ميشال روكار «لا يمكن لفرنسا أن تستقبل كل بؤس العالم» جملة قالها ميشيل روكار سنة 1989، عندما كان وزيرا أول لفرنسا، وأثارت وقتها جدلا كبيراً كلفه كثيراً. روكار عاد السبت الماضي ليوضح سوء الفهم هذا ويقدم تصوره لمشكل الهجرة في فرنسا وأوربا، ويضع تلك الجملة في السياق الذي كان يفكر فيه وقتها... أصدقائي الأعزاء، اسمحوا لي، وهذه المرة على أمل أن أسمع جيداً، أن أكرر ما قلته: بإمكان فرنسا وأوربا، ومن واجبها أن تستقبل نصيبها كاملا من بؤس العالم... وإذا لم يكن بمقدورنا وحدنا أن نتكلف بمجموع بؤس العالم، فهذا لا يعفينا أبداً من واجب التخفيف منها ما أمكن. قبل عشرين سنة، كنت وقتها وزيرا أول، كنت قد عبرت عن نفس القناعة (1). لكن قلباً مؤسفاً في ذهني، لبداية الجملة، حول الحدود التي لابد أن تفرضها الإكراهات الاقتصادية والاجتماعية لأي سياسة للهجرة، سببت لي أبشع المشاكل: فكرتي التي فُصلت وغيرت عن سياقها ما انفكت تثار لتأكيد أبعد التصورات لقناعتي. وبالرغم من تكذيبي العلني المتكرر، سمعت أكثر من مرة البداية السلبية لجملتي مبتورة عن سياقها الإيجابي، والتي ذكرت بسوء نية لخدمة إيديولوجيات عنصرية وممارسات قمعية، وفي بعض الأحيان لا إنسانية لم أتوقف يوما عن التنديد بها ومحاربتها [...] وإذا كنت قد فُهمت على النقيض تماماً لقناعاتي قبل عشرين سنة، فلأنه في تلك المرحلة كان جزء واسع من الطبقة السياسية والرأي العام الفرنسي من اليمين الى اليسار قد أغلق على نفسه في التناقض المتمثل في طاعة المطالب العنصرية لليمين المتطرف بذريعة الحذ من نفوذه [...] والنتيجة هي أنه بعد مرور عشرين سنة تميز الوضع بتطور تشريع أوربي حول دخول وإقامة المهاجرين، يرتكز على نظرة أمنية صرفة [...]. عواقب هذه السياسة غير المضيافة كانت بكل بساطة كارثية وفي أغلب الأحيان إجرامية، آلاف القتلى في البحر الأبيض المتوسط، في المحيط الأطلسي أو في وسط الصحراء، وبالنسبة للمرشحين للهجرة الذين لا يملون، يسلكون دائما طرقاً أكثر تعقيداً وخطورة، ممارساتنا للرفض تشجع الشبكات المافيوزية على التغلغل في هذه التجارة الجديدة في البشر. الممارسات اللا إنسانية التي تشوه بلدنا داخل الاتحاد الأوربي، تضعف هذه التشريعات في كل مكان احترام حقوق وحريات الجميع، بالمساهمة في تعزيز نظرة خرافية عن الهجرة وانكماش على الذات و الخوف من الآخر. على المستوى الدولي، تتعمق أكثر هوة عدم الفهم والأحقاد مع سكان الجنوب وحكوماته التي غالبا ما تجد نفسها مجبرة على الخضوع لمساومة مهينة بين المساعدة من أجل التنمية والمشاركة في المراقبة البوليسية لموجات الهجرة (...) في نفس الوقت، فإن التوقعات بنمو ديمغرافي متزايد، لاسيما في إفريقيا التي ينتظر أن يتضاعف عدد سكانها بحلول سنة 2050 مصحوبة بالتحولات بالتحولات المناخية وعواقبها على حياة السكان - ألا تشير التقديرات بوجود أزيد من 100مليون «لاجيء مناخي» في أفق منتصف هذا القرن؟ - تؤكد إذا كان الأمر يحتاج إلى تأكيد بأن موجات الهجرة مازالت ولوقت طويل أمامنا وليس وراءنا (...). ومع ذلك بطبيعة الحال، فإن الدول في مجتمعاتنا المعقدة جدا والهشة على أكثر من صعيد، لا يمكنها أن تترك أبوابها مشرعة ولكن لا يمكنها كذلك أن تغلقها: لابد من القطع مع إما الكل أو لاشيء! الحق في الهجرة وواجب الضيافة يجب أن يمارسا وفقا لقواعد تجعلها مقبولة من طرف الجميع، التنظيم الحالي لا يقدم أي حل واقعي للمشكل، وبالتالي هناك حاجة ملحة في أوروبا لابتكار قواعد أخرى ترتكز على احترام القانون الدولي ومبادئ حقوق الانسان في إطار نظرة واقعية للظروف الاقتصادية والاجتماعية لاندماج المهاجرين ترتكز على قراءة جديدة للعالم، لمخاطر وآمال مستقبله المتوقع (...). هذه الضرورة الملحة لتحويل المنطق السائد منذ عشرين سنة، تجد تجسيدها الأول من خلال تغيير الممارسات السياسية التي تطورت في فرنسا تجاه قضية الهجرة في شموليتها، أحلم بأن تفتح فرنسا في هذا الصدد طريق المسقبل، بأن تتجرأ على وضع قواعد سياسة الضيافة التي بدونها ستفقد فرنسا نفسها وأوربا بالتأكيد معنى القيم السياسية والأخلاقية التي تنبني عليها، وفن الحياة المشتركة التي تستطيع وحدها ضمانها. الرئيس ساركوزي الذي تبنى لحسابه مفهوم ادغارموران دافع عن ضرورة تشجيع سياسة حضارية. يبدو لي واضحا أن سياسية حضارية تعني نظرة جديدة تماما لواقع الهجرة والطريقة التفكير فيه ومعالجته في فرنسا وأوبا. إنها خطوة قوية رمزيا أن يتم التخلي عن اختبارات الحامض النووي الذي تريده الاغلبية البرلمانية (...) ولكن هناك جوانب أخرى يفرض تدخل مماثل نفسه فيها إذا ما أردنا أن تتخلى سياستنا في مجال الهجرة عن الممارسات اللاإنسانية التي أدت إليها في بعض الاحيان والتي تشوه صورة بلدنا. عدم إدانة التيه أحتفظ بثلاث نقط التي أعتقد من الضروري أن يقع فيها تطور حقيقي، الأولى تتعلق بتحديد الحصص السنوية للطرد من فرنسا، فلا حاجة لجمل طويلة لقول ما لا ليس مقبولا إنسانيا، في إمكان إعطاء الشرطة هدفا مرقما من هذا النوع، لا أنكر ضرورة اللجوء إلى الطرد في بعض الحالات والحكومة التي كنت أترأسها قامت بذلك أيضا، ولكن كان ذلك في إطار عمل الشرطة العادي لحفظ النظام العام. الحصص، على العكس من ذلك، تدفع مصالح الشرطة إلى قيادة نوع من عمليات المطاردة لبلوغ الأهداف التي حددها الولاة، مع ما يحمله ذلك من خطر دائم بحصول مآسي غالبا ما نأسف لوقوعها. النقطة الثانية المرتبطة مباشرة بالأولى تتعلق بالمس بالحياة العائلية التي تتزايد، تجاه التزامات فرنسا. اليوم سياسة احتجاز وطرد المهاجرين لاتستثني الأزواج والعائلات بمن فيهم الأطفال، وغالبا ما تبدو بعيدة عن احترام أبسط الحريات الفردية، فاسحة بذلك المجال للتشريعات الاستثنائية (...) فيما يخص تواجد الاطفال هذا الصيف، في مراكز الاعتقال، سمعت تبريرا مستفزا أن مثل هذا الإجراء تقرر لتمكين الآباء من عدم الابتعاد عن أطفالهم.. رغم وجود حل آخر لهذا المشكل، أخلاقيا، أفضل يتمثل في التخلي بكل بساطة عن وضع الأشخاص الذين يعيشون مع أطفالهم في مراكز الإيواء في بلادنا. النقطة الثالثة تهم بطاقات الإقامة، في فرنسا يقدر عدد المهاجرين الذين يقيمون بصورة غير شرعية ما بين 100 ألف و150 ألف، لكنهم يتوفرون على عمل ومكان إقامة ويتكلمون اللغة الفرنسية، وبالتالي فهم مندمجون كليا في حياتنا الاجتماعية وأغلبيتهم ينحدرون من مستعمراتنا السابقة، وبالتالي فهم جزئيا منا. لا أدافع عن تسوية جماعية لأوضاعهم، كما يقال غالبا، لأنني أعتقد على العكس أن سياسة الإدماج تعني دراسة كل حالة على حدة. ولكن شريطة أن يكون الهدف هو إعطاء بطاقة الإقامة لكل من يثبت اندماجه أنه مؤهل للعيش بيننا. وأخلاقيات حقوق الإنسان تفرض علينا ذلك، ولكن أيضا سياسة مسؤولة، لأنه ما معنى أن نبقي على رجال ونساء، يساهمون بعملهم في نشاط بلادنا، وغالبا في ميادين لايتهافت عليها الفرنسيون، ويوجد أبناؤهم في مدارس الجمهورية، بدون بطائق إقامة؟ هذه النظرة الجديدة لهؤلاء العمال، الذين سيظلون في كل الأحوال بيننا، ستكون لها انعكاسات متعددة على وعي مواطنينا.. ، وأنا على يقين، بأنها ستساهم بشكل حاسم، في استعادة الأمل لدى الشباب من أصول مهاجرة الذين يفقدون الأمل في إيجاد مكان داخل مجتمعنا. وبالنسبة لهذه السياسة في أوروبا حان الوقت للخروج من المنطق الأحمق الذي يريد حماية حرياتنا وهويتنا بنسف أسس إنسانيتنا نفسها. من المستعجل إعطاء معنى ومحتوي لمبادىء المساواة والأخوة بإعادة إرساء قانون مستقر يمكن من هم مؤهلون للبقاء فوق التراب الأوروبي بالوصول الى مواطنة حقيقية. وسأقتصر هنا فقط على بعض الأفكار، الأولى وهي أن التقسيم الحتمي بين المرشحين للهجرة، بين من بإمكان فرنسا أن تستقبلهم ومن تختار عدم استقبالهم، أن يتم هذا التقسيم أفقيا بشكل إنساني ما أمكن. وهذا يعني أيضا أن الأمر يتعلق بإقامة قواعد واضحة وشفافة لوضع حد للضبابية، بل والتعسف الذي يسود غالبا في هذا الميدان. الفكرة الثانية ترمي الى تحديد تجمع السكان الذين يعانون من الهشاشة بشتى أنواعها في نفس المناطق. لابد من حل مشكل الإقصاء الاقتصادي والاجتماعي الذي لايهم فقط الأجانب. وأنا سعيد بأنني تمكنت من إقرار القانون الذي يفرض على جميع المدن بناء % 20 على الأقل من المساكن الاجتماعية في جميع البناءات الجديدة، ومازالت هناك تحفظات في تطبيقه. يجب البحث عن أسباب ذلك، وربما تشديد العقوبات. الفكرة الثالثة تهم تسهيلات تعليم لغتنا لجميع من يقيمون في فرنسا.. وفي هذا الصدد هناك الكثير يمكن تطويره، لأن التمكن من اللغة عامل حاسم للمشاركة الفعلية في الحياة الاجتماعية. الفكرة الرابعة أكثر تعقيدا من الناحية السياسية وتهم القانون. لابد أولا من تخليص تشريعاتنا من أي إجراء أو تناقض يرمي إلى خلق هذه الفئة غير المقبولة من الأجانب الذين لا يمكن تسوية وضعيتهم ولا طردهم[...]، يجب أيضا أن تبتكر أوربا بسرعة وضعا قانونيا للاجئين بالواقع، الذين هم الأفغانيون الذين عشنا طردهم من ملجئهم البئيس في كالية، والذين لا نستطيع أخلاقيا إعادتهم الى بلد في حالة حرب منذ ثلاثين سنة. ولا يمكن أيضا الحكم عليهم بالتيه[...] الفكرة الخامسة هي بالتأكيد الأهم، وأريد أن أتحدث هنا عن العُمَد، هؤلاء الضباط العموميون المسؤولون أساسا عن حسن سر مسلسل الاندماج محليا. كل هذا يقع على كاهلهم وليست لهم وسائل مواجهة ذلك. وإلى جانب هذه الأفكار، فإن الإطار الجديد الذي تفرضه الضرورة لا يمكن ابتكاره إلا بالخروج من نظرة أوروبية ضيقة، وبإقامة حوار جديد مع دول الجنوب، وفي المقام الأول مع إفريقيا. ولا يمكن بناؤه دون إشراك المجتمعات المدنية فيه لاسيما النقابات والجمعيات التي تشكل بعملها المشترك وقدرتها على الابتكار، محركا أساسيا لبروز حوار وحلول للمستقبل. (1) الجملة بكاملها هي: لا يمكن لفرنسا أن تستقبل كل بؤس العالم، ولكن عليها أن تعرف كيف تأخذ منه نصيبها بأمانة. (*) مداخلة ميشيل روكار أمام اللجنة المشتركة بين الحركات لدى المرحلين -comité intermouvement aupres des evacués