حسن العاصي / كاتب وباحث فلسطيني مقيم في الدانمرك إن كنت تشعر أنك تتعرض لتمييز بسبب حالتك ووضعك وخلفيتك الاجتماعية أو العائلية أو القبلية أو الطائفية، أو بسبب الانتماء الديني أو المذهبي أو العرقي، أو التمييز بسبب وضعك الاقتصادي أو مستواك التعليمي أو عملك أو لغتك، أو بسبب مكان إقامتك وقريتك ومدينتك، أو بسبب نوع جنسك وعمرك ولون بشرتك ومظهرك، أو بسبب أفكارك ومواقفك، فأنت إنسان مهمش. التهميش أصبح ظاهرة عميقة ولافتة، بالغة التأثير في الحالة العربية وقبيحة. وهي ظاهرة لا تقتصر على المجتمعات التي تعاني من مشكلات اقتصادية وسياسية واجتماعية، بل تشمل أيضاً جميع المجتمعات والدول، سواء تلك الغنية أو الفقيرة، الدول التي تشهد صراعات أو الأخرى المستقرة نسبياً، الدول التي تحكمها أنظمة استبدادية أو تلك الأقل استبداداً. وهي ظاهرة تطال تداعياتها الدول الأخرى غير العربية، الإقليمية منها أو الدول الأوروبية، التي يفر إليها الناس من بلادهم نتيجة تعرضهم للتمييز والقهر والجوع. الاقصاء والتهميش هما أخطر ما يواجه المجتمعات العربية حالياً وفي المستقبل، لأن الإلغاء يتسبب برد فعل دفاعي من قبل الأفراد والجماعات، ويؤدي إلى تحلل النسيج الاجتماعي للدول، ويقوض الوحدة الداخلية، ويتسبب في بروز تناحر وصراع بين فئات المجتمع، مما ينتج العنف والقسوة والإرهاب الذي يظهر أمامنا في أكثر من مكان. إن التصادم بين المسحوقين والأنظمة المتسلطة يدفع إلى عالم المهمشين أعداداً كبيرة متزايدة من أفراد المجتمعات، ويوفر بيئة مثالية للثورات. والدولة التي تقوم أركانها على القهر والإفساد والشللية، وتهميش العقول المبدعة وتسطيح القيم، وتقديس كل ما هو تافه ركيك لا قيمة له ولا طعم، وإعلاء لقيم الاستهلاك والطاعة والخضوع والجهل والجهلاء والمنافقين، هي دولة خربة سائرة في درب الزوال. التهميش في اللغة والمصطلح في اللغة فإن التهميش هو الشيء الثانوي غير الرئيسي، وترك الشيء جانباً وعدم جعله في اهتمامك المباشر. اجتماعياً، فإن الإقصاء هو قيام النظام أو المجتمع بتهميش الأفراد أو الجماعات لأسباب عرقية أو مذهبية أو طائفية أو قبلية أو سواها. وفي المصطلح فإن التهميش هو الأفعال التي تصدر من المجتمع أو من أفراد فيه ضد أفراد آخرين أو جماعات، وتهدف هذه السلوكيات إلى التخلص من الناس الذين لا يرغب فيهم المجتمع، أو الذين يعتقد أنهم بلا منفعة، لذلك فهم فئة مستهدفة لاستثنائهم من نظام التفاعل المجتمعي الطبيعي، ووضع العراقيل أمام تحصيلهم العلمي والمعيشي، وتحديد الفرص التي تمنح لهم مقارنة بالآخرين، ثم تقليل إمكانية استفادتهم من الموارد الطبيعية للمجتمع، وقد يصل الأمر إلى حد الممارسات العنصرية التي تظهر قدراً بغيضاً من الكراهية لهم، وفي بعض الأحيان يكشف الإقصاء عن مخالبه وأنيابه بصورة أكثر تطرفاً وعدوانية، حيث يمارس التطهير العرقي والإبادة الجماعية، وهذا ما حصل في أماكن متعددة من هذا العالم. يختلف الإقصاء والتهميش في تنوعه ومفاهيمه وحدته وشموليته بين مجتمع وآخر، تبعاً للمستوى الاقتصادي والثقافي، فالتهميش في المجتمعات المتطورة يختلف في نوعيته ودرجته عن ذاك الإقصاء الذي تمارسه أنظمة ديكتاتورية، أو مجتمعات فقيرة جاهلة. حيث ترى أن بعض الجماعات أو بعض الأفراد يعيشون في ظروف حياتية قاسية رغماً عنهم، في أماكن نائية وبعيدة عن المؤسسات الخدمية ونظام الحماية الذي يتمتع به المواطنين من الدرجة الأولى. في مجتمعات أخرى يترك بعض من الناس يموتون غالباً بسبب المناخ أو الجوع أو الأمراض والأوبئة أو بسبب الحروب والنزاعات المحلية. وفي أماكن ثانية يتم التعامل مع النساء على أنهم اقل درجة وشأناً من الرجال، وبالتالي لا يحصلون على نفس الحقوق، بل غالباً ما يتم استعبادهن وبيعهن للعمل في المنازل أو الحقول أو المنشآت، ويتم اغتصابهن والاعتداء الجسدي عليهن. حتى في المجتمعات الغربية هناك تهميش ضد بعض الفئات من المجتمع، مثل المدمنين على الكحول أو المخدرات، أو المثليين، أو ذوي الدخل المتدني والمحدود. جيوسياسياً يبدو التهميش والإبعاد بمثابة العنف الاجتماعي الذي يمارسه المجتمع -جميعه أو بعضه- ضد جماعات أو أفراد في ذات المجتمع، لذلك ليس مستغرباً أن يظهر مصطلح الإقصاء في جوهر كافة الصراعات والحروب التي خاضتها البشرية منذ القدم، وهي حروب الغاية منها تدمير وإلغاء الأخر. ونجد معاني التهميش في كافة الصراعات الاجتماعية مهما اختلفت التسميات والمظاهر. من هو المهمش؟ هو كل ما يتم إقصائه ضمن سياسة متعمدة من السياق الإنساني الاجتماعي أو الثقافي أو السياسي أو الحقوقي الذي يمثل الغالبية. والمهمشين غير المنفيين أو المهاجرين، لأن الإنسان المهاجر قد اختار منفاه وقرر بمحض إرادته الحرة الهجرة، لكن الشخص المهمش هو من يتم عزله قصدياً ولأسباب متنوعة دون رغبة منه. المهمشين أفراداً من المجتمع لكن لا أحد يريد تذكرهم أو الانشغال بهم نتيجة أن المجتمع لا يرى أي أهمية لهؤلاء، إما لأسباب ترتبط بالتنافس غير الشريف على الوظائف والمراكز، وربما الخشية من المقدرة المعرفية للمهمشين الذين عادة ما يكون بينهم الكثير من المبدعين. وقد يكون التهميش ناتجاً عن مجرد الاختلاف، لأن الإنسان المختلف غير المتوافق مع الغالبية هو شخص غير مرغوب، وغالباً لا يتم عزل إلا الافراد المتميزين المبدعين الذين يخشاهم الأخرين، وترى الأنظمة بهم خطراً كامناً، فالإنسان الجاهل لا يتم إقصائه. كثيرون هم المهمشون منذ قدم التاريخ، فقد تمت محاربة وأقصاء أهل الفكر والعلم والفلسفة أمثال “ابن رشد، أبي حيان التوحيدي، سفيان الثوري” وسواهم الكثير ممن حرموا من مواهبهم والظهور في أوساطهم. وما زال التهميش قائماً في غالبية المجتمعات العربية المرتبطة قبلياً وطائفياً ومذهبياً، وترفض الانصهار مع المكونات الأخرى من أجل الحفاظ على النسل. وهذا التهميش والإلغاء الاجتماعي يعكس في جانب منه الطبيعة الإنسانية الموحشة المتغوّلة. ثقافة الإقصاء وهي من الآفات البغيضة التي عهدها البشر منذ القدم. ثقافة تفتك بالمجتمع التعددي وتبطش بتلاحم الشرائح الاجتماعية، وخطرها أشد هلاكاً من أي تهديد خارجي. ثقافة تعتمد التهويل والتخويف بهدف تشويه حقيقة الآخرين، والتقليل من شأنهم وعدم احترام أفكارهم المخالفة، تمهيداً لتهميشهم وإلغائهم. أن تعتقد أنك على صواب ليس نقيصة، لكن أن تحرم الأخرين من حق الاختلاف معك فهذا فعل مذموم، لأن لا أحداً منا يمتلك كامل الحقيقة في هذا الكون المتنوع المتعدد، وفي هذا العصر الذي شهد تطور التقنيات التي أدت إلى الثورة الرقمية والثورة المعلوماتية، وسهولة الحصول على المعلومة وسرعة انتقال البيانات وانتشارها. لذلك تصبح ثقافة التهميش التي تعتمد في جزء من مضمونها على تجاهل الآخر والتشكيك بصدقه، كأنها تقف في وجه التطور والتاريخ. هي الثقافة التي أسهمت في إحداث أسباب الانحطاط الثقافي والأخلاقي والقيمي في العالم العربي. الأفراد والمجتمعات التي ينتشر فيها التهميش والإقصاء هم عبارة عن تكتلات يرون بعين واحدة، ويفكرون بطريقة واحدة، ولديهم غرور أحمق ونزق صبياني، ويعتقدون أنهم وحدهم يمتلكون الحقائق، فإما أن تكون معهم أو أنك في ضلال ضدهم. وإن رفض بعض الأفراد أو الجماعات الانصياع الطوعي لهذه الإملاءات الجماعية، التي تتسم بضيق الفكر والأفق، يقرر المجتمع تهميشهم وإلغائهم عبر وسائل غير شرعية -غالبا-. هذه العقلية الاستعلائية البغيضة يتم توريثها في المجتمعات العربية في العائلة والمؤسسة التعلمية، عبر التلقين الضرير للصغار عما هو مختلف عنهم ثقافياً أو اجتماعياً أو مذهبياً أو عرقياً أو دينياً، والتخويف منه والتحذير والتشكيك بصدق أقواله وافعاله وانتمائه، بدلاً عن تعليمهم حرية الاختيار وإبداء الرأي دون خشية العقاب، وزرع بذرة الاحترام للآخرين والتعايش معهم واحترام التعددية في نفوسهم. نظريات القتل الرحيم أقبح مظاهر التهميش والإقصاء تظهر في نظرية مؤسس علم “تحسين النسل” وصاحب كتاب “عبقرية الموروث” العالم البريطاني “فرانسيس غالتون” الذي أمضى سنوات في السودان وناميبيا لدراسة سلوك السكان، ويعود له الفضل في استخدام البصمة لتحديد الهوية. واعتبر فرانسيس أنه بالإمكان إجراء تحسين منظم للجنس البشري، عبر اختيار ما أسماهم بالوالدين المتفوقين. وهي فكرة تقوم على الإقصاء بواسطة الإجهاض ارتباطاً لمعيار عرقي. ووضع هذا العالم البريطاني الذي يمت بصلة قرابة للعالم الشهير “تشارلز داروين” نظرية أسماها “الاستيلاد الانتقائي” للبشر والحيوانات، لتحسين النسل عبر الأجيال عبر الصفات الوراثية، فيتم تشجيع الأصلح والأرقى على التكاثر، وتثبيط الأقل جودة وصلاحية والقضاء عليه. وبالتالي فإن الجانب المرعب في نظرية تحسين النسل السلبي هو إقصاء وإلغاء أي عنصر أو مكون يتم اعتباره غير نافع، وتتدرج إجراءات هذه النظرية من جعل المرء عقيماً غير قادر على الإنجاب، حتى الإجراء الأكثر وحشية عبر إبادة الأضعف. وهذا تماماً ما فعلته ألمانيا النازية الهتلرية في ثلاثينيات وأربعينيات القرن العشرين، من خلال سعيها لإحداث عرق ألماني صاف، حيث قام العلماء الألمان حينها بإجراء تجارب وحشية عديدة تمت على البشر، ثم قاموا بتعقيم مئات الآلاف من الرجال الألمان، ممن تم اعتبارهم أنهم غير صالحين عقلياً على الإنجاب، كما تم قتل وإبادة عشرات الآلاف من المعاقين والمرضى ضمن البرنامج القسري “القتل الرحيم”. في بداية القرن العشرين أقدمت عدة ولايات أمريكية على الشروع بتنفيذ سياسة “تحسين النسل” عبر إصدار قوانين جديدة للزواج تتضمن معايير جينية، يتم بموجبها حرمان المصابين ببعض الأمراض من الزواج. وقد تم تعقيم المصابين بالعته قسرياً بقوة القانون في الولاياتالمتحدة الذي استمر العمل فيه من بداية القرن العشرين ولغاية أواسط الستينيات، حيث تم تعقيم حوالي 100 ألف مريض خلال هذه الفترة، فيما وصل العدد في ألمانيا النازية إلى حوالي 460 ألفاً. سوسيولوجيا الاختلاف إن الضغوط التي يلقيها المجتمع على أفراده وسياسات التهميش والإقصاء التي تمارس ضد الأفراد والجماعات، بحكم الاختلافات الطبقية أو العرقية أو الطائفية أو المذهبية، تشكل مأزقاً حقيقياً للأفراد والمجتمع والدولة، ويؤشر على السقوط الوضيع للإنسان. هنا يظهر المجتمع مكاناً خاصاً للاصطفاء حيث يكون البقاء فيه للأصلح، لا مجتمع طبيعي يتطور الناس فيه جميعاً على نحو مدني حضاري. فلا يمكن للمجتمعات البشرية الحديثة أن تستمر وتتطور بدون عملية التماثل التي يعرفها علماء الاجتماع ومنهم على سبيل الذكر الأمريكي “تشارلز كولي” أنها سعي أفراد المجتمع للمحافظة على جملة القيم والمعايير التي وضعتها جماعة محددة، وهو تقليد وسلوك اختياري طوعي غير قسري، للنمط السائد في المجتمع، وهذه المعايير تختلف عن السلوك التنافسي أو العدائي، من خلال بقاء الأفراد مستسلمين إلى حد ما لهذه المعايير بهدف الاستمرار والبقاء، لا بهدف التفوق. وكي لا يكون كلامنا نظرياً بحتا، فإننا سنقارب مفهوم التماثل بنموذج واقعي، حيث يرى غالبية الناس أنه من الحرج الذهاب إلى حضور مناسبة دون لباس خاص بها، وسبب الحرج هنا هو الإحساس بأنك سوف تثير استهجان الناس إن لم ترتدي الثياب المناسبة، وبأن شعورك أنت ذاتك سوف يتعرض للتجريح بسبب المواقف وردود الفعل السلبية الصادرة من الآخرين. هذا تماماً ما يعكس النمط الذي تهيمن خلاله الجماعة على الأفراد في كثير من الأمور، التي قد لا تملك أنت نفسك هدفاً خاصاً وواضحاً حيالها، والجماعة تفرض عليك فعل ذلك دون هدف محدد. إن الاختلاف يفرض علينا التفكير بالجينات التي يحملها الآخر، وهو ما يعرقل التواصل الطبيعي الإنساني، لهذا ربما أن البشر لا يشعرون بالراحة إن تواجدوا مع أحد مختلف عنهم بشكل ملحوظ، أياً كان نوع هذا الاختلاف. قد يظهر للناس أن لجم الاختلاف يكون بدافع طبيعي، لأن المجموعة عليها أن تقدر وتحترم ضوابطها ومعاييرها الفكرية والاجتماعية التقليدية، لذلك المجتمع يرفض كل ما من شأنه اعتراض هذا النمط وقمعه. رفيق البشرية منذ أن وجد الإنسان وجد التهميش، ولا يزال الخل الوفي للبشرية، في التاريخ الأوروبي نشهد صوراً مختلفة ومتعددة للتهميش والإقصاء، منذ الحضارة اليونانية التي ارتبطت بها أول أشكال الديمقراطية التي كانت تقتصر على أقلية محددة من السكان، لأن حق الانتخاب كان متاحاً فقط لمن كان أبويه أثينيين، وبهذا فهي ديمقراطية هزيلة هشة لا طائل منها في ظل غياب العدالة الاجتماعية، مما أفضى إلى حدوث ثورة اجتماعية لاحقاً. بينما اعتبر الفلاحين من طبقة تتيح لهم ممارسة الحقوق السياسية بسبب حيازتهم للأرض، تم اعتبار الصناعيين الحرفيين أنهم من الطبقة المهمشة اجتماعياً. وكانت توجد أيضاً طبقة الغرباء المحرومين من حقوق المواطنة، بالرغم من فرض الضرائب عليهم وحرمانهم من ملكية الأرض، بجانبهم وجدت طبقة الأرقاء الذين كانوا يتألفون من أسرى الحروب غالباً. وكان معظم الفلاسفة اليونانيين يبررون وجود هذه الشرائح الاجتماعية المسحوقة لخدمة مجتمع الأحرار الأسياد. في العصور الوسطى من القرن الخامس لنهاية القرن الخامس عشر، عاشت أوروبا بسبب النظام الإقطاعي المتوحش الذي امتلك الأرض ومن فوقها من بشر وشجر وحجر، والدور الكبير للكنيسة ورجال الدين في إقصاء الفلاسفة ورجال الفكر والعلم، أسوأ مراحلها في التهميش والقتل والحروب، وانضمام شرائح اجتماعية باضطراد إلى الفئات المهمشة التي تشقى لتوفير رفاه الحياة للأسياد. في العصر الحديث، نجد التهميش ضد الأفراد والجماعات في أغلب الأماكن في العالم، وخاصة في الدول النامية التي تكثر فيها الأقليات العرقية والمذهبية والإثنية واللغوية، ما زالت تتعرض بعض الفئات للتهميش في المجتمعات الغربية، إذ يتم تهميش المثليين ومدمني الكحول والمخدرات ومرضى الإيدز، وبعض الأمراض الأخرى كالبرص مثلاً، وبعض أنواع الإعاقات. ولا زالت المرأة مهمشة في العديد من دول العالم، وينظر لأطفال الشوارع والمشردين التي تغص بهم بعض المدن العربية والغربية على أنهم فائض حاجة ولا أحداً يريدهم، كما ويمارس التمييز ضد فئات بعينها حتى لو تم إنكار ذلك مثل اللاجئين والمهاجرين والغرباء. وفي دول مثل الهند ونيبال وبنغلادش يتم نبذ جماعة “الداليت” وهم طائفة من الهندوس يُنظر لهم على أنهم جماعة ملوثة غير طاهرة، وكان قديما يمنعون حتى من السير في الطريق العام للقرى. وفي اليابان الدولة العبقرية يوجد لديها حوالي مليونين من المواطنين منبوذين كانت تسميتهم سابقاً “الملوثون” واليوم يطلق عليهم “بوركامين” وهم من سكان القرى المتواضعة، ويعيشون في عزلة ويتعرضون لتمييز اقتصادي واجتماعي حيث لا يتزوج منهم أحد. وكذلك الأمر بالنسبة لجماعة “بايكجيونج” في كوريا، وطائفة “راجيابا” في التبت ذات الحكم الذاتي والتابعة للصين التي يمارس في أجزاء متفرقة منها التهميش والإقصاء ضد العديد من الأقليات الدينية والعرقية. كما يعاني الغجر من التهميش والتمييز ضدهم في جميع الدول التي يتواجدون فيها. وفي اليمن المنهك يوجد مجموعة سكانية تعود أصولها إلى الحبشة يسمون “الأخدام” أو اليمنيين الأفارقة، يتعرضون للتهميش والإقصاء والتمييز بسبب بشرتهم السوداء وملامحهم الأفريقية، ويعيشون في عزلة تامة، ويعملون عادة في غسيل السيارات وتنظيف الشوارع والتسول. المهمشون في الولايات المتحد غالباً ما يكونون وقوداً للحروب التي تخوضها أمريكا، على سبيل الذكر فقد شارك نحو 40 ألف جندي من القوات الأمريكية في معركة احتلال العراق، من المقيمين في الولاياتالمتحدة يحملون بطاقات الإقامة، وليسوا من المواطنين ذوي الجنسية الأمريكية. وكانوا هؤلاء المرتزقة ومعظمهم من أصول لاتينية يأملون في تسريع إجراءات الحصول على الجنسية الأمريكية، بعد أن تم تقديم حوافر لهم من قبل السلطات الأمريكية، بشرط عودة المجند حياً من مناطق القتال. وقد أسماهم النائب البريطاني “جورج جلاوي” بأنهم “قوات جرين كارد”. الغرب عموماً والولاياتالمتحدة بصورة خاصة تقوم باستخدام المهمشين لخوض معاركها. فنسبة السود في الجيش الأمريكي تشكل حوالي 40 في المئة، بينما يشكلون حوالي 25 في المئة من العدد الإجمالي للسكان. وهؤلاء الذين يعتمد عليهم الجيش الأمريكي بينما يتم إعفاء أبناء وبنات من يمتلكون الثروة من الخدمة العسكرية. الحريق الكبير استهداف بعض الأفراد والجماعات بالعنف أو التعنيف والنقد الطاحن، ونشر الخوف غير المبرر والكراهية للأجانب أو للغرباء، لا يمكن اعتباره إلا نوعاً وحشياً من التهميش والإقصاء. أيضاً التهميش الاقتصادي لشرائح من المجتمع هو نوع من التمييز، كما التهميش الذي تتعرض له النساء لغاية الساعة في عدد من المدن والقرى والبلدات العربية وسواها، يعتبر تمييزاً موجعاً ضدهن. أيضاً انتشار ثقافة المحسوبية التي تتيح لعدد من الناس الانتفاع من الفرص، فيما يتم حرمان الآخرين منها، هو تمييز وإقصاء ظالم. إقصاء المبدعين وأصحاب العقول والفكر والضمائر، وإتاحة الفرصة للجهلة والمدعيين، هو تهميش يهدم المجتمعات. أياً كان نوع التهميش الذي يمارسه الأفراد أو الجماعات أو الأنظمة ضد الأفراد والجماعات الأخرى المختلفة سياسياً أو فكرياً أو دينياً، فإن هذا الفعل ينتج الظلم والقهر والاضطهاد في المجتمع، لذلك يلجأ المهمشين أفراداً وجماعات غالباً إلى عصبياتهم الطائفية والعرقية والمذهبية والطبقية، للاحتماء من بطش الآخرين، وبهدف التلاحم والتضامن فيما بينهم لإثبات هويتهم، ومن هنا تتوفر البيئة الملائمة لظهور ونمو التطرف والعنف. غالباً ما تجد في الهوامش العناصر الأكثر فاعلية والتي تعكس تفاعلات المركز، لكنها أيضاً كثيراً ما تغيب عن ملاحظة الكثيرين. إن مصائر الشعوب تحدده التفاعلات التي تحدث في قاع المجتمع وهوامشه، حيث يقبع الفقر والشقاء والحرمان وبؤس الحياة. هناك تجد المهمشين وبينهم الكثير من المبدعين والمتفوقين في مجال الأدب والفن والفكر، لم يجدوا مكاناً لهم في أطر مجتمعية تغلب عليها مظاهر الخداع والزيف والنفاق والانتهازية. هؤلاء المهمشين يتكاثرون في وجود أنظمة عربية معظمها قائم على الاستبداد والقهر وتحالف السلطة السياسية مع رأس المال الفاسد، في غياب البعد الديمقراطي والتطور التنموي، وإعلاء ثقافة المداهنة والتزلف والمحسوبية. ان استمر تجاهل الدولة والمجتمع للمهمشين، وما لم تكف الأنظمة عن استخدام العصا الغليظة لتأديب هؤلاء الرعاع كلما ارتفع صوتهم احتجاجاً على أوضاعهم، وإن تواصل التضييق على المهمشين وتكميم أفواههم ووأدهم في الحياة، فإن الحريق الكبير قادم لا شك، ولأن النار لا تستعر إلا في أكوام القش والحطب الجاف المتناثر في الهوامش، فإن التاريخ يُظهر لنا بجلاء أن جميع الثورات الاجتماعية التي خاضتها البشرية في سعيها نحو المستقبل الأفضل، أشعلها هؤلاء المهمشين المتطلعين لغد أكثر عدالة وأوسع حرية.