هندسيا يتّسمُ الفعل الإبداعي لدى مثل هذه القامة ،بانتشاره الدائري المنطلق من وإلى جوهر الإشكالية الإنسانية بدرجة أولى ،عبورا إلى منظومة ما يحقّق استنفار متتالية الزوائد التي قد تشكّل وجود الذات في أقرب حالاتها إلى التلاشي والانهيار. وبحيث لا يحفر الدّفق التعبيري إلاّ على مقاسات منسوب جلد الذات،عبر انسكابات هذيانية وقف على حلزونية توبيخ راهن اضطهاد المادة والكائن ،على نحو هيستيري وغير مسبوق. من هنا تحوز قصائد الشاعرة السورية ريم سليمان الخشّ مصداقيتها وسلطتها على القلوب، وإن أعلنت اكتظاظها وتكتّلها في سياقات خليلية مهيمنة لا تزيغ إلى شعر التفعيلة إلاّ فيما ندر. صوت الأنثى المتمرّدة على صنوف اغتصاب الهوية وسحق طفولة الوطن، رافلا في صوّره الغضّة مثلما يمليها شريط استذكار يناور بإرسالية "نيوكلاسيكية" مدغدغة و مفتوحة على تكعيب الذات ،داخل تخوم ما يؤثّر فيها وتؤثر فيه من مكونات وعناصر. هكذا نعيش بميعة ريم وهي تهدل مغرقة في تلوين أوجاعها التي تكاد تختزل وجع شعب كامل، وأحيانا ما يتخطّى كهذا غرض، إلى انخطافات و طقوسيات مستترة،تغذي المشترك الإنساني ،نعيش القصيدة داخل قصيدة. فنجد الغربة لديها مضاعفة ،وتفجير العاطفة مزدانا بأسيّته وتعدّد دواله. [ شاهق من أبدعه بالحنايا جمّعه في دمائي عشقه والحنايا موجعه]. يلتبس على المتلقّي تبين ملامح المحكي عنه، هاهنا، الحالة؟ أم المحبوب؟ أم الوطن؟ وتكون الحركة الدائرية ،بوصلة استقطابنا إلى بعض ما يسعف في فرز خبئ كهذا جموح سيرذاتي ، تداخل فيه الأشكال وتتماوج الأغراض. فبقدر هو انفتاح صيانة قد تصيب منه بعض حظ، غيبوبتنا في حقول الدلالة والتأويل،هو كذلك جملة زئبقية، ربما انقدنا تبعا لغواية تلافيفها المغرضة والمراوغة ، كي نصطدم انتهاء بما يشهر في عراء تسلّطنا على النصّ المكشوف بالتمام، جاذبية العمى وبريق الضلال. لكن وبقليل من تملي عتبة الديوان، تحت وسوم، ليتني دوما معه، قد نهتدي إلى خيوط اللعبة، فنستشف عمق هذا التّدرج ما بين مراتب العقل والقلب، عاكسا لحالة الصحو التام واليقظة الدائمة لدى شاعرتنا، حتّى في أقصى تهويمات منحنا انطباع تمرير سردياتها علينا، مخضّبة بعبير شعرية البرزخي الطاعن بلذاذة تعرية واقع الاصطباغ بالدموية والفوضى والاضطراب. ولنذكي من زعمنا أكثر، نورد الإلتماعات الموالية ، غير منكمشين على ما يبرّر استحواذ نفس شاعرتنا الثوري بالطبع، مشرئبين إلى نشازها الوجداني بوصفه دينامو القول الشعري لديها، وقلب القضية النابض، المرهق بعوالم القلق والشك فيما يوقّع ويحاول بصم كتابة مغايرة ومُتجاوزة بحدّة وكمّ المعالجات التي تطال مفهوم الانتماء: [ لأني مورق بالعشق أصفو وقد سخر الربيع من الشتاء له نهر يفيض على اشتهائي وطوفان الغرام بلا انتهاء]. ……………… [في سكرة العشق الشهيّ لقد تركت له صلاتي بدموع سنبلة نمت حول الضّفاف الحالمات]. ……………… [أتظنُ أنك من أنينك هالكُ مع مالكٍ في حزنه تتشاركُ أتظنُ أنك قد تُركت مع الصدى حتى الصدى متوجعٌ متهالك وتجوع والنهر الكئيب بعزلة ألفَ التصوفَ والدروب مناسك وتعود وشوشة الحقول حزينة للحزن في مجرى الرياح مسالك ويسيل دمعك في المياه بحسرة إذْ أن ذئبك في زمانك ناسكُ ]. …………………….. [أذوبُ بدمعة فتسيل عشقا على شجر بروحيَ منك تُسقى هنالك في تراب الروح تنمو ويزداد التجذر فيك عمقا وتعلم أنني حبَقٌ ذكيٌ ولن أسقى بماء منك أنقى وتخزنني الغيوم بملء عينٍ مع الحلم القرير هناك أبقى وتصعدُ نجمتي في كل ليلٍ إلى حضن البدور هناك ترقى وتأتيني بحبك مثل غيم وأبرق في الفضاء إليك شوقا أنا والرعد في طوفان عشق وكل جوارحي بهواك غرقى وتلتحم القلوب على هيامٍ وقد شاءت أيادي الغدر فتقا ورغم الغدر أزهر في حبيب يضم إلى ذراعيه دمشقا وما ذاقت شفاهيَ منك أحلى ونهرك ثورة ينساب عشقا ]. ……………….. [ كم رحت أكذب هل عساي سأصدقُ إنْ قلتُ إنك بالشغاف موثقُ إن رحتُ أكتب عن عيونك قصتي وعلى عيونك لهفتي تترقرقُ وهمستُ للورد المسجى بالندى إني إلى لثم الشفاه مشوّقُ إني ذُبحتُ على خطاه بقبلة وردية فيها الخلود المطلق ونسجتُ من نور العيون عباءتي فضفاضةً من دفئها أتدفقُ وأصيرُ نبع حكاية قمريّة فيها الشموس من الحنين ستغرق في لجة العشق العميق وتنتهي في دمعتين مع السهاد تؤرقُ لكن قبلته التي طُبعت على خدّ الصباح تعود فجرا تُشرقُ]. …………………. كم كان قلبك دافئا ..[لي بيتُ وتبعتُ نبضك مسرعا لبيتُ فدخلتُ عرشك خاشعا صليت وعلى جلالٍ في الرؤى أبقيتُ لي في الهوى عهدٌ وما ألغيتُ لك مهجتي ولشعرك اللاموتُ لكنني من شوقيَ استحييتُ هو مهلكٌ هو للهيب الزيتُ هو ثورة ..هو كل ما أبليتُ فحضنت قلبك حانيا.. ومضيت]. شعرية التمنّي هته، في لحظات تراميها على خارطة التّيه النرجسي، وعلى امتداد ظلال المُستلهم من عالم يختنق ويحتضر، تقود إلى متاهات الذات التي في مقدورها إماطة اللثام وتنحية الأقنعة عن تحتية موجوعة ودفين مكلوم، موغل في منطق التّراخي الكلامي المشبع بنبرة الانكسار القابع رهن تنميقات بوح واش بعمق الطعنة وتنفيسها عبر تدوير المعنى المُستجلب لإرهاصات أو تمثلات تئد الذات في جملة إسقاطات ما ينطبق على عالم أميل إلى الكرتونية المتلاعبة بإنسانية الكائن. ومن ثم ّ،انرسام هذه التلويحة أو الشطحة الفلكلورية في نهوضها على تقاذفات وتلاطمات تيار اللاوعي، قصد إتاحة مسافة أطول ما تكون في الحلم الواعي، وإغراقا في علوية العوالم الممسوسة بسحر المفردات عند حدود التماس والاحتكاك بتجربة صافية تمتح من أبدية السّكرة أو السرنمة الذاتية . وكأنما هي القصيدة يولّدها رماد الرّوح في غربتها المركّبة والخواء إلاّ من رواسب الطفولة المغموسة في ضوضاء إملاءات وتعاليم الحسّ الوطني مضغوطا بقهريته. إن المعني من خطاب التمنّي هاهنا ، دائما وحسب الديوان، يأخذ في التجلّي ولا تبرز ملامحه إلاّ من خلال اعتماد صيغة الاختزال التي تبلور إيحاءاتها واحدية يراد بها التعدد والتنوع والتناسل. ومن هنا إضفاء تيمة العالمية على مرام الجانب الرّساليّ في جسد القصائد ككلّ ، مترع بذهنية مجبولة على صناعة ما هو كريستالي محتف بالوجع الإنساني كسقف من نواته تكتسي مشروعيتها صرخة الذات بما هي جمع ولمّة تسعى إلى التناغى والتناغم، في أدغالها ، شتىّ العناصر والمكونات. بالتالي هي فسيفساء خليلية، ليس تقول بسوى القدر الذي تتوفر لديه، حسب اشتراطات استثماره الجيد والمحكم، سوانح اغتصاب مسافات التأويل في جدلية التلقّي، عبر انتهاك لحمة المألوف،ومدى افتضاض وفكّ البياضات المشفّرة ،والملغومة بمعمارية البوح المخاتل في انكفائه على خطاب ضاجّ بالطيفيات يعلّق الحالة بالوهم، ويرفع الغائب /الوطن كمعشوق ضمني،حاملا إياه على ذات قلقة شكاكة مهووسة ودوّارة مع أفلاك شعرية التّمني الذائب في كمون الوجع اطرادا مع أحجام تفشّيه داخل دواليب إنسانيتنا المضطهدة. احمد الشيخاوي/ شاعر و ناقد مغربي