أولا : النموذج الإحيائي بين التقليد والتجديد استقرت رحلة الشعر العربي لفترة طويلة عند عصر الانحطاط بعدما تميزت بالركود والجمود والضعف . وطوال هذا العصر، لم يستطع الشعراء مواكبة ما كانت تحفل به القصيدة العربية من فنون القول وعناصر الإبداع في عصور الازدهار. بل إنهم لم يتسطيعوا حتى المحافظة على مستواها الفني والأسلوبي، فكانت النتيجة أن انحسر النظم الشعري، وانحدر انحدارا شديدا، وغلبت عليه مجموعة من سمات التراجع والتخلف كابتذال الأساليب وتكلفها، والركاكة في اللغة والتعبير وضحالة المعاني، والإسراف في الصنعة المبتذلة والإفراط في استعمال المحسنات البديعية. أمام هذا الوضع المتردي لجأ شعراء القرن 19م، مثل : محمود سامي البارودي وأحمد شوقي وحافظ إبراهيم ... إلى إحياء الشعر العربي القديم في معانيه وألفاظه وصوره وأغراضه وموسيقاه، واستلهام ما جادت به روائع الشعر العباسي والأندلسي من أغراض وفنون وصنعة. من ثم، اعتبر الدارسون انتقال الشعر العربي من ذلك الطور إلى هذا الطور بمثابة البعث وإحياء النموذج القديم. وقد استند النموذج الإحيائي على أسس شعرية ومقومات فنية وموضوعية تتجلى في الجوانب الآتية : 1-إحياء نموذج الموروث الثقافي : تعامل شعراء إحياء النموذج مع التراث العربي القديم، واحتذوا تقاليده الشعرية، لكن هذا الاحتذاء لا يقف عند حدود السمات الفنية للقول الشعري، بل يتعداه إلى محاولة استحضار عالم القصيدة الفكري ذاته، وما يروج فيه من قيم ثقافية سائدة، باعتباره يشمل مجموع المعتقدات والآراء والمواقف والرؤى الرائجة داخل الأدب القديم عامة. كان طبيعيا إذن ،أن نصادف داخل قصيدة إحياء النموذج الكلاسيكية، عالم القيم الثقافية القديمة، وأن يظهر ذلك على مستويات عدة منها ما يلي: *أ- شعر الغزل : جسدت قصيدة إحياء النموذج صورة المرأة، كما راجت في قصائد القدامى، تحضر باسمها وسماتها ومظاهرها، يصف الشاعر محاسنها وجمالها ويسرد مغامراته معها، كما كان يفعل عنترة، وكثير عزة ومجنون ليلى ... فهذا حافظ إبراهيم يستهل قصيدته الغزلية على منوال شعراء الغزل القدامى قائلا : تَعَمَّدَتْ قَتْلِي في الهَوَى وتَعَمَّدا *** فما أتَمَّت عَيْني ولا لحظةً اعْتَدَى كِلانَا لته عُذرٌ فَعذري شَبِيبَتِى *** وعذرك أنِّي هجت سيفا مُجَرَّدا ثم ينتقل إلى وصف مغامرته مع محبوبته على المنوال نفسه الذي نجده في شعر الغزل القديم، فيقول : وفَتَّانَة أوْحَى إِلى القَلبِ لحْظَها *** فراحَ على الإيمَانِ بالوَحْيِ واغْتَدَى سَريتُ ولم أحذر وكانوا بمرصدٍ *** وهل حَذرت قَبْلي الكواكب رصدا *ب-وصف الطبيعة : كان وصف المكان عند الإحيائيين بمثابة المكان التاريخي المرتبط بالموروث الثقافي، ومعنى ذلك أن وصف الطبيعة المكانية شبيه بما وصفه الشعراء الجاهليون والعباسيون والأندلسيون. لقد كان الشاعر الإحيائي في وصفه يشير إلى طبيعة ورثها عن الشعراء العرب القدامى، وتتمثل في الصحراء والفرس وعيون المها والسحب والمطر ... يقول شوقي واصفا مشاهد طبيعية حديثة وكأنها صورة من صور الماضي في الشعر العباسي. ولقَد تمرُّ على الغَديرِ تَخَاله *** والنبتُ مرآةٌ زهتْ بإطارِ حلوُ التسلسلِ موجهُ وخريرُه *** كأنامِلِ مَرَّتْ على أوتَارِ ينساب في محضلةٍ مبتلةٍ *** منسوجةٍ من سُنْدسٍ ونضارِ *ج-الخصال والمناقب : استحضر الشاعر الإحيائي جملة من القيم الأخلاقية والخصال الحميدة التي تغنى بها الشاعر القديم في التراث الشعري، وتتجلى هذه المظاهر السلوكية في المدح والرثاء والفخر والحماسة. فإذا مدح الشاعر فإنه يصف ممدوحه بالخصال والمناقب نفسها التي يمدح بها الشعراء في الماضي ممدوحيهم، فيصفه بالكرم والجود والشجاعة والفروسية. يقول شوقي مادحا السلطان عبد الحميد الثاني : أسْدَى إليها أميرُ المُؤمنين يدًا *** جَلت كَما جَلَّ في الأمْلاكِ مُسْدُها وليس مُستعظِمًا فضل ولا كرم *** من صاحب السِّكةِ الكبْرى ومنشيها إن النَّدى والرِّضَى فيهِ وأسرته *** والله للخيرِ هاديه وهَاديهَا وهذا البارودي يقول مفتخرا : عَصيت نَذيرَ الحلم في طَاعةِ الجهل *** وأغضبت في مرضاةِ حبِّ المهَا عقْلِي ونازعت أرسانَ البطالةِ والصِّبا *** إلى غايةٍ لم يأتِها أحدٌ قبْلي فخُذ في حديثِ غير لوْمِي فإنني *** بحبِّ الغواني عن ملامكَ في شغْلِ أنا ابْنُ الوغَى والخيلُ والليْلُ والظبا *** وسَمرُ القنا والرَّأيُ والعِقدُ والحَلُّ 2-إحياء نموذج السمات الفنية والجمالية : استلهم الشاعر الإحيائي من القصيدة القديمة عناصر إبداعه الفني والجمالي، واستمد منها أساليب ووسائل اشتغاله، فكانت السمات الفنية للقصيدة القديمة المنبع الثر للتعبير عن تجربة الشاعر الجديدة. ومن المظاهر الدالة على استحضار قيم الجمال في الموروث الشعري، ما يلي: *أ-الاقتباس من لغة الشعر القديم : عندما نقرأ قصيدة إحياء النموذج، نصادف في ثنايا أبياتها، لغة كلاسيكية متينة، مستمدة من معجم الشعر العربي القديم، تذكر في نفس الآن بأسلوب فحول الشعراء القدامى، من أمثال زهير والمتنبي والبحتري وأبي تمام، ومن ذلك ما نقرأه في هذه الأبيات للبارودي حين أنشد : صريعٌ هوَى يلوي بي الشوقُ كلمَا *** تلألأ بَرْقٌ أو سرت ديمٌ غزر ولو كان ممَّا يُستطاع دفاعه *** لألوت به البيضُ المباتيرُ والسمر ولكنَّه الحُبُّ الذي لو تَعلقتْ *** شرارتُه بالجَمرِ لافترق الجَمرُ *ب-توظيف صور شعرية من المحفوظ الشعري : لقد تأثر الشعراء الإحيائيون بالمعطى الجمالي الموروث، وظلوا محافظين على خصائص الصورة الشعرية التقليدية، من قبيل «اعتمادهم على المجاز والاستعارة وعلى الصورة الوصفية المادية أو الملموسة للمعاني عن طريق التشبيه والمجاز»( ). فهذا البارودي يخلق علاقة مشابهة بين محبوبته وبين مظاهر الطبيعة، قائلا : فالعين نرجسة والشعر سوسنة *** والنهدُ رمانةُ والخدُّ تفاح وهذا أحمد شوقي يستخدم الصور العقلية التي تعتمد على التشخيص والتجسيم، لإبراز مدى تعلقه بمدينة زحلة اللبنانية، التي ارتبط بها بوشائج عاطفية متخيلة سمت به نحو ذكريات أيام الاصطياف الجميلة في أحضان رياضها ورباها، فأنزلها منزلة امرأة راح يتغزل بها، فيقول : ولقد مرَرْتُ على الرياضِ بربوةٍ *** غنَّاءَ كنتُ حيالها ألقَاكِ ضحِكتْ إليَّ وجوهُها وعيونُها *** ووجدْت في أنْفاسِها ريَّاكِ فذهبتُ في الأيامِ أذكرُ رفرفاً *** بَين الجَدَاولِ والعيونِ حَواكِ أذكرت هرولةَ الصبابةِ والهوى *** لمَّا خطرْت يُقبِّلان خُطاكِ لمْ أدْر ما طِيبُ العِناقِ على الهَوى حتى تَرفَّق سَاعِدِي فَطواكِ على أن خصائص عنصر الخيال والصورة قد احتفلت في الدرجة والعمق والفنية بين هذا الشاعر وذاك. فإذا كان البارودي قد جسد في قصائده تلك الصورة الحسية التقليدية المعتمدة على المشابهة، فإن شوقي قد استخدم الصورة العقلية التي تعتمد على التشخيص والأنسنة، بينما عرف حافظ إبراهيم ومعروف الرصافي ببساطة الصورة وتصوير المظاهر الحسية. *ج-المحافظة على النظام النمطي للقصيدة القديمة : لقد حافظ شعراء إحياء النموذج على بنية القصيدة الإيقاعية. فجاءت معظم قصائدهم وفق نظام الشطرين المتوازيين ووحدة الوزن والقافية والروي. 3-النموذج الإحيائي المجدد : بادر شعراء إحياء النموذج إلى الدخول في غمار التجديد، دون المساس بأصول القصيدة العربية، وذلك إيمانا منهم بضرورة الاستجابة لقضايا العصر. وقد انحصرت مظاهر هذا التجديد في بعض المضامين والمستويات الآتية : *أ-الانفتاح على بعض الأغراض الجديدة : لقد حاول شعراء الإحياء، الخوض في أغراض جديدة أكثر ارتباطا بقضايا العصر. وقد مكنهم هذا الارتباط من الانفتاح على موضوعات شعرية، تواكب شعورهم بالانتماء إلى الوطن في ظل الاحتلال الأجنبي للبلاد العربية، فكان الشعر الوطني عند الإحيائيين صدى للوجود الاستعماري والنضال الوطني، وقلما نجد شاعرا إحيائيا يخلو ديوانه من الظاهرة الوطنية، فنجد بوادرها في شعر البارودي الذي تغنى بوطنيته وانخرط في القضايا الوطنية والقومية، كما نجد نماذج من الشعر السياسي والقومي في شعر شوقي وحافظ إبراهيم من مصر والرصافي والزهاوي من العراق وعلال الفاسي ومحمد الحلوي من المغرب. ومن نماذج الشعر القومي قول حافظ إبراهيم في سوريا ومصر : لمصرَ أم لربوعِ الشامِ تنتسبُ *** هنَا العُلا وهُنَاك المجدُ والحسب رُكنَان للشرقِ لازالت ربوعُهما *** قلبُ الهِلالِ عليها خَافقٌ يجب خِدْران للضاد لم تهتكْ ستُورُهما *** ولا تَحَوّلَ عنْ مَغناهِما الأدبُ ويقول شوقي منتقدا سياسة الأتراك في مصر : القوم حين دَهَا القضاءُ عقولُهُمْ *** كسروا بأيديهم لمِصْرَ غُلُولاَ هَدَموا بِوَادِي النيل رُكنَ سيادَةٍ *** لَهُمُ كَرُكْنِ العنكبوت ضئيلا ويقول محمد الحلوي مستعرضا مآسي العرب ومعاناتهم من المستعمرين : فيا أمّة لم تُفدهَا الخطو *** بُ ولم يَصحُ من بعد وسنانُها كفانَا ضياعًا بلا هَدَفٍ *** وتفرقةًّ تاهَ حَيرانهَا ويا حاديَ الركب في أمَّتي *** بِدَارًا فقد زاغ ركبانُها ويا فتنةً لم تَزلْ محنة *** لَقوْمِي وقدْ مَات عثمانُها متى يكتبُ العُربُ ملحمةً *** يكُونُ التلاحُمُ عنوانُها أما الشعر الاجتماعي فقد امتزج عند الشعراء الإحيائيين بأفكار رواد الإصلاح من السلفيين ، مثل : محمد عبده وقاسم أمين ورشيد رضا والكواكبي وغيرهم. فعالجوا فيه القضايا التي عالجها المصلحون كحرية المرأة، وإصلاح العقيدة والدين، والعناية بالتربية والتعليم. قال شوقي منبها إلى مكارم الأخلاق : وإنّما الأمم الأخلاق ما بقيت *** فإن هم ذهبتْ أخلاقُهُمْ ذَهبُوا ويقول معروف الرصافي في تعليم المرأة : ولمْ أر للخلائِقِ مِنْ محَلِّ *** يُهَذبُها كحصْن الأمَّهاتِ وحُضنُ الأمِّ مدرسة تسَامت *** بتربية البَنين أو البَنَاتِ *ب-الجنوح نحو التجديد في البنية الشكلية والإيقاعية : قام بعض الإحيائيين المجددين بمحاولات جادة للتخلص من بعض قيود البنية الإيقاعية للشعر العربي، حيث جربوا نظم الشعر المسرحي، وكتابة بعض قصص الأطفال الشعرية . وقد قام شوقي بمثل هذه المحاولات في مسرحياته الشعرية، كمسرحية مجنون ليلى على سبيل المثال لا الحصر. في ضوء ما سبق كله، يمكن القول إن الإحيائيين قد حملوا مشعل انبعاث الشعر العربي، وعملوا على ملء الفراغ الأدبي الذي أحدثته قرون طويلة من الانحطاط والتخلف. ثانيا : جماعات "سؤال الذات" وخطاب التطوير والتحديث لم تقف حركية الشعر العربي عند الحدود التي رسمها له رواد حركة إحياء النموذج، من أمثال البارودي وشوقي وحافظ، بل تخطت تلك الحدود نحو تطوير مضامين الشعر وأشكاله، متفتحة على آفاق جديدة أكثر رحابة واتساع. لقد قامت مبادرة الإحيائيين كما مر بنا سلفا على إحياء أصول القصيدة العربية وتقاليدها، وبعث المضامين الشعرية الموروثة، واستطاع الشعراء بفضل هذا التوجه أن يعيدوا الحياة من جديد إلى القصيدة العربية، وأن يمنحوها فرصة الاندماج مع قضايا العصر وأحداثه، لكن سنة التغيير اقتضت أن يبحث المجتمع العربي مع بداية القرن العشرين عن عوامل التحديث وبواعث التطور، وكانت الحضارة الغربية نقطة مضيئة تجتذب الداعين إلى مشروع تحديث المجتمع وتغيير بناه، لذلك تبنى العديد من رواد إحياء النموذج مبادئ الليبرالية والديمقراطية، ودافعوا عن الحرية وقيمة الإنسان. ولم يكن الواقع العربي متناغما مع هذه المبادئ، فمظاهر التخلف في المجتمع تجسد نقيضا لمشروع التحديث والتقدم، وممارسة الاستعمار تجسم تناقضا مع القيم التي روجت لها حضارته. وأمام هذا الوضع المتناقض، كان الأديب التواق إلى التجديد، الحالم بمجتمع إنساني أكثر استعدادا للتواصل مع الخطاب الأدبي الذي ينتقل بالشعر من احتذاء نماذج شعرية جاهزة سلفا إلى البحث عن علاقته بذات الشاعر وبعالمه الواقعي والمتخيل. وانطلاقا من هذا الموقف ،طرح شعراء التجديد سؤال الذات من منظور يعطي للشعر مفهوما جديدا ووظيفة مغايرة لما كرسه شعراء إحياء النموذج. إن مصطلح سؤال الذات يحيل على معنيين : -الأول : يرتبط بما يطرحه الشاعر على ذاته من تساؤلات في علاقتها بالعالم الخارجي، أي النظرة إلى العالم من زاوية الذات (الطبيعة مثلا). -الثاني : يرتبط بالسؤال الذي يطرحه الشاعر على ذاته منفصلة عن كل ما يحيط بها من الخارج (المناجاة، الموت، الحياة، الحلم، الخيال، الحقيقة). وكلا المعنيين يتمحور كما هو ملاحظ حول الذات الشاعرة وما يحيط بها من العالمين الخارجي/الداخلي، الواقعي/المتخيل. من ثم ،يمكن القول، إن لحظة سؤال الذات في الشعر العربي الحديث، هي صرخة ضد التيار الإحيائي الكلاسيكي، فكانت الرومانسية التي تعلي من شأن الذات، بمثابة ثورة شعرية على النموذج الإحيائي الذي يعلي من شأن الموضوع. إنه كما وصف عند الدارسين أو على حد تعبير محمد النويهي الصراع بين القديم والحديث. من هنا ،برز خطاب جديد يقرر: -رفض التقليد : باعتباره نفيا للشاعرية، وانتفاء لصدق الشاعر، وقد أعلن أكثر من أديب هذا الرفض (مثال ذلك : عباس محمود العقاد في قراءته لشعر أحمد شوقي وإبراهيم المازني في نقده لشعر مصطفى لطفي المنفلوطي). -الدعوة إلى التجديد : دعا الرومانسيون إلى إرساء دعائم توجه أدبي في إطار سؤال الذات، يعتمد الأسس الآتية : *-إن التعبير الصادق عن الذات هو المقياس الوحيد للإبداع. يقول فيكتور هيجو في مقدمة أحد دواوينه : «إن الشاعر يجب أن يكتب بروحه وقلبه، لا بما كتبه الشعراء قبله، إن الشاعر لا يستمد عبقريته من أساطير القدماء بل من صميم نفسه»( ). *-إن الشعر رؤية شاملة للحياة، تعكس نظرة الشاعر إليها. فهذا مطران خليل مطران يقول : «نعم هذا شعر عصري، وفخره أنه عصري، لأنه شعر المستقبل وشعر الحياة والحقيقة والخيال معا ...»( ). *-إن وظيفة الشعر هي التعبير والتأثير في المتلقي، لذلك يقول العقاد : «فاعلم أيها الشاعر العظيم أن الشاعر من يشعر بجوهر الأشياء لا من يعددها ويحصي أشكالها وألوانها ... وما ابتدع التشبيه لرسم الأشكال والألوان، فإن الناس جميعا يرون الأشكال والألوان محسوسة بذاتها كما تراها. وإنما ابتدع لنقل الشعور بهذه الأشكال والألوان من نفس إلى نفس»( ). وقد تبنى هذه الأسس الشعرية العديد من الأدباء والشعراء وكونوا جماعات أدبية، أهمها : 1*-جماعة الديوان : استمدت جماعة الديوان إسمها من كتاب أصدره العقاد سنة 1921 بعنوان "الديوان" ،انتقد فيه التصور السائد للشعر عند الإحيائيين، كحافظ وشوقي وصادق الرافعي وغيرهم ...وحمل أعلام هذه الجماعة كل من : عباس محمود العقاد (1889م-1964م) وإبراهيم المازني (1890م-1949م) وعبد الرحمن شكري (1886م-1958م) ،وقد تلخصت نظرية جماعة الديوان في كون «الشعر وجدان» يقول شكري : ألا يا طائِرَ الفردو *** سِ إنَّ الشعرَ وِجْدانُ 2*-جماعة أبولو : وسميت باسم مجلة (أبولو) التي صدرت بين أعوام (1932م-1934م)، برئاسة الدكتور أحمد زكي أبي شادي، وفتحت صفحاتها لكثير من الشعراء أمثال : مطران خليل مطران (1872م-1949م) وعلي محمود طه (1902م-1949م) وإبراهيم ناجي وزكي مبارك وأحمد محرم وغيرهم. وقد امتد تأثير هذه الجماعة إلى أوسع نطاق، فكان عبد المجيد بن جلون وعبد القادر حسن وعبد الكريم بنثابت ومحمد الصباغ وإدريس الجاي ممثلين له بالمغرب وأبو القاسم الشابي (1906م-1936م) بتونس. وكانوا جميعا سواء في المشرق أو المغرب يجسدون في أشعارهم هموم المثقف العربي في تلك الحقبة حيث وجد نفسه فيها مجردا من الدور المباشر أو الفعال الذي لعبه في القرن الماضي، والذي عاين إحباطات سياسية نتيجة الاستعمار والاستبداد. لقد كان الشاعر في هذا المناخ كما تقول خالدة سعيد يعاين الواقع الحالك ويجد نفسه مدفوعا إلى موقع هامشي( ) ، وهذا ما دفع زكي أبو شادي إلى وصف تجربة أبولو الشعرية بقوله : «إنه شعر يتسم بالقلق العميق وعدم الاستقرار والجرأة النادرة في إبداء الأفكار، وفي طرق المواضيع التي لم تطرق من قبل وتناول الأشياء البسيطة المألوفة بروح إنسانية وقلب مفعم بالفن، فتخرج إلى الوجود غزيرة الرؤى، عميقة الأحلام، لها قيمة الظواهر العلوية والروائع الكونية»( ). 3*-الجماعة المهجرية : وسميت باسم الأدباء العرب المشارقة الذين هاجروا بلدانهم العربية، واستقروا بالقارة الأمريكية، وأسسوا مدرستين هما "الرابطة القلمية" بالولايات المتحدةالأمريكية، و"العصبة الأندلسية" بالبرازيل وكان من روادهما : جبران خليل جبران (1883م-1931) وإيليا أبوماضي (1894م-1957م) وميخائيل نعيمة (1889م-1988م) وفوزي المعلوف (1899م-1930م) ونسيب عريضة وندرة حداد وعبد المسيح حداد ورشيد أيوب ووليم كاتسفليس ووديع باحوط وإيلياس عطا الله وغيرهم... وإذا تصفحنا معظم الإنتاج الأدبي لرواد الجماعة المهجرية، فإننا نجده متميزا بالخصائص الآتية : أ-النزعة الوجدانية : كان شعر المهجريين وجدانيا، تغنى فيه الشعراء بالذات الإنسانية، وكانت موضوعات الحب والموت والحياة والطبيعة من المكونات الأساسية للقصيدة المهجرية. ب-التأمل الفلسفي والفكري : تميز شعر المهجريين بالانفتاح على عوالم الفلسفة والفكر، فلم يعد الشاعر ملتقطا للأفكار والآراء والأحداث بل أصبحت له نظرية فكرية عن الكون والحياة تتخلل كافة أشعاره وكتاباته الإبداعية( ). ج-أنسنة الطبيعة : كان شعراء المهجر يحلمون بعالم مثالي، عالم تتحقق فيه الحياة الفطرية والحرية والسلم بعيدا عن الاستبداد والعنصرية لذلك تخيل الشعراء أنفسهم بين أحضان الطبيعة. وتفسر خالدة سعيد ظاهرة العودة إلى الطبيعة عن المهجريين قائلة : «إنها في لغة المهجريين حملت معنى طلب الحرية والثورة على التناقضات والقيود والمؤسسات الاجتماعية والدينية والأدبية، فكانت الطبيعة نقيضا لكل ما وجدوا فيه انتهاكا لحرية الإنسان وكان جبران خليل جبران أبرز الذين عبروا عن هذا المعنى»( ). ومجمل القول ،إن شعر سؤال الذات الرومانسي، وجد له صدى واسعا لدى جيل كامل من الأدباء في النصف الأول من القرن الماضي، وقد كان هذا الجيل يتطلع نحو ترسيخ مكانة الفرد في مجتمع يرزح تحت نير الاستعمار الإمبريالي. ورغم اختلاف توجهات هؤلاء الأدباء وأشكال تعبيرهم، فإن بينهم قواسم مشتركة تشكل نسيجا متصل العناصر، له خصائص وسمات، من أهم مميزاتها ما يلي : 1-الترجيح بين الاستمرار على النهج القديم وتجاوزه نحو الجديد، فبقدر ما حافظت القصيدة الرومانسية على مقومات الشعر الموروث من حيث البناء واللغة، بقدر ما دخلت مغامرة التجديد في موضوعات الشعر وأشكاله. 2-استثمار مبادئ الشعر الرومانسي من خلال الثورة على عالم الإنسان، واللجوء إلى عالم الطبيعة والنزوع إلى البكاء والتشاؤم. 3-توظيف معجم واضح بحمولات نفسية طافحة بمشاعر الغربة والكآبة والحزن والإحساس بعواطف الحب والإنسانية. 4-التجديد على المستوى الفني لبعض أشكال الشعر، كاستخدام نظام المقاطع، وتجاوز رتابة القافية المتكررة. 5-استعمال صور شعرية ذات مرجعيات ذاتية، واستخدام لغة الحياة المستمدة من الطبيعة والوجدان( ). وبفضل هذه الخصائص، تمكنت قصيدة "سؤال الذات" من تجاوز وظيفة التوجيه التي طغت عند شعراء إحياء النموذج والانتقال إلى وظيفة التعبير عن الأحاسيس والعواطف، فكانت مرحلة تطور وتجديد متميزة في تاريخ الشعر العربي الحديث.