إن من أهم دعامات إصلاح القضاء كمقوم من مقومات التماسك الاجتماعي وكعامل من عوامل الانتقال الديموقراطي- تعزيز الحكامة المؤسسية التي تحدث عنها صاحب الجلالة بمناسبة افتتاح الدورة البرلمانية الأخيرة والتي تقتضي توفير ضمانات الاستقلالية وتحديث المنظومة القانونية الى جانب تأهيل الموارد البشرية وترسيخ تخليقها والعمل على إشراكها وتفعيلها، وهو الجانب الذي سوف نركز عليه من خلال الوقوف على مبدأ النزاهة كقيمة من القيم السلوكية المتطلبة في الجهاز القضائي. وهو ما سوف تولى الإحاطة به من خلال محورين. المحور الأول: دعامات نزاهة القضاء المحور الثاني: آليات تفعيل نزاهة القضاء المحور الأول: دعامات نزاهة القضاء النزاهة هي نظام قانوني وسلوك أخلاقي وتربوي يقتضي وجود مرجعية يحتكم إليها الجهاز القضائي لتمديد قواعد العمل القضائي السليم في سبيل تحقيق العدالة وتوطيد الثقة والمصداقية في الجهاز القضائي باعتباره حصنا منيعا لدولة الحق والقانون، وعمادا للأمن القضائي والكلمة الجيدة ومقوما من مقومات التنمية المستدامة. لن أخفي القارئ الكريم أن الإحاطة بمبدأ النزاهة لايمكن أن يتم بمعزل عن باقي المبادئ الأخرى التي تشكل في مجملها قيما سلوكية تعزز ضمانات استقلال القضاء. ولأجل ذلك قيل بأن تعريف النزاهة في هذا المجال أمر شائك خاصة وأنها من الأمور الداخلية. ومع ذلك قيل بأن النزاهة في علاقة تشاركية مع الشفافية، وفي المقابل في علاقة قطعية مع الفساد. واليوم أكثر من أي وقت مضى أصبح الجميع يتحدث عن فساد الجهاز القضائي (التقارير الدولية - التقارير الوطنية - تقارير المجتمع المدني - خطب جلالة الملك - ...........) غير أن هذا الفساد يمكن تداركه من خلال مجموعة من الدعامات تحميلها فيما يلي: أولا: الدعامات الفردية: أو ما يمكن تسميته بالضمير الفردي للقاضي: ويدخل ضمن هذه الدعامات الفردية: مراعاة الجانب التعبدي: لأن استحضار القاضي للجانب التعبدي والروحي من شأنه أن يقيم في نفسه رقابة داخلية تؤنبه في كل خطوة يخطوها في مراحل الحكم، ولاستحضار هذا الجانب نورد قوله: ان الله مع القاضي ما لم يجر،«فإن جار تخلى عنه وأزمه الشيطان» وفي رواية الأحمد: «يد الله مع القاضي حين يقضى، ويد الله مع القاسم حين يقسم» وقال أبو عبيدة: «إن الحاكم العدل يسكن الأصوات عن الله تعالي، وأن الجائر تكثر منه الشكاية الى الله تعالى.» و مجمل القول أن استحضار الجانب التعبدي لدى الجهاز القضائي يقتضي وجوبا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باعتبارهما العمادان الأعظمان من أعمدة ديننا الحنيف. الجانب الأخلاقي: الحاكم الذي يقضي في حقوق الناس، وأعراضهم ودمائهم لاشك وأنه يكون دائما عرضة لسقطات الألسن، ومثارا للغمز واللمز، وضعه كالزجاج الرقيق الذي تخدشه اللمسة العادية، وتسيئ إليه الكلمة العابرة، وتجرحه الهفوة الصغيرة، وتؤثر في سمعته بعض «الأمور المباحة، فما بالك بالأمور التي فيها شبهة؟؟ أو تفوح من رائحتها الشبهة؟ لهذا حرص العلماء والفقهاء على سد الأبواب وإغلاق النوافذ التي يظن أنها سوف تؤثر في نزاهة القضاء، وذلك بالتأكيد على تخليق الجهاز القضائي عموما والقاضي على وجه الخصوص على أساس أن هذه الدعامة الأخلاقية تعتبر دعامة أساسية من دعامات إحلال النزاهة. وبهذا الخصوص فإنه كثيرا ما كانت الأخلاق وحِدَّة الذكاء والفراسة وحسن النظر في الأمور سببا في اختيار القضاه. ولأجل ذلك فإننا نؤكد أن استحضار الجانب الأخلاقي في هذا السياق يقتضي النظر إليه من زاويتين: تخليق الضمير الجماعي: التخليق المؤسساتي، تخليق الضمير الفردي: تخليق القاضي وأعوانه وذلك باتخاذ مجموعة من التدابير التي سوف نتولى الوقوف عليها في المحور الثاني. الجانب التربوي والمعرفي: ومفاده ان هناك علاقة تلازم وتكامل بين مبدأ النزاهة وعامل المعرفة لدى القاضي: بحيث أنه لا يمكن الحديث عن قاض نزيه من غير أن يمتلك من المؤهلات العلمية والتربوية ما يؤهله لتنزيه نفسه عن الهفوات، ولأجله نجد حرص الرسول (وبعد الخلفاء الراشدة والتشريعات اللاحقة على تولية منصب القضاء لأعرف الناس بمداخله ومخارجه على أساس أن القضاء قبل أن يكون سلطة فهو علم متميز لا يصلح له إلا من غاص بين قيعانه وسير أغواره وأعماقه.) يتبع