سماء زرقاء ، طريق إسفلتي طويل ، شارع يزخر بآلاف الرؤوس ، رؤوس رغم اختلافها الظاهري في العمق تضل رهينة و حبيسة لوجود الآخر بما يحمله من تعريف بيولوجي ، ثقافي ، اجتماعي و أخلاقي بنسبة لها ، و الآخر ايضا حبيس لآخر ، وهكذا دواليك إلى أن يصيروا على نفس الهيئة الفكرية ، مجموعة نسخ عن بعضها البعض ، يسمونها أعراف مجتمعية أو مبادئ و بعضهم يرقى بها لحد جعلها تعاليم روحية ، و يدافعون عنها دفاعهم عن بقائهم ، لأنها الضامن الوحيد لتجسيد انتمائهم الذي أصبح هو كذلك بدافع الخوف الملجئ الوحيد لخندقت الذات و موضعتها بين من يعطونها قيما مظافة و يوفرون لها الحماية ، و في ظل فقدانها لخصوصيتها تحارب كل من يختلف عنها فخوفها الرئيسي يدفعها إلى قلق ثانوي ممن يختلف معها ، فيدخلها قلقها هذا في وهم " الخلاف و الاختلاف " .طريق إسفلتي طويل ، تحفه الأعمدة الشاهقة ، تعبره مئات العربات قليل منها من يحترم شريعة الأضواء ، و حين الشدود تعلوا المزامير و يكثر اللعن و السباب ، يصور في أبسط الحالات الغرائز التدميرية الناتجة عن الحول دون تحقيق غريزة الحياة ، غريزة الحياة التي توجد على بعد خطوات من أضواء الحضارة ، على بعد خطوات خلف عمارتين يوجد شارع خلفي ، زقاق ضيق مظلم خجول ، يواري عورات المجتمع المتعفن نفاقا . شارع خلفي ، يدخله الضوء بشح ، رطوبته و برودته رسمتا على جدرانه لوحة تجريدية تروي ماخلف الزمان ، فالزمان لا يقص قصص شفهية أو يكتب حكايا في كنانيش و يدرسها تاريخا معوج الأطراف إلى من يشحت المعلومة من فقرئها ، فالزمن المتعجرف لا يعلي شأنا لأي أحد فكبريائه بطل فهو لا ينصب الأبطال ، فالزمان السادج لا يتقن اللعب مهما لعبوا به ، فلا يتقن إلا الرسم على الجدران ، ونقل ما يحمله الزمان و تخليده على امتداد المكان ، و الشارع فارغ نسبيا رغم تردد الناس عليه بكثرة ، قليل منهم من يعبر بعوفية و كثير من له مأرب في العزلة ، مكان منفصل عن باقي الشارع منفصل عن باقي المجتمع ، لكن ينطوي على صلب الواقع المجتمعي ، رواده مختلفة تلاوينهم من عشاق يتلددون حميمية المكان إلى سكارى يهيمون و تتراماهم الجدران ، إلى قطاع سبيل يتشاطرون الضحايا أو ملاذ المشردين ممن لفضتهم أمواج بحر الحياة جثثا هامدة تنتظر الخلاص ، تصدح في الأفق صراخات فتاة على مايبدوا تخفي جسدها العاري و تمسح الأرضُ دماء بكرتها المنزوعة بالغصب و ذئاب الحي تتشمم عرقها الحر ، نظارات تنهش ما أبقاه جلادها تعدمها على رصيف الموت لتحمل روحها عبر رياح الغدر و التجاهل و الاهمال إلى عالم النسيان و كأن الزمان بترياركي الفكر يفرق بين الرجال و بين النسوان ، و يبقى جلادها جلاد وطن يحيى بين ثنايا نفس الزمان ، و يعلق أوسمة النصر فخرا بما صنع و تصنع له التماثيل و يكبر باسمه و يجلل بين بني جنسه من جلادي الأوطان . و الشارع صامد صامت يرتعش ثارة خوفا ، يضحك و يبكي و يخجل من حاله ، لكن يأبى الحراك فهو فقط مشاهد ليس له الحق في دخول مستنقع وساخة الجنس البشري ، مستنقع يكون فيه الحقير مقدسا ، و الشيطان ملاكا و يأتمن الذئب على قطيع الخراف ، وما أكثرهم من يتعاملون بدهاء غبي مع الأوضاع ليصيروا الضحايا الأوائل لتيار النفعية الجارف ، حسب تعليقه : " كلها كوميديا روتينية بالنسبة إلي كجدار " اعتاد على رائحة الموت رائحة موت الأخلاق و القيم ، رائحة موت الفكر ، أشد الناس موتا هم أشدهم احتقارا لانسانيتهم لذواتهم كفكرة تنمو لتنتج أفكار ، أشدهم احتقارا لعقمهم لخصوبتهم ، لوجودهم لعدمهم و يحملون احتقارهم أفعالا يفرغ من خلالها صديد الجرح الداخلي المتعفن ، لتتحمل جدران الحي الخلفي طراطيش دناءة الإنسان و حقارة احتقاره لجرحه الداخلي . يتحمل الشارع كل مايلم به في كبرياء و يخفي داخل عتمته أنفة القلائل ممن تعز عليهم مخيلتهم و يعلون بها إلى السماء في نور و صفاء ، و يبقى الشارع الخلفي و حيدا متكتما و المدينة من حوله تعج أضواء و تظلمه بأكوام العاهات التي توردها له كل حين فيصبر كعجوز هرم ، كبقايا محارب ، فيصبر كشارع خلفي حزين . بقلم : سفيان عبد الرحمان البالي