تعتبر مدينة القصر الكبير من أعرق المدن المغربية وأقدمها على الاطلاق، وتعاقبت عليها حضارات ودول متعددة، واحتضنت أحداتا ووقائع تاريخية مهمة أترت ليس فقط في تاريخ المغرب فحسب وانما في تاريخ العالم. ان التناول المنهجي لتاريخ مدينة القصر الكبير يقتضي بالضرورة تقسيم تاريخها الطويل الى حقب وفترات تاريخية معينة بدل التناول الكلاسيكي الذي يقوم بالأساس على ربط تاريخ المدن بالدول أو الأسر الحاكمة كالمرابطين والسعديين والعلويين. وهكذا يمكن تقسيم تاريخ المدينة وأطوارها الى أربعة فترات تاريخية رئيسية وهي : الفترة القديمة، ثم الوسيطة، فالحديثة، ثم المعاصرة. وسنقتصر في هذا المقال على ابراز بعض الجوانب المهمة خلال الفترة الوسيطة. والتطرق لبعض الاشكاليات والقضايا التي تهم بالأساس تاريخ المدينة في العصر الوسيط. عرفت المدينة تاريخيا بمجموعة من التسميات والألقاب لعل من أبرزها قصر كتامة، أو قصر ابن عبد الكريم أو القصر ثم القصر الكبير، تمييزا لها عن القصر الصغير الذي كان يسمى كذلك بقصر مصمودة أو قصر المجاز. بنيت مدينة القصر الكبير على أراضي سهلية خصبة على وادي كبير شتوي يسمى وادي اللوكوس على العدوة الشمالية منه. وقد اختلف الباحثون والمؤخون بشكل كبير في تحديد تاريخ دقيق لتأسيس المدينة، فهناك من يقول أنها بنيت سنة 102ه من طرف أمير كتامة عبد الكريم. وهناك من يقول أن السلطان يعقوب المنصور الموحدي هو الذي بناها أواخر القرن 6ه/12م. لكن من المؤكد اليوم لذى الباحثين أن تاريخ 102ه لايمكن الاعتماد عليه كتاريخ لتاسيس المدينة، فهذه الفترة عرفت المراحل الأولى للفتح الاسلامي ببلاد الغرب الاسلامي. كما أن يعقوب المنصور الموحدي لم يكن مؤسسا للمدينة بل كان مثل باقي ملوك وسلاطين وأمراء الدول المغربية الذين أتوا بعده، مهتما بها فأضاف الي المدينة مجموعة من البنائات والمؤسسات المختلفة. لعل من الراجح اليوم أن تأسيس مدينة القصر الكبير ثم خلال القرنين الثالث والرابع الهجريين، وهي الفترة القريبة نسبيا من استقرار قبيلة كتانة ببلاد المغرب الاقصى، وأن المدينة ظهرت أول مرة في شكل سوق أسبوعي ثم سوق دائم، وهذا ماجعل التأسيس لا يرتبط بفترة محددة أو سنة معينة ويفسر أيضا الاختلافات السابقة بشكل كبير حول النشأة والتأسيس. ومن الراجح أن نمو هذا السوق أعطى مركزا حضريا يختلف في ذلك عن أصول تأسيس أغلب المدن المغربية. وهذا ما يمكن توضيحه من خلال المسافة الفاصلة بين موقع السوق المركزي والجامع الأعظم، اذ نجد أن السوق متمركز وسط المدينة المسورة بينما يحتل الجامع موضعا متطرفا قريبا من السور. تشير المصادر التاريخية المختلفة أنه على اثر وفاة الأمير الادريسي ادريس الثاني واقدامه على توزيع أقاليم المغرب الى مجموعة من الأقاليم والمقاطعات التي وزعها على أبنائه وذلك سنة 213ه 927م، وخلال هذه الفترة ظهرت نهضة عمرانية مهمة غير مسبوقة بمختلف مناطق وجهات المغرب الاقصى أدت الى تمصير وتحضر كثير من المواقع والقرى خلال تلك الفترة، التي لعل من أبرزها قصر كتامة الذي أصبح قاعدة لأحد الأمراء الأدارسة خلال تلك الفترة وهو الأمير ادريس ابن القاسم ابن ابراهيم، رغم ذلك يلاحظ أن المدينة كان لها دور ثانوي خلال الفترة الممتدة الى نهاية القرنين 4 و5 الهجريين نظرا لقربها من مدينة البصرة المركز الاقتصادي والسياسي والفكري الهام في عهد الأدارسة، الشئ الذي ساهم الى حد كبير في عرقلة التطور العمراني والاقتصادي لمدينة القصر الكبير. الى جانب الأضرار الكثيرة التي تكبدتها المدينة من جراء المواجهات العسكرية التي واكبت الصراع الأموي الفاطمي مند أواسط القرن الرابع الهجري، حتى غدت في حكم القرى ان لم تكن قد أصبحت قفرا لفترة معينة مما أدى الى اعادة بناءها لما ثم تعمير المنطفة من جديد من طرف قبيلة كتامة. لكن هذا المشروع لم يكتب له أن يدهب بعيدا في خضم التطورات والمستجدات التي فرضها الزحف المرابطي القادم من ثخوم الصحراء والهادف الى توحيد بلاد المغرب خلال تلك الفترة خاصة بعد دخول مدينة فاس سنة 462ه 1069م على يد الأمير يوسف ابن تاشفين. لم تبدا الحياة تعود الى مدينة القصر الكبير من جديد الا مع استثباب الأمر للمرابطين في بلاد المغرب وعودة الهدوء والاستقرار من جديد وهكذا أصبحت المدينة محطة رئيسية يتوقف فيها المجاهدون القادمون من مختلف مناطق المغرب وخاصة من مدن مراكشوفاس للتوجه الى بلاد الأندلس قصد الجهاد ضد الأمراء المسيحيين. مما دفع ببعض سكان البادية المجاورة من التوجه الى المدينة الصغيرة وتعميرها، الا أن ذللك لم يجعلها تتبؤ مكانة المدينة لأن عصر المرابطين كان قصيرا وسرعان ما مسته الاضطرابات والفتن بسبب ظهور الحركة الموحدية في وقت مبكر 514ه/1121م. وخاصة المواجهات التي امتدت من سنة 535ه الى سنة 541ه . تحسنت حالة القصر يشكل ملموس حينما وضع السلاطين الموحدون الأوائل سياسة عمرانية واسعة كانت تهدف بالأساس الى ترميم المدن والحواضر المخربة والسهر على اعادة بنائها ونشر العدل والأمن والاستفرار فعاد السكان الى مواطنهم القديمة. ولجأ الى القصر الكبير بعض أهل الأندلس وعمروه وتفرغوا لمزاولة الزراعة والبناء والحرف والتجارة. ولعل هذا ما دفع بالجغرافي الشريف الادريسي الى وصفها في مؤلفه نزهة المشتاق في اختراق الافاق، بالمدينة الصغيرة بها أسواق على قدرها يباع بها ويشترى، والأرزاق بها كثيرة، والرخاء بها شاملة... ان أهم فترة خلال العصر الوسيط عرفت فيها مدينة القصر الكبير انتعاشا ونهضة على عدة مستويات اقتصادية وعمرانية ودينية وفكرية هي بالتأكيد فترة تولية السلطان يعقوب المنصور الموحدي الذي أولاها عناية خاصة الى درجة أن بعض المصادر والدراسات التاريخية ربطت تأسيس المدينة بهذا الأمير الموحدي. لعل من الاجراءات والتدابير التي قام بها يعقوب المنصور ومست المدينة ونواحيها استقدامه لقبيلة رباح العربية من بلاد افريقية واقرارها بمنطقة الغرب وأزغار قي المنطقة مابين القصر الكبير وحوض اللوكوس وسبو الى ساحل البحر المحيط وذلك سنة 584ه.وتشير بعض المصادر أن تلك الموجات العربية المستوطنة حديثا تفرقت مدة لابأس بها للتكيف مع المنطقة التي أغرتهم بامكانياتها الفلاحية الكبيرة للتحول من رعاة رحل محاربين الى زراع مستقريين. لكن الأكيد أن الفضل في تعريب المدينة يرجع بالأساس الى القبائل العربية المهاجرة اليها خلال هذه الفترة ثم الى الهجرات الأندلسية التي حجت الى القصر الكبير بشكل متتابع مند عصر الأدارسة. ان نزول واستقرار هذه القبائل العربية كان له بعض النتائج السلبية على المنطقة فلا نعرف الى أي حد ساهموا في العبت في مخازن الحبوب وغيرها والتي وجدها الخليفة الموحدي الناصر فارغة سنة 507ه / 1212م/. الى درجة أن أغلب المؤرخين يعتبرون هذا الحادث بداية النهاية للدولة الموحدية حيث ظهرت بعد هذا التاريخ ثورات متعددة هنا وهناك كانت أشدها على الاطلاق الحركة المرينية التي صعدت مبكرا الى بلاد أزغار والهبط فصارت تهاجمها باستمرار مند سنة 614ه وبذلك دخلت هذه الحركة المناوئة للموحدين في حرب طويلة الأمد مع قبائل رباح العربية المساندة للموحدين. وقد زاد من شدة الصراع الموحدي المريني أن المدينة عرفت حركات انفصالية متعددة خاصة حركة ابي الطواجين سنة 625ه/ 1228م. وحركة ابن وانودين سنة 635ه. وبذلك خلا الجو لبني مرين بالمنطقة فتمكنوا من السيطرة على مختلف بلاد المغرب ودخلوا مدينة القصر الكبير. استفادت المدينة خلال العهد المريني من العناية الكبيرة التي حظيت بها من طرف الأمراء والسلاطين. حيث جعلتها الأحدات السياسية والعسكرية المتلاحقة عاصمة للمنطقة خلال تلك الفترة خاصة وأنها أصبحت المدينة الوحيدة في الجهة الشمالية الغربية بعد أن هدمت مدينة أصيلا سنة 663ه/ 1262م. بأمر من أبي القاسم العزفي حاكم مدينة سبتة الى جانب التخريب الذي أصاب المدن التي كانت تجاورها بمنطقة الهبط والغرب. فأزداد عدد السكان بالمدينة واتسع العمران وانتظم بشكل كبير بسبب المكانة الادارية للمدينة على عهد المرينيين ووجود العامل وصاحب البلد بها. وأقيمت بها قصورا كبيرة لسلاطين بني مرين الذين نزلوا بها حينما كانوا يقصدون هذه الناحية لمواجهة المتمردين والثوار. ازدادت مكانة المدينة وأهميتها حلال العهد المريني، حيث أصبحث خلال تلك الفترة مقرا لحكام بني اشقيلولة التي نقلها الخليفة يوسف ابن يعقوب المريني من الأندلس، حسما للنزاع بين هذه الأسرة وبين أسرة بني الأحمر الى مدينة القصر الكبير. عرفت المدينة ازدهارا كبيرا في عهد السلطان أبي الحسن المريني وابنه أبي عنان نظرا للعناية التي حظيت بها في عهدهما مثل بناء المدرسة الكبيرة والمارستان وباقي المؤسسات التجارية مما ساهم في تزايد اشعاع المدينة العلمي والحضاري والاقتصادي.