المختار أعويدي رن جرس الهاتف.. مكالمة مقتضبة فاترة من أحد الموظفين بالمديرية الإقليمية للتربية والتكوين بالناظور، تقول: إنك مدعو للإلتحاق بمقر المديرية، لأجل استلام رسالة إحالتك على التقاعد النسبي.. انتهت المكالمة كما بدأت مختصرة وجافة..! قصدتُ بعدها المقر المذكور، وزخمٌ من الأحداث والصور والذكريات لا يكاد ينتهي، يتزاحم في ذاكرتي، ويتفاعل في مخيلتي، يحرك مشاعري وأشجاني. يدور كله حول هذه الرحلة الطويلة المنهكة، التي انفقتها في خدمة سلك الوظيفة والمدرسة العمومية، والتي آن الأوان لنهايتها. زخم جعل خطاي تتثاقل وتتكاسل في الإسراع صوب الوجهة المرغوبة، وكأني بالمكان المحدد، والموعد الموعود ينتظرني فيه أمر جلل، تعافه النفس، وتمقته الروح. إنه بالتأكيد حدث جلل، وطارئ مروع، لا يكاد يستسيغ طعمه المرير، سوى من عبر من هناك، من بوابة التقاعد.. لا لشيء، سوى لأن حدث مغادرة سفينة أسرة التربية والتكوين، بعد كل هذا الردح الطويل، من الألفة والدفء، والعمل بخيباته ونجاحاته. وفتوحاته وانكساراته، وأفراحه وأقراحه، وتوديع فضاءات المدرسة العمومية بعد كل هذا المسار الحافل بالكد والعطاء، والتعب والعناء، أمر عسير على النفس، عزيز على الروح.. لكن مهما كانت قسوة اللحظة وأشجانها، فالأقسى منها والأشد إيلاما، هذا التوديع الفاتر الجاحد، الذي لا طعم له ولا لون، الذي هيأته المديرية لرجالها ونسائها المحالين على التقاعد. في أحد مكاتب المديرية المذكورة، التأم شمل بعض الموظفين المحالين على التقاعد، وقد بدت ملامح التعب والوهن بارزة على محياهم. اشتعلت رؤوسهم شيبا، وشحبت سحنات وجوههم، وغارت عيونهم التائهة، وهم يقفون أمام موظفة تحتل صدر المكتب، وقد وضعت أمامها محضر توقيعات وكومة أوراق، طُبع عليها كلها نفس النص والمضمون والختم والإمضاء تقريبا. سوى من أسماءٍ وأرقامِ تأجير، تختلف باختلاف أصحابها. تقوم بين الفينة والأخرى بفرز الكومة، بحثا عن أسماء المتقاعدين المتعاقبين الماثلين أمامها. حيث ينتهي الأمر باستلام كل واحد منهم لرسالة إحالته على التقاعد، بعد توقيع المحضر الخاص المذكور، ثم ينصرفون مغادرين المكان تباعا بخطى متثاقلة، وعيونهم مسمرة على الرسالة، تحاول استطلاع فحواها ومضمونها المعلِن عن نهاية الخدمة، واستنفاذ المسار، وانتهاء "الصلاحية". يغادرون المكان وعيونهم تكاد من فرط فيض المشاعر المتدفقة، التي أثارها/أفرزها المقام، تنطق ولسان حالها يقول: "إنه برغم ألم الرحيل ولوعة الفراق. فراق الأصدقاء والزملاء، والمتمدرسين وفضاءات العمل المعهودة، وتوديع محراب العمل، ومنبر التدريس.. فقد تخلصنا من كابوس هذا القطاع المثقل بالمشاكل والأعطاب، المتخم بالهموم والإنتكاسات. الذي ظل يراكم الأزمات والويلات، منذ استقلال البلاد. ويدور في نفس الحلقة المفرغة، حلقة الإصلاحات وإصلاحات الإصلاحات العديدة، المتنافرة وغير المتكاملة. حتى أصبح قطاعا خانقا لا يُطاق، من فرط مشاكله المتراكمة، وهمومه وخيباته، الناجمة عن سوء التدبير، وغياب الرؤية الواضحة، وغموض الأهداف المتوخاة، وتعاقب الإرتجال والخبط واللامبالاة، مع توالي الحكومات المتعاقبة. استلمتُ الرسالة بدوري، وانصرفت إلى حال سبيلي، مغادرا مقر المديرية، كما ولجتها، كشأن باقي زملائي، بعدما قرأت الرسالة الموغلة في عبارات اللطف المُعلب الجاف. وقد تركت هذه الزيارة في نفسي ما تركت، من حزن وأسى عميقين، وسيل عارم من الأسئلة الحارقة لا ينتهي، بشأن مثل هذه النهاية المذلة الكئيبة، التي تخصصها الإدارة لرجالها ونسائها، من الذين أفنوا زهرة أعمارهم، في مشوارهم الطويل من البذل والعطاء والتضحية، في مختلف مرافقها وأسلاكها، خدمة للوطن والمواطنين. وهذا التوديع الحزين الموجع وغير المشرف، الذي اختارت أن تتوج به هذا المسار المهني الطويل لموظفيها المحالين على التقاعد، وتختم به كدهم وجدهم وتفانيهم. ورقة بيضاء تحمل أختاما وإمضاءات وعبارات مبتذلة، لا روح فيها ولا إحساس. وليذهب بعدها الإطار المتقاعد إلى الجحيم.
إنها في الواقع نهاية تراجيدية حزينة، لا تختلف كثيرا في مجملها، عن طريقة تعاطي إلوزارة ومختلف مصالحها مع تدبير الموارد البشرية للقطاع ككل، حتى في عز مراحل بذلها وعطائها، والتي يميزها غياب التشجيع والتحفيز والإعتراف، وتكريس ثقافة التهميش والخذلان والنكران، على عدة مستويات ومجالات، كان آخرها ما طال نظام التقاعد من إفساد وإجحاف وإجهاز على المكتسبات. حفز الكثير من نسائها ورجالها، خلال هذا الموسم الدراسي على الخصوص، ودفعهم إلى الرحيل الجماعي، ومغادرة سفينة المهنة مكرهين، حتى قبل إدراكهم سن التقاعد بسنين. لم تكلف هذه الإدارة نفسها عناء توديع أبنائها المحالين على التقاعد، حتى بتكريم رمزي بسيط، يعترف لهم بما بذلوه وقدموه من أجل الوطن وأبنائه من مجهودات وتضحيات، وكلمة طيبة تثلج الصدر وترفع المعنويات. فاكتفت باستنساخ رسالات إخبار صماء بكماء، تحمل عبارات مبتذلة جافة بتمني الصحة وطول العمر. ثم انتهي الأمر بذهاب هؤلاء المتقاعدين إلى حال سبيلهم، واستمرارية دورة المرفق بعد تعويض المغادرين، أو تدبير الفراغات المهولة التي خلفوها وراءهم، بطريقة أو بأخرى. لتتجدد العملية خلال موسم لاحق مع فوج آخر. يحدث كل هذا، بالرغم من أن هذه الإدارة قد أقامت الحفلات ونظمت اللقاءات، واحتفت بالتلاميذ المتفوقين والجمعيات والمؤسسات.. لكنها أسقطت من حساباتها واعتبارها أطرها المحالة على التقاعد، من الذين ساهموا في صنع هذا التفوق وهذا التميز الذي حققه تلامذتها، لتكرمهم بالتفاتة محفزة، وكلمة طيبة تثلج الصدور، وتبعث الأمل في النفوس.. حفلات حضر فيها كل شيء، كل شيء، سوى الأطر المحالة على التقاعد. وكأني بها قطع غيار انتهت صلاحيتها واستنفذت جدواها، ولا يتطلب الأمر أكثر من إخبارها بموعد الرحيل والمغادرة، وتعويضها بأدوات بشرية أخرى حديثة الصلاحية. لا أفهم لماذا كل هذا الإصرار من الإدارة، على التنكر لمجهودات نسائها ورجالها المحالين على التقاعد، من الذين أفنوا زهرة أعمارهم وصحتهم، خدمة للبلاد والوطن والناس. في الوقت الذي تغدق فيه الدولة بسخاء حاتمي قل نظيره في العطاء، على صنف من "مواطني الدرجة الأولى" المتقاعدين من رجالها، أو بالأحرى المغادرين لمناصبهم، الذين لا يقضون في مواقع المسؤولية، سوى سنوات قليلات، هي في الواقع مندرجة في حكم المهام السياسية، وليس المسؤولية الوظيفية، كلها رفاه وامتيازات ونفوذ وسلطة. من قبيل الوزراء الذين بالإضافة إلى حصولهم على معاشات سمينة ظالمة غير مستحقة، يستفيد منها حتى الذين ثبت فسادهم وسوء تدبيرهم، تستنزف موارد البلاد والعباد، تمنحهم مكافآت نهاية الخدمة بسخاء وتبذير فاحش عارم للمال العام، تبلغ حوالي 700 ألف درهم )70 مليون سنتيم( لكل واحد منهم. ألا يمثل هذا الفرز قمة التمييز بين المواطنين؟! أم أن هذا الصنف من "مواطني الدرجة الأولى" هم "خدام للدولة"، ومن سواهم هم عمال سخرة !!! كم هي ناكرة للجميل هذه الإدارة، وجاحدة لفضل أبنائها !! إدارة تستهلك طاقات وقدرات مواردها، ثم ترمي بهم إلى دائرة النسيان والنكران. تماما كما يُفعل بالمواد الإستهلاكية منتهية الصلاحية. لا أدري ما الذي يميز الوزير عن المدرس، حتى يُمنح الأول أجرا ضخما باذخا، وامتيازات عديدة لا حدود لها، وتقاعدا سمينا ظالما غير مستحق، ومكافأة نهاية الخدمة ثقيلة غير مبررة، حتى لو بلغت مدة خدمته أشهرا معدودة. علما أن كل هذه التكاليف، تؤخذ ظلما وغصبا من مقدرات الآمة، دون أخذ رأي أو موافقة أفرادها. ويمنح الثاني، أجرا ومعاشا كالفتات، جزاء له على كل المعاناة والتضحيات. هل لأن الوزير يعمل أكثر من المدرس؟ هيهات ! أم لأن ظروف عمله مزرية ومتعبة أكثر منه؟ هيهات هيهات !! أم لأنه يعمل طول النهار، وقطعا من الليل؟ هيهات هيهات هيهات !! ربما لأنه قادم من كوكب آخر !!! يحدث هذا في وقت ينكشف فيه في كل مرة، حجم الفساد والنهب، الذي يطال ممتلكات الدولة والشعب، ببشاعة وجشع من طرف كثير منهم. ولا أدل على ذلك، ما أفرزته فضيحة "خدام الدولة" المعلومة، من تلاعب واستغلال ونهب، يطال ممتلكات عقارية في ملك الشعب. ما أصعب وأقسى على النفس، أن يأتيها النكران من أبناء جلدتها من الممارسين !! فحتى بعض الجمعيات المهنية التي اعتادت تنظيم حفلات التكريم لمتقاعديها، كجمعية النظار والحراس العامين، ورابطة رؤساء المؤسسات.. انخرطت هذا الموسم في مسلسل الصمت العارم المريب، وأحجمت عن تنظيم مواعيدها السنوية التكريمية لمتقاعديها، على علات هذه الحفلات وبؤسها. مع أن التكريم لا يعني أبدا إنفاقا ماديا، أو تقديم هدايا أو شهادات تقدير صماء بكماء، لا تصلح سوى للتعليق على الجدران، توهم المكرم بأنها تقدره وتحترمه…، ولكن التكريم كلمة طيبة تنبع من القلب، وتستقر في القلب والوجدان. كلمة طيبة تعترف بحجم البذل والتضحية والعطاء، كلمة طيبة تقدر طول المسار، وعناء المشوار.. فالتكريم بالمختصر كلمة طيبة واعتراف وتحفيز، إنه مشاعر صادقة تعلق على جدار القلب والعقل والذاكرة والوجدان، وليس قطعة ورق مقوى مؤطرة أو شهادات تقدير مزوقة منمقة تعلق على الجدران. ولا إطارات ضخمة لأسماء الله الحسنى، أو مصاحف أنيقة التجليد والمنظر، أعدت للعرض والتزيين، أكثر ما هيئت للتلاوة والتدبر. فالتكريم اعتراف وإعادة اعتبار، وليس هدايا تمنح أو شواهد تقديرية تهدى. أكاد أجزم – وأتمنى أن أكون مخطئا – أن التكريم، بالشكل والموعد الذي كانت تقيمه وتنظمه بعض الجمعيات المهنية، على الأقل إقليميا، تكاد تحكمه اعتبارات الزبونية والقرابة والصحبة والإنتماء الضيق، وليس الإنتماء إلى حضن الأسرة الكبرى، أسرة التربية والتعليم. وهو ما يفرغ هذا النوع من التكريم من معناه الحقيقي النبيل، ومغزاه العميق، المتمثل في إرسال رسالة محبة وتقدير إلى القلب، وليس منح هدايا مهما ارتفعت قيمتها المادية أوغلا ثمنها. في ظل هذا النكران الذي مارسته المديرية الإقليمية والجمعيات المهنية المذكورة، على نسائها ورجالها المغادرين، انبثقت المبادرة على يد فعاليات محلية، أدركت قيمة التكريم، ووقعه المعنوي والنفسي على المتقاعدين المغادرين. فبادرت إلى تدارك هذا التقصير، ونفض غبار هذا الإهمال من المديرية والجمعيات المهنية المعنية، فقامت ببلسمة هذا التهميش، وإعادة الإعتبار إلى ثلة من رجال ونساء التعليم المتقاعدين محليا، من قبيل ما فعلته جمعية وزاج للبيئة والتنمية بمدينة العروي، وكذا أطر ثانوية ابن الهيثم بنفس المدينة. فلهم جزيل الشكر والتقدير والإمتنان. إنه لا يستقيم أبدا أمر قطاع قائم على كفاح ونضال وتضحية وعرق رجاله ونسائه، لا يمكن أبدا أن يرتقي أو ينهض أو تقوم له قائمة، مهما تعددت وتنوعت الإصلاحات، وإصلاحات الإصلاحات، ما لم يتم إيلاء العناية والإعتبار والتكريم، لموارده البشرية النشيطة والمتقاعدة على السواء. فإهمال المتقاعد يوجه رسائل سلبية محبطة إلى النشيطين منهم، مما ينعكس سلبا على أدائهم ومردودهم المهني. فإن تحدي المردودية، وبالتالي شرط الإقلاع والنهوض، في هذا الميدان، إضافة إلى الوسائل والإمكانيات المختلفة التي يستوجبها، هو رهين بالظروف الإجتماعية، وبالتالي المعنوية والنفسية للممارسين. ولعمري أن هذا الشرط، هو الذي كان دائما مغيبا في مختلف المحطات الإصلاحية. وبالتالي هو الحصى المدسوسة في الحذاء، المعرقلة لأي تقدم وإنطلاق، وخروج من الأزمة، في هذا القطاع المثقل بالمشاكل، المتخم بالإصلاحات وإصلاحات الإصلاحات.