربية قاصرة على احترام المواطن لا الإنسان. وانطلاقا من هذا التفصيل وجوابا على السؤال الذي قمنا بطرحه يتبين أن الإنسانية محتاجة إلى التربية الإسلامية لا إلى النظريات التربوية الغربية لأن التربية الإسلامية هي التي تحقق للإنسانية السلم والأمن والتعايش والتعاون الذي تسعى إليه.