المختار أعويدي شهدت مدينة وجدة خلال السنوات القليلة الماضية، فتح كثير من أوراش الإصلاحات الكبرى، التي استهدفت تقوية بنياتها التحتية، وترميم مبانيها التاريخية، وواجهات بعض المحلات والمساكن والأحياء المتمركزة في قلبها، واجتثاث بعض البؤر السوداء المضرة بجماليتها، وإعادة بناء وهيكلة بعض مرافقها ومؤسساتها وأسواقها ومُركباتها التجارية.. ولا يمكن سوى لجاحد، أن ينكر التغييرات التي أحدثتها الإصلاحات المذكورة، والفضاءات واللمسات الجمالية والمرافق المتعددة، التي أوجدتها بعدد من أحياء المدينة. لكن برغم ذلك كله، يمكن الجزم بأن هذه الإصلاحات والمجهودات المبذولة، من طرف المسؤولين والجهات المعنية، هي على ما يبدو، برغم صدق نيتها، وصفاء طويتها، ومشروعية الأهداف التي ترمي إليها، تنقصها كثيرا الرؤية الإستراتيجية لواقع حال ومآل، مدينة تتطور بسرعة فائقة. لا على مستوى عمرانها المتمدد بشكل سرطاني في كل الإتجاهات. ولا على مستوى عدد ساكنتها المتعاظم بشكل كبير، نتيجة سرعة نموها الديموغرافي، وتفاقم مشكل الهجرة المتنامية نحوها من كل حدب وصوب. ولا على مستوى أسطولها الضخم المتحرك يوميا، عبر طرقاتها وشوارعها، وأزقتها المختلفة، محدودة الطاقة والقدرة والإستيعاب، من العربات مختلفة الأحجام والأشكال. بدءاً بالدراجات العادية، وصولا إلى أضخم الشاحنات. مرورا بالدراجات ثلاثية العجلات، التي انتشرت بالمدينة كالأشواك البرية، والسيارات السياحة والنفعية، والشاحنات صغيرة ومتوسطة وكبيرة الحمولة. ناهيك عن حافلات وطاكسيات النقل الحضري، مختلفة الأحجام والأوزان. وأنواع العربات المجرورة أو المدفوعة أو المحمولة أو الثابتة، من التي لا تندرج كليا تحت أي تصنيف قانوني معين. تنقصها الرؤية الإستراتيجية متوسطة وبعيدة المدى، بالنظر لأن المشاريع التي أنجزت، كما سلف، لم يتم التخطيط لها ولا لغيرها بشكل يستحضر، بعض المشاكل الهيكلية الآنية الحقيقية، التي تعاني منها المدينة حاليا. والتي يُنتظر أن تتفاقم بشكل عويص في المستقبل القريب. والتحديات المستقبلية الكبرى، التي يمكن أن تُبطل مفعول ما بُذل من مجهودات، وما تحقق من منجزات في الأفق المنظور. وهو ما سينعكس سلبا على مختلف مناحي الحياة بالمدينة. لم يتم التخطيط لها برؤية مستقبلية، تستشرف الحد من تداعياتها، قبل تفاقمها وتسرطنها. لأنه لا يستقيم في ظل استمراريتها واستفحالها وتفاقمها، أي مجهود تنموي آخر، قد يستهدف مثلا الجوانب الجمالية أو العمرانية أو البيئية أو الإجتماعية أو الرياضية.. للمدينة. ولعل أكبر تحدي استراتيجي، يمكن أن تواجهه المدينة والساكنة والمسؤولون على حد سواء، في المستقبل القريب، وقد بدأت مؤشراته وتجلياته تظهر حاليا بشكل ملفت ومثير بل ومقلق. هو مشكل النقل داخل المدينة إجمالا. بما يشمله من عمليات السير والجولان للعربات على الطرق، وللراجلين على الأرصفة، والساحات والفضاءات والممرات المختلفة المخصصة لذلك. وحالة الطرق والشوارع والأزقة والمسالك المستعملة، وطاقتها الإستيعابة وقدرتها على ضمان السيولة والإنسيابية المرورية. وطريقة تدبير التشوير الطرقي، والأدوار المنوطة برجال الأمن في هذا المجال، والثقافة الطرقية للمواطن، سائقا كان أو راجلاً، أو حتى تاجرا على قارعة الطريق. وهو التحدي الذي تم تغييبه، أو بالأحرى التعاطي معه أثناء التخطيط والإنجاز للمشاريع المذكورة، بكثير من الطمأنينة والثقة، بل والتراخي التدبيري الواضح. وعدم توقع، بالجدية الكافية والصرامة اللازمة، التبعات التي سيفرزها، وعدم أخذ التحديات والإكراهات التي يمكن أن ينتجها في الإعتبار، وعلى مَحمل الجد. إن التعاطي مع معضلة النقل بشكل استراتيجي، لا ينبغي أن يُفهم على أنه يعني، العمليات التجميلية الروتينية المتعارف عليها، من تزفيت وتزيين لهذه الطريق أو تلك، وسد للحفر والثغرات، وترصيف للممرات، وصباغة للأرصفة، ونصب لعلامات التشوير الطرقي. التخطيط الإستراتيجي لحل معضلة النقل يعني بالأحرى، الإشتغال بنظرة وشكل شمولي نسقي، مع راهن هذا المشكل ومستقبله، في علاقته بجميع مناحي الحياة الأخرى بالمدينة، عبر تشخيصه المعتمد على توفير معطيات رقمية، تَرصد حجم تدفقات العربات والراجلين على مختلف المحاور الطرقية للمدينة. والنقط المرورية السوداء، عالية الإكتظاظ مختنقة المرور والعبور. وطاقتها الإستيعابية في تباينها، ارتفاعاً وانخفاضاً. خلال أوقات الذروة والأوقات العادية، على مستوى اليوم، والأسبوع، والشهر، والسنة. وتُحدد مستويات النمو والإكتظاظ المتوقعة على الطرق، وطبيعة المشاكل والعوائق، التي تعرقل ضمان انسيابية التنقل وسلاسة وسلامة المرور. وتَضع في الحسبان طبيعة توزيع مختلف الأنشطة الإقتصادية والمرافق الإجتماعية، على صعيد أرجاء المدينة وأحيائها. ناهيك عن قراءة استشرافية توقعية، لوتيرة التمدد العمراني، ونسب النموالسكاني للمدينة، والإنشطة الإقتصادية والإجتماعية المرتبطة بذلك.. لتأتي بعد كل ذلك خطوات اتخاذ القرارات الحاسمة الصعبة وحتى المؤلمة، إن اقتضى الحال ذلك، في الحدود الدنيا لخسائرها المتوقعة. القرارات التي ينبغي أن تتجرد وجوباً من الحسابات الإنتخابية والسياسية عموما، ومختلف الإعتبارات المعرقلة. قرارات التنفيس عن المدينة، بفك حالة الإختناق المتنامية، عبر فتح محاور طرقية كبرى، وتوسيع الموجود منها، حتى لو تطلب الأمر نزع ملكيات، وإعادة هيكلة بعض الأحياء السكنية التي قد تكون موضوع ذلك. إضافة إلى اجتثاث كل العوائق، التي تعرقل حركة المرور، مِن على الأرصفة والطرق والساحات والفضاءات العمومية. وتفكيك مُجمعات "ميكالوبوليس" شبكة الأسواق الكثيرة والكثيفة جدا، المتكدسة في مساحات محدودة جدا من المدينة، والتي تعتبر من الأسباب الأساسية، في التدفقات المرورية الخانقة التي يعرفها وسط المدينة. وإعادة انتشارها وتوزيعها على باقي الأحياء. من قبيل "ميكالوبوليس" أسواق باب سيدي عبد الوهاب، سوق مليلية وسوق الفلاح. والمركبات التجارية العديدة، المنتشرة كالفطر في محيط هذه الأسواق المذكورة. وتجاوز فوبيا الهاجس الأمني/الإجتماعي، التي ساهمت في ترسيخها بعض الأحداث المتفرقة هنا وهناك، التي شهدتها البلاد سابقا، مستحضرة المصلحة العليا للمدينة وعموم الساكنة وحدها، وأخذا بعين الإهتمام الإعتبارات المستقبلية المذكورة. إن مدينة وجدة اليوم، تشهد في كثير من أحيائها المركزية، اختناقا وانسدادا مروريا لا يطاق. حتى أن إلإشارات الضوئية المنظمة لحركة المرور، أصبحت غير ذات جدوى. بل وحتى تواجد شرطة المرور أصبح لا يجدي نفعا. بفعل الأمواج البشرية التي لا تنتهي من الراجلين في كل اتجاه. والأعداد الرهيبة لأسطول السيارات والعربات والدراجات والحافلات المتدفقة. والتداخل والفوضى العارمة في استعمال الطريق، من طرف السائقين والراجلين على السواء. والذي يسببه في الغالب، بالإضافة إلى ضعف الطاقة الإستيعابية لمختلف الطرق والشوارع، الإحتلال الكامل والشامل والدائم للأرصفة، من قبل التجار المتنقلين والقارين. الذين يغرقون هذه الأرصفة، بل وحتى أجزاء من الطريق العام أحيانا، بسلعهم المتراكمة. دافعين بالراجلين قسرا، إلى تقاسم استعمال الطرق الضيقة أصلا، مع مختلف السيارات والعربات. مما يفاقم من احتمالات وقوع حوادث السير. ويجعل مهام شرطة المرور بالغة التعقيد والصعوبة والإنهاك. حتى أن رجالها يثيرون الشفقة، وسط هذا التكدس والفوضى المرورية العارمة، في جو ملوث خانق، نتيجة ارتفاع منسوب التلوث الناتج عن مقذوفات عوادم السيارات بطيئة أو متوقفة الحركة. حتى أنني أكاد أجزم بأن الإستنشاق المستمر لهذه السموم على مدار اليوم، من طرف شرطي مرور، ينظم السير والجولان في نقطة دائرية، كالتي تجاور مسجد باب سيدي عبد الوهاب، على سبيل المثال لا الحصر، وسط أجواء ملبدة بسحب كثيفة من التلوث، المنبعثة من عوادم آلاف السيارات، بطيئة الحركة والمرور، بسبب الإختناق المذكور، سينتهي به الأمر لا محالة، صريع أمراض الربو والحساسية وغيرها من الأمراض التنفسية.. وما يسري على شرطي المرور، ينسحب على آلاف التجار والمواطنين العاملين أو العابرين لمثل هذه النقط المرورية، وما أكثرها. ولعمري أنه كان على إدارة الأمن الوطني، من باب الحرص على صحة رجالها، أن تخصص للساهرين منهم، على تنظيم المرور في النقط المكتظة السوداء عالية التلوث، كمامات أو واقيات، تحول دون استنشاق مثل هذه السموم، كما هو جارٍ به في عدد من البلدان التي تعاني من مشاكل مماثلة. إن السير والجولان في مدينة وجدة، سِياقة أو تِجوالاً، خاصة في النقط والمحاور المرورية المكتظة، المتمركزة في قلب المدينة، خاصة خلال أوقات الذروة، قد أصبح يمثل قطعة عذاب لا تحتمل ولا تطاق. من فرط ما يستهلكه من وقت ثمين، وما يحرقه من أعصاب، وما يستهلكه من محروقات، وما يسببه أحيانا من اصطدامات ومشاحنات على الطريق، ناهيك عما ينتجه من حوادث سير عديدة مختلفة الخسائر. حتى أن كثيرا من سائقي سيارة الأجرة الصغيرة، أصبحوا اليوم يرفضون نقل المواطنين صوب هذه الوجهات والبؤر المرورية المكتظة. اختناق يهم جميع مستعملي الطريق على السواء. من سائقين وراجلين. يحدث كل هذا في ظل سيادة بنيات طرقية هشة ومحدودة الطاقة، تنتمي إلى عصر آخر. إن معالجة هذه التحديات المرتبطة بالنقل بمدينة وجدة آنيا ومستقبلا، أصبح مطلبا ملحا بل وضرورة مستعجلة، لأنه لا تخفى على أحد أهمية هذا القطاع كشريان للحياة بالمدينة في مختلف تجلياتها. فسلاسته تعني تدفقا للحياة في كل مفاصل المدينة ومجالاتها المختلفة. وانسداده يعني تجلطاً يصيب هذه المفاصل والمجالات بالشلل والتوقف والعجز. وإن جميع مكونات المدينة من مسؤولين منتخبين، وسلطات إدارية محلية، وأجهزة الأمن، وفعاليات المجتمع المدني، وعموم المواطنين، ملزمين إجبارا لا اختيارا، على الإنخراط في ورش كبير، لفك الطوق المروري الخانق، على كثير من النقط والمحاور المرورية السوداء بالمدينة، كل في مجال اختصاصه وصلاحياته ومساهماته. حتى لو تطلب الأمر اتخاذ قرارات شجاعة مؤلمة، يتم فيها اللجوء إلى البتر والإستئصال، عوض تقديم المهدئات والمُنومات المسكنة للألم.