أ.د جمال حيمر تتبوأ مدينة مكناس مكانة رفيعة بين الحواضر المغربية الكبرى لما اضطلعت به من أدوار محورية وبارزة في تاريخ المغرب، طالت الميدان السياسي والعسكري والاقتصادي والثقافي والديني، جعلت أهميتها تكتنز من تراث معماري غني، يشهد على عمقها التاريخي وتنوع مرجعيتها الحضارية؛ إذ تميزت بشخصية فريدة مسنودة بتاريخ عريق استقته من تجربة طويلة، تاريخ يوجد في كل ركن من أركانها، وفي أسوارها وأبوابها وأبراجها وقصورها وأهرائها، وفي أسواقها وفنادقها وحماماتها وسقاياتها، وفي مساجدها وزواياها ومدارسها ودورها العتيقة. ومكناس هي أحد المراكز الكبرى لظاهرة الصلاح والولاية، والعلم والتاريخ، أنجبت على مر تاريخها رجالا صلحاء، وتألق في سمائها أعلام علماء، أسهموا بقسط وافر في إغناء الخزانة المغربية بما ألفوه من مصنفات همت شتى أنواع المعرفة. ومن أبرز هؤلاء الأعلام نخص بالذكر -في هذا المقام- المؤرخَيْن النقيب عبد الرحمن بن زيدان والعلامة محمد المنوني، اللذين خصا مدينة مكناس -مسقط الرأس- بنصيب كبير من أعمالهما وإنتاجاتهما الغزيرة، وأفرداها بتآليف خاصة ومتنوعة من حيث أصنافها وموضوعاتها، شكلت حصيلتها إسهاما رائدا في التعريف بالشخصية التاريخية والحضارية لهذه المدينة، عدت في الوقت نفسه أرضية ارتكاز للدراسات والأبحاث المنجزة في العقود الأخيرة في نطاق البحث التاريخي الجامعي، وهي دراسات انصبت على مقاربة قضايا وإشكالات معينة في حقب محددة. ومما يبعث على الأمل، أن يتواصل الاهتمام والعناية بتاريخ هذه المدينة لدى جيل من الباحثين -من أبناء مكناس وغيرهم، ممن احتضنتهم فترعرعوا في دروبها وأحيائها وربوعها، أو درسوا في مؤسساتها وتنسموا هواءها- عربونا منهم على رد الجميل، حيث أقدموا على هذه المبادرة العلمية بإنجاز مصنف يقدم صورة شمولية وتركيبية عن تاريخ مكناس من خلال رصد مسارات تطورها، وإبراز أوجه آثار هذا التطور في تكوينها المادي ومبانيها تعبيرا عن وقائع حضارية. علاوة على هذا الحافز الذاتي، يبدو جليا أن الهدف المنشود وراء هذا العمل هو الإسهام من موقع البحث العلمي في استنهاض مزيد اهتمام بأوضاع المدينة، ذلك بأنه لم يعد خافيا إجماع مواطني هذه المدينة -من سكانها وأبنائها الغيورين- على ما آلت إليه حالتها الراهنة من ترد وتهميش لا يناسبان تاريخها العريق؛ فالمدينة جديرة بمكانة تليق بقيمتها التاريخية، وتستحق اهتماما يوازي وزنها الحضاري، غير المكانة التي تقبع فيها منذ أمد غير قصير. ومهما يكن، فإن هذا العمل الذي يُقدَّم اليوم، يعتبر ضرورة لصيانة التاريخ، وواجبا لحفظ الذاكرة؛ إذ يلبي طلبا ما فتئ نطاقه يتسع، كما يجد مبرره في اقتناع مؤداه أن أي حديث عن تأهيل التراث المادي واللامادي للمدينة، واستثماره في تنميتها الشاملة، يبقى حديثا غير ذي موضوع في غياب أبحاث علمية رصينة متعددة التخصصات، ومتنوعة المقاربات، تكشف عن مرتكزات هذا التراث ومكوناته وتجلياته بكل أبعادها. تأسيسا على ما سلف، نفترض أن كل قارئ حصيف لهذا الكتاب سيدرك أن خاصيته المميزة هي المزاوجة بين مسعيين، أن يستوفي الشروط العلمية مع تحرر نسبي من الصرامة الأكاديمية من جهة، وأن يحقق الفائدة المتوخاة من وظيفته من جهة ثانية، وذلك بجعله في متناول السواد الأعظم من القراء، وفي طوع أمر مختلف الفئات والجهات المعنية والمسؤولة. إن تثمين هذه المبادرة العلمية وإبراز بعض مزاياها الكثيرة، لا يمكن أن ينسينا القول بأن أي منجز من هذا الصنف يبقى في غير مأمن من المزالق والهفوات، بيد أن هذه المخاطرة لا ينبغي أن تشكل عائقا، وتثني العزم على المضي في درب البحث والتنقيب والتقصي بما يفيد في نشر الوعي بأهمية التاريخ وصيانة الذاكرة، ويسهم في بث الوعي بقيم المواطنة الفاعلة والمسؤولة. يتألف الكتاب من تسعة فصول، يربطها خيط ناظم، حرص مؤلفوه على سبك فصوله بعناوين دالة وذات صيغ اعتبروها معبرة عن خاصية أو ملمح مميز لمجموع أحداث ووقائع كل طور من أطوار تاريخ مكناس. بالإضافة إلى الفصل الأول من الكتاب المعنون ب”من مصادر التاريخ العمراني لمدينة مكناس” الذي يهدف إلى التعريف بمجموع ما كتب عن المدينة في سياق وطني من الكتابة التاريخية المغربية، وما تراكم عنها من أبحاث ودراسات؛ فإن الفصل الثاني الموسوم ب”مكناس مدينة المرابطين بعد مراكش وربيبة بلاد الأندلس بالمغرب”، انطلق فيه الأستاذ محمد البركة من تحديد مجال مكناس الوسيطية، وإبراز دلالة التسمية من خلال ما يستنبط من مصادر المرحلة، مستدلا على أن اسم مكناسة يستمد أصوله من قبيلة مكناسة أحد بطون زناتة، وأن إضافة الزيتون لها، راجع لانتشار هذا النوع من الأشجار في أحوازها، ويضيف أن المشهد التاريخي العام لمدائن مكناسة قبيل الوجود المرابطي قد تميز بالتذبذب الذي تطبعه ازدواجية التبعية والاستقلال، وهو ما حاول الباحث حبكه في ثنايا هذا الفصل عن طريق رصد تاريخها المتأرجح بين الولاء للمشرق بحلة مذهبية، وبين ولاء محلي متباين الأسباب والدوافع. ولبيان معالم الانتقال الذي عرفته مكناسة من المدائن إلى الحصن؛ فقد تم الوقوف في هذا الفصل على حيثيات سيطرة المرابطين على مدائن مكناسة بقيادة أبي بكر اللمتوني، وخضوع القبائل الزناتية له، وما تبعه من جهود لاسترجاع المنطقة من المغراويين إلى أن استقر الوضع للمرابطين، الذين فكوا الخطر المحدق بها، جاعلين منها قاعدة عسكرية وسياسية. مشيرا في آخر الفصل إلى أهم المعالم العمرانية والآثار التاريخية والمرافق المختلفة التي أنشئت بالمدينة خلال القرنين 5 و6ه/ 11 و12م. وأما الفصل الثاني من الكتاب المعنون ب”مكناس خلال العصر الموحدي: عسر الانتقال السياسي وتنوع التمدين” للأستاذين عبد الحق الطاهري ومحمد العمراني؛ فقد كان مدار الكلام فيه عن مدينة مكناس زمن الموحدين ما بين 537- 643ه/ 1142- 1245م، وذلك عن طريق تسليط الضوء على الكيفية التي دانت بها المدينة للدولة الموحدية، وما شهدته من توسع نسبي استلزم تزويدها ببعض المنشآت الدينية والاجتماعية (مساجد، حمامات، أسواق…)، إضافة إلى ما عرفته المدينة من انتعاش اقتصادي جعلها تكتسي طابعا حضريا. وفيما يخص الفصل الرابع من هذا الكتاب، فقد خصصه الأستاذ سعيد بنحمادة للحديث عن “مكناس زمن المرينيين والوطاسيين: ملامح حاضرة وصيفة لعاصمة المغرب الوسيط” ما بين 643- 961ه/ 1245- 1553م، حيث جاء العنوان الفرعي دالا عن المكانة السياسية لحاضرة مكناس؛ إذ إنه رغم الإشكالية المصدرية التي تعرضها الفترة المدروسة في هذا الفصل، فإن صاحبه قدم بعض الدرر لرصد التاريخ الحضاري للمدينة، وما عاشته من أحداث سياسية جراء قربها من فاس العاصمة، حيث استعرض جملة من التقلبات التي عرفتها مكناس في إطار الصراع المصمودي الزناتي، وما رافقه من نزاعات انخرطت فيها المدينة كحلقة محورية مؤثرة ومتأثرة بالوضع السياسي العام للمغرب. ولتقديم صورة شمولية عن هذه المرحلة؛ فقد أبرز الباحث بأن النشاط الاقتصادي لم يكن بمنأى عن هذه التقلبات السياسية؛ إذ تعاقبت فترات الأزمة والرخاء، وشكلتا متوالية ارتبطت أساسا بالاستقرار السياسي، وبالمؤهلات الطبيعية التي تتميز بها المدينة. كما عرفت المدينة بأهم المعالم العمرانية التي شهدتها إبان الحكم المريني والوطاسي، من خلال رصد مختلف المرافق بشتى أبعادها الدينية والاجتماعية والعسكرية والدفاعية، مبرزا خصائصها العمرانية والأدوار التي اضطلعت بها في مختلف المجالات، وختم حديثه بالوقف على بعض ملامح الحياة الفكرية والتعريف ببعض أعلامها الذين برزوا في مختلف العلوم والفنون، بما يؤكد جليا المكانة العلمية المعتبرة لمدينة مكناس المرينية. وأفرد الفصل الخامس من الكتاب لمقاربة الأستاذ عبد الواحد الهاروني علوي لمدينة “مكناس خلال العصر السعدي”، نقرأ فيه صفحات عن الضمور السياسي والحركية الفكرية للحاضرة المكناسية ما بين 961- 1060ه/ 1553-1650م؛ إذ أشار الباحث في ثنايا هذا الفصل بأنه يصعب رسم صورة واضحة المعالم عن مدينة مكناس إبان القرن 10ه/ 16م دون تتبع لمسلسل الصراع على السلطة بين الوطاسيين الذين دخلوا مرحلة الضعف والسعديين الذين شب عودهم، وانخرطوا في مشروع إخضاع مناطق المغرب تحت سيطرتهم، وهذا يؤكد أن مكناس، لما تحتله من موقع استراتيجي، شكلت قاعدة حاسمة ومفصلية في هذا المسار الذي انتهى بدخولها تحت الحكم السعدي، الذي اكتفى فيها بتعيين ممثلين من الأمراء والولاة دون نيل حظ كبير من السياسة السعدية، الأمر الذي جعل منها مدينة منغلقة على نفسها، تعيش شبه استقرار تام. مقابل هذا الضمور السياسي اتسمت الحركة الفكرية في المدينة بدينامية على غرار ما كان خلال الفترة المرينية، وذلك ما رصده الباحث عبر سرد أعلام المرحلة، الذين وسموا المدينة في مختلف العلوم الدينية والدنيوية. كما أكد أن مدينة مكناس شكلت منارة للتصوف؛ إذ برزت فيها مجموعة من الزوايا التي اضطلعت بأدوار دينية مشهودة، واعتبرت عنصرا فاعلا في أهم الأحداث التي عاشها المغرب خلال القرن 10ه/ 16م. وتعرض الأستاذ الحاج ساسيوي في الفصل السادس للحديث عن أهم التحولات التي طرأت على مدينة “مكناس في أوائل العصر العلوي” (1060- 1238ه/ 1650- 1822م)، مبرزا أنه غالبا ما ارتبط الإشعاع الحضاري لمدينة مكناس في أذهان الكثيرين بأوائل الدولة العلوية؛ إذ اتخذها السلطان المولى إسماعيل عاصمة لملكه، وجعلها تتبوأ مركز الصدارة بين الحواضر المغربية، حيث تحولت إلى أول حاضرة شملها التقييد العمراني العلوي. وغدت مقرا للسلطان ومركزا لتنظيم الدولة بكل ما يحويه من نظم إدارية وعسكرية ودفاعية. مع ما واكب ذلك من نهضة عمرانية مكثفة ومتنوعة مست شتى أنماط العمارة، وهمت مختلف المؤسسات الدينية والعسكرية والثقافية والاقتصادية. واعتبارا لمركزية مدينة مكناس في الدولة، فقد شكلت بؤرة حاسمة في الصراع الذي دار حول الحكم بين أبناء المولى إسماعيل، مما جعلها تعيش أوضاعا مضطربة على غرار المغرب كله، كان أقصاه أفول نجم المدينة بعد نقل السلطان المولى عبد الله العاصمة إلى فاس؛ إذ لم تحظ على عهد من خلفه بالأهمية التي نالتها أيام السلطان المولى إسماعيل. أما الفصل السابع من هذا الكتاب؛ فقد خصصه الأستاذ عمر الصوصي علوي للحديث عن “مكناس في مرحلة التغلغل الاستعماري بالمغرب” عبر تسليط الضوء على الأدوار السياسية والدبلوماسية والعسكرية للمدينة في ظل بنيات تقليدية ما بين 1238- 1331ه/ 1822- 1912م. في حين يحمل الفصل الثامن من الكتاب عنوان “مكناس خلال عهد الحماية الفرنسية: مقاومة وبنيات وتحولات”، وهو فصل أبرز في ثناياه الأستاذ عبد العزيز الطاهري الأهمية التي حظيت بها مدينة مكناس في مسار السيطرة الاستعمارية الفرنسية؛ إذ احتلت مكانة خاصة في الاستراتيجية الاستعمارية باختيارها منذ احتلالها سنة 1911م قاعدة عسكرية وعاصمة للمعمرين الأجانب، بحكم مؤهلاتها الطبيعية المتنوعة وموقعها الاستراتيجي الهام. كما استعرض الباحث أهم محطات الحركة الوطنية بمدينة مكناس ومقاومة القبائل بأحوازها للمستعمر الفرنسي. هذا وخصص الباحثان عبد الواحد مهدوي ومصطفى كنكورة الفصل التاسع والأخير من الكتاب للحديث عن “مكناس ما بعد الاستقلال” إلى الزمن الراهن، شددا فيه على ما تستلزمه دراسة هذه المرحلة من انفتاح وتوظيف لوثائق جديدة تلقي الضوء على أهم تحولات المدينة، وفي مقدمتها الوثائق الإدارية ومخططات تصاميم التهيئة، وهو ما حاول الباحثان تتبعه والاشتغال عليه بغية تقديم صورة تقريبية عن أوضاع مكناس إبان هذه الفترة عبر عرض معطيات حول التطور السكاني خلال أطوار متفرقة، وتتبع لاتجاهات التوسع المجالي للمدينة من خلال تحليل مجموع المخططات لإبراز أهم المنجزات التي همت النسيج العمراني للمدينة، دون إغفال الإشارة إلى بعض مواطن الخلل التي شابت ذلك. كما تم رصد أهم المقومات الاقتصادية والمعمارية والثقافية لمدينة مكناس، من خلال تتبع بعض القطاعات الاجتماعية لاسيما تلك المتعلقة منها بالوضع التعليمي والصحي استنادا إلى وثائق وسجلات رسمية، واستنتاج خلاصات حولها. على العموم نقول، إن كتاب “مكناس عبر التاريخ” سيظل يمثل ثمرة في اتجاه ترسيخ قيمة العمل الجماعي، ومرآة عاكسة لأهمية تظافر جهود ثلة من الباحثين بأفق فهم مدينة مكناس وتقريبها للقارئ في بعدها التاريخي ودورها الحضاري وطبيعتها العمرانية؛ فالكتاب بما يكتسيه من قيمة علمية تجعل منه إسهاما وازنا وإثراء للخزانة الوطنية، وإضافة نوعية لاستعادة ذاكرة مدينة مكناس العريقة، يحتم الربط بين واجب الذاكرة وسؤال التاريخ في كتابة تاريخ مدينة مكناس.