نموذجية منجز الشاعر الجزائري محمد جربوعة أن يصمت الشعر في مرحلة وأد ما تبقّى من عروبة، ويمرّر للمتطاولين والمتكالبين والعملاء تواطؤهم،فتلكم خيانة لا تغتفر. القصيدة مطالبة بعد الآن وأكثر من أي وقت مضى ألاّ تهادن، وأن تلدغ فقط ،من الجحر الذي عبقت به سيرة البواسل الأوائل في انتصارهم لقضية العروبة الأولى،على اعتبار حرقة القدس فاضت عن حدّها ،ونظيرها همّا ينخر الحنايا، لم يعد يحتمل مزيدا من هدر الوقت في المساومات والتنازلات الرّخيصة التي لا تسمن ولا تغني من جوع. هو منطق الحديد والنار لا أكثر،الكفيل بغسل هذا العار ،والذي على القصيدة ألاّ تترنّم بمنطق سواه من الآن فصاعدا. إن ملامح الظاهرة قيد الدرس،من حيث البذور الأولى لها،وأكمام تشكّلها، ليست وليدة المستجدّ والآني المتبلور فيما آل إليه حال المغتصبة فلسطين، وانتهكت عبره كرامة العربي بل والإنسان حيثما تواجد وغازلت ظلاله رحابة وامتداد هذا الكوكب، بقدر ما هي عتيقة وممتدة في التاريخ، تماما مثلما يروي الأثر عن عصر المحاولات الخجولة لتجميع مرتزقة الصهاينة داخل تراب موحد ومنحهم خارطة على أنقاض تقاسم خيرات وثروات العرب، بعد أن كانوا أشتاتا ونثارا دنّس جلّ ربوع المعمور. وإذن هو منعطف خطير،بكل تأكيد لن يترك القصيدة على حياد،وإنّما سوف يحشرها في خندق إنتاج القرارات السياسية الضاغطة ،وسوف يتبني شتّى أساليب التعبوية وضخّ الحماسة في الملايين الغاضبة أصلا،ويحثها على الثأر لمقدساتها التي باتت تشهد أمْركة وتهويدا أخالهما بلغا مداهما في طعن العروبة والإنسانية على حدّ سواء. بمثل هذا وأكثر يقصف صاحب ( قدر حبّه ) الشاعر الجزائري الثائر محمد جربوعة، متوسّلا خطابا شعريا رافلا في خليلية نيوكلاسيكية ،مغرقا بدغدغة المتمكن من ميكانيزمات القدح، ويعربد أنّى يشاء في كواليس سماسرة قضايا العروبة الكبرى، ولا يخشى في الله لومة لائم. يحرّك بوصلة ديوان العرب على مقاسات الموت السّريري للضمير العالمي وخمود النخوة العربية والرّكون إلى هوان وسبات فاق أهل الكهف في غيبتهم المعجزة. يستهلّ شاعرنا باستفسار استنكاري: والآن ماذا؟ يدشّن مطلع قصيدته بما يدلّل على صدق نبوءة شاعر خبر من ساسة العرب تواكلهم وولعهم ببريق الدّرهم مقابل التفريط بالشرف والرجولة والمقدّس. منذ البدء يحاول أن يثبت لهؤلاء الذين يدّعون ويصطنعون العروبة والغيرة على الهوية العربية مختزلة في قضية القدس ووجع السّليبة فلسطين عموما، ويبرهن لهم بالحجة الدّامغة،عن صدق توقّعاته ،وهل تحصد أمّة إلاّ ما بذرته بأيادي أكابرها مجرميها،متى غيّبت الأدوار الوظائف الحيوية للشعوب ،وجوبهت هذه الأخيرة بالسادية وسلطة القهر والقمع،والنتيجة ما راح يتبجّح به الأعادي علنا ودونما مراعاة للمصالح التي طالما جذبتهم إلى مستصرخ لن يجديه بعد الآن أن يعضّ الأنامل غيضا أو ندما حتّى ،على ما استرخص وفرّط وقصّر. فلنفتح قلوبنا على هذا النزيف الشعري المضاد، كي نستشعر غصّة البيت ،ونتجرّع ملء كؤوس تداعبها أياد مرتعشة، مرارة الذات الإبداعية الذائبة في نتوءات جغرافيا الهجاء اليائس،والذي لو لا مست نوتته هذه والمناطحة لأسقف الجنائزية والخزي، حجرا لأنطقته ، أمّا ولاة وسدنة زعامة فالجواب لا بدّ بالنفي والنفي والنفي القطعي، لكأن الدورة منقوصة في سرمدية ومحمولة على تيار سلبي لن تجني جراءه الأمة، سوى فقدان المزيد من الكرامة والمقدّسات. وقد وقع انتقاؤنا على هذا النص لأهميته البالغة: [ والآنَ ماذا ؟ وزاني القومِ قد دخلا بكُمْ .. ويعرف كلّ الناس ما فعلا بكمْ.. وزغردت النسوانُ في خجلٍ لكمْ.. وخبّأ طفلٌ وجهه خَجلا والآن ماذا ؟ وقد ألقى قميصَكُمو مضرّجا بدماء العار، يا عُمَلا أبناءَ ( هاتيكَ) .. مِن ( هذاكَ) ، أمّكمو تدري ، ويعرف كلّ الناس ما حصلا وليست القدس في النسوان أمّكمو وأمكمْ ( لا أسمّي) .. أهدِيتْ بدلا والقدسُ ليستُ (عروسًا في عروبتكمْ ) كما ظننتمُ .. ولا مَن قدْرُها نزلا وليست القدسُ مَن شدّوا ضفائرَها ولا التي بطنُها بالعار قد ثَقُلا القدسُ عاصمةٌ كالشام ، صابرةٌ ومثل بغداد أو صَنْعا.. لمن جهِلا القدس ، عذراءُ ، ما مسّت يدٌ يدَها ولا هوتْ بعد (فاروق الهدى) رَجُلا وفيَّة القلب ، لا زالت مرابطةً تحبّ مِن قلبها القرآن والرُّسلا القدس أختُ (صلاح الدينِ) ..أمّهما مَنْ أنجبتْ للزمانِ ( القدسَ) و(البطلا ) حِجابها ساترٌ ، مِن يوم نكستها ما باعتِ العِرضَ مِن ضعف، ولا وجَلا يا مَن تدنّس إسرائيلُ عرضَهمو شيوخَ دينٍ ، شعوبا ، قادةً ، دُوَلا يا مَن لهم بيننا وجهان ، أعبَدُهمْ يُهدي إلى (الله) في محرابه (هُبَلا) الآن في (مخدعِ التاريخِ )( يَلبَسُكمْ) (مستهترُ الرومُ) في رجليهِ منتعِلا الآن في ( مخدع الأقصى) ( يؤنّثكمْ) ويُنكر الطفلَ ممن منه قدْ حَبلا هذي عيونكمو مكسورةٌ خجلا وذي خدودكمو محمرّةٌ قُبَلا وأنتمو حول ما قد ضاع من شرفٍ منكم تثيرونَ في إعلامنا الجدلا أنا أشكّكُ جِدّا في عروبتكمْ أظنّ أنكمو (…) أو أنّكمْ (…)، مَثلا لا يُنزل العربيّ الأنفَ مرتجفا وليس يَقبلُ عن عرضٍ له بدلا ويُسقط ُالعربيَّ الشمسَ ، يُسقطها برمحهِ ، إن تقلْ في حقّه ( أفلا) ويأكل الرملَ عند القحط ، يأكلهُ ولا يفرّطُ في مرعاهُ إن مَحلا (1) وليس يضفرُ فوقَ القمْلِ – مِن وهَنٍ – شَعْرا – على ما روى قومٌ – إذا جدلا (2) وحين يربطُ في أمر عمامَتهُ تخشى قبائل وادي الجنّ ما فعلا وحين يحملُ سيفا ، لا يعيد بلا دمٍ إلى الغمدِ – لا والله- ما حَمَلا يزلزلُ الأرض حين الجنُّ تسكنهُ ويُشعلُ الكونَ في لمحٍ إذا اشتعلا أين العروبة فيكم، يا خليطَ دِما ؟ والعينُ من نظرةٍ لا تُخطئُ الأُصَلَا هذي الرياض .. تعرّتْ ، بعد حشمتها والمومساتُ بها يملأنها غزلا وتلك مصرُ ، بمن قد خانَ هائمةٌ تَعُدّ كمْ مِن صبايا النيلِ قد قَتلا و(فيلق القدسِ) في صنعاءَ يخنقها يظنّها ( القدسَ) .. زاغت عينهُ حَوَلا وما تبقّى من البلدانِ مرتجِفٌ يُحِسُّ في ثوبهِ مِن خوفه البللا لم يبقَ في يده شيءٌ ..ولا يدُهُ إلا الذي من ( بيان النكبة) ارتجلا ماذا يفيد إذا الراعي رغا غضَبا إذا المُغيرُون ساقوا دونه الإبلا ؟ بالأمس كنّا ، إذا ألقى لنا رجُلٌ في الأرض نطفتَهُ منّا نمَتْ جبلا واليوم ، نَغرس – من شؤم يلاحقنا- نخلا فينبُتُ في بلداننا بَصلا سيعرف الرمل في الصحرا، بفطرتهِ – تالله- كيفَ يجيبُ الكونَ إن سألا وسوف يبدأ عصرٌ آخر .. قلِقٌ ما دام عصركمو فينا قد اكتملا ]. كأشجى ما يكون الصوت المرّ المنطلق من ذات متماسكة ومعاندة وصامدة، تصقلها طقوس أميل إلى حالات البرزخية والسّرنمة. وبشعرية النفي ولا شيء عداه يطالعنا شاعرنا عبر هذه القصيدة الماتعة الطاعنة بغرائبية وشؤم الصورة والإطار والجلباب الذي يعيش فيه حكامنا تجاه القضايا المصيرية والأكثر حساسية و حميمية والتصاقا بمكونات القداسة والهوية العربية. نفي مجمل صفات الرّجولة والعروبة عنهم، تيمات أجّجت سائر مفاصل قصيدة" لا القدس عروس عروبتكم..ولا أنتم عرب" ، وذكّرتني بقصيدة " الصيصان" للرائع نزار قباني، إلاّ أن هذه ، أتت من حيث جرأة الجرعة، بقسط أوفر ومضاعف ،في اعتقادي أربك وزلزل وأصاب في المكمن. كذلك هي القصيدة بوصفها لونا من ألوان النضال،وقد أفلحت إلى حد بعيد في إلهامنا وفتحت نزيفا مضاعفا في قلب متلقيها مع منّة مدّه بآفاق مشرعة للتجليات والبصيرة غير المتعثرة بمحطّات الرمادية أو الشك، تأمما لثقافة توجيه الطاقة لصالح بناء الإنسان العربي القوي المنعّم بمستقبل وردي أقل ضررا يصون العرض والأرض. احمد الشيخاوي/شاعر وناقد مغربي