منذ أربع سنوات مضت، ارتبطت نسرين بعلاقة مع صديقها. الفقر المدقع الذي تعيشه مع أسرتها شبه المفككة بالمدينة العتيقة، وهي الابنة الوحيدة لها، جعلها الفقر تبحث عن أي قشة تنقذها من ذلك الواقع المؤسف. عاشت كباقي فتيات حيها حياة طبيعية تلعب وتفرح وتتمنى لنفسها مستقبلا أحسن مما هي عليه. الفقر لم يكن بالنسبة لها مشكلا كبيرا في صغرها، لكن مع تقدم سنها، بدأت الأمور تتغير وبدأت تحلم بدورها بعريس وبالخروج من تلك الأسوار الندية بالمدينة العتيقة، لكن حظها العاثر قادها إلى حيث لم تكن تتوقع، لتفاجأ بالشخص الذي سلمته نفسها ليحول حياتها إلى جحيم. حلم بالزواج يحول فتاة إلى جارية! كان صديقها كثير التردد على الحي الذي تقطنه، وهو أصلا من حي آخر تابع لجنان بيضاوة بحي صفيحي وعشوائي، لكن كان يبدو أنه قادر على كسب المال ويمكنه أن يكون زوجا مثاليا. ارتبطت به نسرين في البداية ووعدها بالزواج. بدأت تحلم بغد أفضل. أغراها بما أمكنه واستطاع أن يحصل منها على كل ما يريد. ظل يؤكد باستمرار أنها زوجته الموعودة، وخلال ذلك فقدت عذريتها. توجه إلى منزل أسرتها وطلب يدها من أمها، لأن والدها كان خلف أسوار السجن. كان الخطيب معروفا في المنطقة بقوته وقدرته على صرع غريمه، لذلك كان الجميع يخشى مواجهته، لكن لا أحد كان يعتقد أنه سيوجه هذه القوة تجاه نسرين الفتاة الشابة الحالمة بزوج وبيت وعائلة صغيرة تبعث فيها إحساس الأمومة. أحكم المتهم قبضته على نسرين بعد الخطبة المزعومة، والتي جاءت فقط لذر الرماد عن العيون وليعطي لنفسه شرعية الدخول والخروج لمنزلها متى شاء، وكذلك ليسكت الأفواه التي بدأت تتحدث عن علاقتهما. كان يواجه الجميع ويقول لهم: «هادي مراتي أش خاصكوم، عندي حق عليها ولازم تمشي معايا». نفس العبارة رددها غيرما مرة أمام مسؤولين أمنيين بالمنطقة، من الذين يعرفونه جيدا ويعرفون مشاكله، ومع ذلك لم يقم أي منهم خلال هاته الفترة بكاملها بإنقاذها من عبوديته أو أن يستجيب لاستنجاداتها وهو يجرها لذلك الوكر الذي أعده خصيصا لعربداته رفقة ندمائه ليستغلها بطريقة سادية. لم يكن سوى «بحري»، بتعبير اللهجة العرائشية، لكن الكثيرين يعرفون أن البحرية «ماشي هي اللي كتوكلوا الخبز، هاداك راه بزناس معروف عند كلشي»، يقول بعض أفراد أسرة نسرين وحتى بعض الجيران. الشاب المعروف بجبروته بالمنطقة، كانت له «براكة» بنفس الحي الذي تقطن به أسرته المحسوب على جنان بيضاوة العشوائي. كانت «براكته» تلك وكرا مفتوحا لبعض رفاق السوء. هناك يبيع مخدراته بالتقسيط، وهناك أيضا يستقبل رفاقه الذين يتعاطى معهم الكحول والمخدرات. الكل يعرف تلك البراكة بكونها «وكرا». وإلى هناك كان يأخذ نسرين وربما غيرها ليمارس عليهن الجنس بطريقته السادية. فجميع الجيران يسمعون ما يحدث هناك ويعرفون جيدا ما يقع من مشاكل لكن لا أحد يستطيع الاقتراب. شكايات خارج التغطية الأمنية على الجانب الآخر من المدينة العتيقة، كانت حياة أخرى ترسم للشابة نسرين وهي تلج أحلى مراحل حياتها، قبل أن يصطادها «البحري» ويضعها في شباكه بكل معاني الكلمة. لم تكن الأم تستطيع الوقوف في وجهه حينما يأتي لأخذها عنوة. كانت أحيانا تقبل رجليه وهي تتوسله أن يترك ابنتها، وألا يجرها ويعتدي عليها بتلك الطريقة. أحيانا كان يتصل بها هاتفيا ليهددها ويطلب منها الحضور إلى براكته، لتمضي معه الليلة وبعض النهار لتعود والكدمات تملأ جسدها، التي تتلقاها منه على طول فترة وجودها معه. فقد كان ساديا وفق روايات بعض الأقارب الذين كانوا يتابعون الموضوع عن بعد. «تشكينا بزاف دلمرات، غير هي الله يرحمها شحال من مرة مشات للكوميسارية، وكيردوها فحالها بحال اللي هي اللي معديا»، تقول إحدى قريبات نسرين، في تبرير شكلي لصمتهم عن القيام بأي شيء عندما كانت تتعرض لتلك الاعتداءات. أفراد الأسرة كشفوا للجريدة نسخا من شكايات قدموها رسميا للدائرة الأمنية التابعة لحيهم، لكنها لم تحرك ساكن المسؤولين الأمنيين بها لحماية نسرين، بل المصيبة وفق مجموعة شهادات من مصادر متفرقة استجمعتها الجريدة من عين المكان، أكدت أن الضابط المسؤول كان يستدعيها وبدل الاستماع لشكايتها، كان يؤنبها ويتهمها بأسوأ النعوت والتهم. كثيرات هن الفتيات والجيران الذين أكدوا للجريدة في تصريحاتهن أن الضابط المذكور وبعض العناصر التابعين له، يتعاملون معهم بنفس النظرة وبنفس المنطق، «حنا واقيلا ما تبعينش لهاد الدولة، وحتى حقنا في الأمن والبوليس ما كاينشي»، تقول إحدى صديقات نسرين وهي تذرف الدموع وتلعن الجميع.. صديقتها تعود لتحكي عن ليال سوداء عاشتها الأسرة ومعها نسرين، «شي ليالي كان كيجي سكران في آخر وقت، وكيبدا يسب ويهرس الباب، وحتى واحد ما كيقدر يهدر معاه، وشحال من مرة عيطنا للبوليس كاع متسوقو لينا». نفس المشهد روته مصادر أخرى على مسامع الجريدة، فلم يكن هذا الأمر خفيا فقد كان يتكرر باستمرار. وكان يلجأ للتهديد بضرب الأم والتنكيل بها، عندما ترفض نسرين أن تصاحبه لوكره. حبلت نسرين. حاولت إخفاء حملها لكن الأمر انكشف. أنجبت منه طفلا هو اليوم في شهره العاشر تقريبا. لم يكن ليهمه الأمر كثيرا ولم يكن يساعد في إعالته بل كان دائما يرجئ أمر الزواج ونقلها إلى بيت أسرته حيث كان يدعي أنه سيعيش معها. الفقر المدقع والحاجة ستصبح مضاعفة عندما تبنت نسرين رضيعة في شهرها الخامس! ليلة مقتل نسرين ليلة مقتل نسرين مازالت غامضة وغير واضحة المعالم. كيف حدث ذلك؟ تعاطى «خطيبها» للكحول والمخدرات فتضخمت أناه مرة أخرى وتعاظمت قوته وجبروته. توجه نحو بيت "جاريته" وشرع في الصراخ والتهديد. حاولت نسرين أن تتخفى وتهرب منه كما العادة. كانت تعرف أنها ستكون ليلة سوداء بسواد سمائها الغائمة جدا، بعد أن اشتكته للأمن. حاولت والدتها أن تثنيه عن الدخول للمنزل، وادعت أن نسرين غير موجودة وأنها لدى أحد أقاربها في "العروبية" لعله يغادر أو على الأقل يصمت من الهيجان الذي كان عليه في تلك اللحظة. لم يهتم لما تقوله الأم بل بدأ يهددها ويتوعدها هي أيضا، ويطالبها بإخراج ابنتها وإلا اعتدى عليها هي: «غادي نقتلك أنت وبنتك إلا ما جاتشي دابا». هكذا كان يصيح تحت أعين الجميع المتلصصين من خلف النوافذ وأركان الحي. لم تستطع نسرين الصبر على هذا الموقف، فخرجت إليه وطلبت منه أن يغادر الآن وأنها ستأتي عنده لاحقا. ادعت أن ابنهما مريض وأنها لا تستطيع مغادرة المنزل لعل قلبه يحن ويهدأ. لم يعبأ لا لتوسلاتها ولا لتوسلات والدتها، ولا حتى لنظرات الجيران والأصحاب التي كانت شبه توسلات بالنسبة له. كل ذلك ما كان ليصد هيجانه، حينما جرها من شعرها واستل سكينه الذي لا يفارقه، وبدأ يهددها به ويجرها كما يجر خروف العيد إلى مذبحه. صاحت واستغاثت بكل قواها: «عتقوا الروح، راه غادي يقتلني متخليوهش يديني»، وكأنها كانت تعلم أنها آخر ليلة في حياتها. كان لديها إحساس غريب بكونه «غادي يصفيها ليها». يقول أحد أقاربها الذي كان غائبا تلك الليلة. تعالت صيحاتها دون أن تجد من يغيثها. وكان بين الفينة والأخرى يرفع عينيه للمتلصصين عليه، فيهددهم ويقول لبعضهم: «واغير عيطوا فدوك التلفونات ديالكم راه ماغادي يسمعكم حتى واحد»، في إشارة إلى الاستغاثات التي كانت توجه للمصالح الأمنية. جر نسرين كسبية وهي تصرخ، أخذها مباشرة إلى وكره ولم يرها أحد بعد ذلك. لم تعد إلى منزل الأسرة في الصباح كما كان يحدث في الغالب، لكن مع ذلك لم يكن الأمر مريبا، فالأم التي انفطر قلبها لم تعد تهتم كثيرا، أو على الأقل لم تتوقع الأسوأ، فقد كانت تعتقد أنه مهما قسى عليها، فلن يصل الأمر حد مقتلها أو التخلص منها بنية أو بغير نية. مر يوم آخر دون أن تعود نسرين ولم يظهر لها أثر، ومع ذلك لم يكن أحد يعرف ما حدث، أو ما ستحمله طرقات قوية على باب منزلها يوم الإثنين في حدود الثالثة وبضع دقائق، بعد يومين من مغادرتها المنزل. خبر مؤلم طرقات قوية على الباب في يوم بارد جدا، كانت الأم تعتني بابني نسرين. كانت الساعة قد تجاوزت صلاة العصر ببضع دقائق حسب توقيت الأم، لتجد أمامها عناصر من الأمن يسألونها عن ابنتها، وعن بطاقة تعريفها الوطنية. لم تعرف الأم سببا لذلك. لكن قلب الأم لا يكذب فقد شعرت منذ البداية بأن في الأمر سوء، وأكدت لهم أنها والدة نسرين التي يسألون عنها، فطلبوا منها مرافقتهم لإدارة الأمن. على امتداد الطريق ظل قلبها يخفق بشدة تنتظر جوابا لما يحدث أمامها، لم تجد هناك جوابا، بل سؤالا زاد من حيرتها، فقد سألها أحد المحققين عمن يصاحب ابنتها ومع من ذهبت آخر مرة، لتجيبهم بكونها ذهبت مع خطيبها يوسف. لم يخبرها أحد بما حدث بالضبط، لكن طلب منها مرافقتهم إلى المستشفى لرؤية ابنتها التي كانت "مضروبة" وفق ما قال لها الضابط المكلف بالتحقيق. ركبت الأم معهم مرة أخرى والوجهة مستشفى للامريم بالعرائش. لم ينطق أحد من الأمنيين خلال الطريق بكلمة ولم يقل أحد للأم شيئا، فقط كانت نظرات بعضهم لها توحي بوجود مكروه ما. لا أحد استطاع أن يقول لها الحقيقة، فقد كان هناك من سيتكفل بنقل الخبر إليها، بعد دخولها للمستشفى وهي تحاول البحث عمن يرشدها إلى حيث توجد ابنتها، لتجد أمامها سيدة ستقول لها: «الله يصبرك.. بنتك ماتت». لم تستطع الأم استيعاب ما سمعته، بل لم يستطع رجال الأمن حتى مرافقتها إلى مستودع الأموات لتراها حينذاك، فقد أصيبت بحالة هستيرية جعلت الجميع يبتعد عنها ويتركوها لحزنها، حيث خرجت تجري من المستشفى وهي تصيح وتولول: «قتلوا ليا بنتي»، متوجهة نحو منزلها لتخبر باقي أفراد الأسرة، وعلى رأسهم عم الضحية الذي حاول تهدئة الأم والتوجه برفقتها لمديرية الأمن بالعرائش، لمعرفة ما حدث ومن قتلها وتفاصيل الحادثة التي بدأ خبرها يتسرب للعرائشيين مخلفا ردود فعل قوية لدى الرأي العام. وصلت الأم ومعها العم إلى مديرية الأمن وهناك فاجأهم خروج أخت ووالدة المعتدي من المصلحة الأمنية، فزاد ذلك من ثورة أسرة الضحية فبدأت الأم تصرخ وتهدد وتولول: «قتلوا بنتي وزايدين طالقينهم»، كما بدأت تتهم ضابطا للشرطة بالتواطؤ مع أسرة المعتدي، خاصة وأنه سبق له أن تلقى شكاوى ضد المعني بالأمر، لكنه ظل يصف الضحية بأنها مجرد «عاهرة»! وبدل أن يهدئ من روع الأم، زاد من إشعال النيران وهو يقول لها: «هاد الناس مادارو غير الخير». حسب التحريات التي أنجزت، تبين أن المعني بعد اصطحابه لنسرين اعتدى عليها جنسيا كما العادة واعتدى عليها بالضرب ودفع بجثتها إلى الارتطام بالأرض بقوة، حتى أن صراخها كان يسمع على طول وعرض الحي حيث مسكنه. مما جعلها تتأثر بتلك الضربات وتفقد وعيها قبل أن تلفظ آخر أنفاسها.. نقلت نسرين إلى المستشفى، وهي في الحقيقة جثة هامدة، فأدخلها لقسم المستعجلات وهو يدعي أنها زوجته وأنها أصيبت ب"لارياح" التي تسببت لها في السقوط وإصابة نفسها. كل ذلك قبل أن يعود الطبيب الذي فحصها مسرعا لحيث كان يقف رفقة أفراد أسرته، ليخبرهم بأن الشابة ميتة منذ أكثر من ثلاث ساعات بسبب كدمات. أمر أخبر به المعتدي من طرف هؤلاء ليتمكن من الفرار من المستشفى قبل أن يخبر الطبيبب المصالح الأمنية التي حضرت لعين المكان وباشرت تحرياتها، لتخبر أسرة الهالكة ساعات بعد ذلك. مطالبة بمحاسبة المسؤولين ماكادت بضع ساعات تمر على واقعة القتل تلك، حتى بدأت العرائش تتحرك وبدأ موضوع الوضع الأمني وترديه يطغى على حديث الناس. فعل ذلك ما جعلهم ينتظرون يوم الجنازة ليعبروا عن غضبهم وامتعاضهم من كل ما حدث وما يحدث يوميا. تلويحات غير مباشرة واتهامات أخرى مباشرة لبعض العناصر الأمنية بالتواطؤ وعدم القيام بواجبها. حشد كبير من السكان شاركوا في جنازة نسرين. تم إحضار الجثمان مسجى في صندوق، لينقل على الأكتاف للمقبرة الإسلامية بالعرائش، بحضور مكثف لأهالي الحي وبعض الجمعيات وكذلك المواطنين الذين سمعوا بما حدث للشابة من قبل المتهم بقاتلها الذي كان قد حولها إلى جارية يستغلها جنسيا كلما أراد، مستغلا جبروته وضعف أسرتها أيضا. مباشرة بعد دفن جثمان الهالكة يوم الخميس، وإلقاء آخر ذرات التراب على قبرها هناك، حتى انطلقت مسيرة احتجاجية تلقائية لمشيعي الجنازة، انطلاقا من المقبرة. فحتى النساء المحرم عليهم الوجود بالمقبرة حضروا، وعلى رأسهم والدتها التي لم يجف لها دمع ولم يهدأ لها خاطر، وهي المحترقة بمقتل فلذة كبدها بعدما أخذها مغتصبها من بين يديها. فقد عمدت الأم بعد انتهاء مراسيم الدفن إلى الارتماء فوق نعش فلذة كبدها، حيث وضعت به وحملت على الأكتاف في اتجاه مديرية الأمن. شعارات منددة بالوضع الأمني وعدم تمكن المصالح الأمنية من الوصول للمتهم الذي اختفى، والذي سبق وأن قدمت به شكايات دون أن يحرك ساكنا ضده، لتصل الأمور لما وصلت إليه حاليا، حيث انضمت للمسيرة مجموعة من الفعاليات والجمعيات الحقوقية والمواطنون الذين شاركوا بتلقائية فيها، تضامنا مع الضحية من جهة واستنكارا للوضع الأمني المتردي الذي تعرفه مدينتهم. المسيرة التي جابت شوارع المدينة انطلاقا من المقبرة في اتجاه إدارة الأمن، خلفت ارتباكا في حركة السير ودفعت إلى تجمهر المئات على جنبات الطريق وتوقف السيارات خاصة بوسط المدينة، مما عجل بتدخل المصالح الأمنية التي تم تعزيزها بقوات التدخل السريع، التي عملت على تشكيل ذرع بشري لمحاصرة جموع المحتجين بالقوة، ومنعهم من الاستمرار في مسيرتهم التي كانت وجهتها المديرية الإقليمية للأمن. التدافع والمناوشات التي تمت بين المتظاهرين والقوات العمومية كانت قوية، بل إن الأطفال والنساء كانوا الأوائل في هاته المواجهة، حيث كان رد فعل النساء قويا تجاه محاولات توقيف المسيرة وتعنيف المتظاهرين. كل ذلك لمنعهم من الوصول إلى مقر المحكمة الابتدائية والمنطقة الأمنية بحي المغرب الجديد، مما دفع هؤلاء ليعرجوا على إقامة عامل الإقليم ورفعوا شعارات من قبيل :«ياعامل يا مسؤول هادشي ما شي معقول»... ومجموعة من الشعارات التي تصب في اتجاه المطالبة بتوفير الأمن بالمدينة. مصطفى العباسي- أمين نجيم ل الأحداث المغربية