بقدر ما القلق حالة نفسية ،هو كذلك في ما يخص انتسابه إلى الممارسة الإبداعية بشكل عام ، حالة برزخية تعيش من خلالها الذات، لحظة صراع وتداخل رؤى واكتظاظ هواجس ثقيلة على حافة الهش والقابل للكسر والمفتوح على احتمالات جمة. كضرب من مسامرة لمرايا المجهول في تجربة ليلية بامتياز، مثقلة بالمشاهد الخريفية والجنائزية والحداد ،بحيث يضيق الأفق حدّ الاختناق دونما ترك عدا ما يشبه الكوة المجيزة والمؤججة لشهوة التجذيف باتجاه العمق وفق ما تُلزمه طقوس تعرية الذات ، وتجود به الأخيلة و الشطحات المتحسسة للمتنفس واسترجاع التوازن، والظفر بمنعطف خلاص مزعوم مثلما تفبركه الوسوسة الرمزية. وذلك عقب استنفاد طاقة وجدانية كاملة في سبيل المقاومة والنضال ضد عالم الخراب والقلق، ليرخي الفعل الذهني بظلاله لإنتاج المفارقة الدالة على قوة الصوت الداخلي وجبروته، ومن ثم قابلية أو جاهزية الاحتقان بالمشاعر الموجبة المفتية بدمغة البديل المدغدغ لحجب الغيب. إنه البوح المقامر يتخطى نوتة الإدهاش ليروم الأسباب الإرباكية وتغذية الذائقة عند حدود مستويات هذيانية معينة لا تغيّب تيمة الحب، بل تسرف في إقحامها كمفصل نصي كامن يصطبغ به جسد الشعرية كليا ويتقنّع به الجانب الرساليّ المتشبّع بخطاب إدانة راهن الأنانية والدموية والاضطراب. أحسب كهذا غرضا إبداعيا بلبوس اجتراح المعنى في غلاف بكارته، من ضمن أبرز ما تحاول الشاعرة السورية ريم الخش ، صعق جوارح التلقي به ، وهي قناعة استقرّت لدي فور مطالعة باقة من القصائد في لمّة انتقائية هامسة بطوباوية خليلية لإصدار رقمي أول لشاعرتنا، غير معنون أهدتنيه مشكورة مؤخرا، وبطلب منها ارتأيت وسمه بدال من عتبات أشعارها يفي المرحلة حقها « عالم القلق» ملء ما تحيل بصمة هذا المولود الشعري الباذخ، وتحمل على تأويلات تليق بحجم السؤال الكوني وتغطيته الصادقة للوجع العربي المشترك في ضوء إرهاصات نفاق سياسي معولم موغل في ذبح الهوية، ومسوّق للغة دم تحت ذرائع واهية. إنها إحالة على غيبوبة صوفية ووجودية تنهل من معجم إنساني ثري ، يعاضد فيه الحس الوطني الاستشكال الديني، وتنتصر عبره المعلومة للعاطفة والذاكرة لحيثيات الآني وهكذا.لنتأمل ملء حواسنا، متتالية الاقتباسات الآتية: يا من بروحي جلْت العمق زوبعةً/ لم تبق إلا بهي العشق مكتملا أغصان كرمي قطوف الحب دانية /فاعصر حنينك كأس الشوق قد ثملا ................... ملّت نفوس من الأوجاع وانكسرت /أصابها اليأس من قتل وتدمير لا شيء غير لهيب الحب يصهرها/ حتى تعود كما كانت بتقديري .................. نقاء بالأنا يسري / يوازي العطر بالزهر .................. حبي الشآم وهل لي دونها وطن / نور الشآم يطال الكون فتّانا عندي لها نبع شوق حارق دفق/ فالنار أعمقها ما كان بركانا ................... أبا الزهراء تؤلمني بلادي / وما آلت إليه من الحداد و تبكيني مآس قاهرات / و طغمة حاكم نجس يعادي فيا رباه ارحمنا بنصر / بحقّ محمد هادي العباد ................. نفاق القوم يقتلنا ويمضي / كم الذل المخبأ بالرداء أعزي القلب من عرْب لئامٍ / أضاعوا الحرث حبا بالرياء ................... وما زلت الكريمة رغم عوز / فخير العز عز في الضمير .................... فاحفظ قصائدنا لا ترمها عبثا / الشعر ملحمة في غاية الجد ................... ولكن المحبة كنه ديني / مشيت بنارها مشي الحفاة ..................... يمن سعيد قد سعوا في جعله / يمن تعيس مفقر يتعذّب يمن بقلب الله أجمل آية / مالي أراك من النعيم تغيَّب ...................... كالغيمة الحبلى من الأشواق / أعلنت أنك سيد العشاق إرعد وزمجر في الروابي إنها / عطشى وتلهث من لظى حرّاق ..................... ولا معنى لهذا العمر إلا / إذا امتلأت بعشق منك كأسي برحم الكون أحياها حياتي / فيشفى الصدر من آثار يأسي ..................... عاشر صديقك مخلصا / واصدق أمامه واحتف واعمل بكل نزاهة / متودّدا بتعفّف ما أجمل العمر الذي / بربوعه خلّ وفي .................... أيا حبا يظلّلني ويملي / على قلبي التعلّق والتخلي عن الأوهام حتى بات شغلي / وبات الخير مزروعا بحقلي أأبقى في السفينة طول عمري؟ / رجائي الوصل يا سعدي فهل لي ...................... قالت بأن الفجر عهدٌ واعدُ/ إن سُنّنتْ هممٌ كحدّ الخنجرِ عشرات القصائد على امتداد خارطة تعبيرية متناسقة العناصر والسياقات ،تمزج بين الأضداد لتفرز صورة مكتملة وجلية الملامح لمعاناة حقيقية واختمارات للهم الذاتي المتفاقم والمصر على نبذ الكمون ومواقف السلبية والخواء ، والمتشبث بالسرديات الطاعنة بغرائبية حيوات ينسج خيوطها راهن الموت والعبثية والجنون. موسيقى درامية تغتال كواليس الذات، لتناطحنا بشعرية الحب كنواة لتصالح شمولي منوط بمنح الإنسان مثلما العالم،الملائكية والاستقرار والمثالية والنور. إنه محفل كلامي تدبجه أسلوبية الكلاسيكية الحديثة وينقل بجلال وزر اللحظة وعميها، ويغازل بنصوص أعراس الدم عساه يصيب بعضا من نصيب وحظ مبتسم قد يستفز الضمير العربي الذي طال سباته حد إغواء الردى و العدى في حمى منطق تكالبهم على المصلحة و الذاتية والخصوصية العربية. يهدهد المنجز تيمة الحب مناغيا الأعمار المكرّسة لاكتشاف التجليات الإلهية في المكنون وفي شتى الظواهر الطبيعية ،كون ذلك السبيل الوحيد إلى دحر أوبئة ما تنفك تتناسل لتضع في كف عفريت روح العصر، فاسحة لكمّ الدمار و الإخفاقات الذاتية وعلقمية الفاجعة التي نرتشف كأسها كل حين.