الثقافة هي كل ما يتبقى في المدينة، حين تفقد المدينة كل شيء، وآخر هموم مدننا الضوضائية حيث يختلط الحابل بالنابل هو الهمّ الثقافي واحسرتاه! الثقافة ذاكرة المدن... الثقافة والفن رسخا مدنا عظيمة في الذاكرة والوجدان، والمهرجانات الثقافية كانت دائما تلعب الأدوار الطلائعية في التذكير بأن المدينة ليست فقط بنيانا وساكنة وأحياء الصفيح وحفر وأوساخ وتسول وحوادث وجرائم وفيضانات حين تكون الشتاء خيطا من السماء. المدينة هي أيضا ثقافة أو قل هندسة ثقافية أو خزانا ثقافيا، والمدينة بدون ثقافة وفنون هي مدينة ميتة أصلا، وفي بلدنا الحبيب، جل السياسيين ينفرون من هذا الحقل، ويخيل إليك بأنه شبح يخيفهم. لقد ولى يا سادة ذلك الزمن الذي قال فيه أحد الزعماء الكبار: «عندما أسمع كلمة ثقافة أشهر مسدسي!» لقد حان الوقت، بل حان أكبر الأوقات لكي يتم تشجيع المثقفين والثقافة من طرف المسؤولين والمنتخبين، وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم. الموسيقى على رؤوسنا... والفنون التشكيلية ألف مرحى... لكن هنا أيضا الشعر والقصة والرواية والنقد الأدبي والإبداعي والترجمة والمسرح والسينما وهلم جرا... على الساسة والسياسيين تحفيز وتشجيع الندوات الفكرية والمحاضرات الثقافية واللقاءات الفنية والنقاشات حول الفلسفة والتاريخ والكتب الصادرة.. وتكون اللقاءات المثمرة... ينبغي تفعيل استراتيجية مفكر فيها ليترسخ العمل الثقافي النبيل في كينونة شباب سكان المدينة حتى لا نتركهم عرضة لتلك الأشياء التي على البال. راودتني هذه الفكرة غير الجهنمية وأنا أتابع «رمضانيات البيضاء الثقافية» التي نظمها الائتلاف المغربي للثقافة والفنون» مؤخرا. وتذكرت مداخلة الناقد حمادي كيروم أثناء الندوة الصحفية التي أقيمت بالمناسبة، قال حمادي كيروم: «ثلاثون عاما... ثلاثون عاما وأنا أقدم مداخلات وأتكلم في محاضرات، ثلاثون عاما وأنا أتدخل في ندوات حول السينما ومواضيع أخرى، ولأول مرة هاهنا أجلس بجانب رجل سياسي...»، ويقصد بالرجل الأخ كمال الديساوي... جملة تحمل في حروفها أكبر دلالة... الأشياء تغيرت أو كاد يدركها التغيير. وحين يتدخل السياسي المنتخب لخدمة المدينة ثقافيا تكون النتائج كما جاءت موفقة في «رمضانيات البيضاء الثقافية». ليالي وليالي من المتعة والمؤانسة... من الجدية والمعقولية... من الكلمة والعبارة والصوت والصورة... موسيقى ... سينما... شعر... زجل... تشكيل... تصوير... ندوات... داخل فضاءات مجملها وليس كلها، صالحة في انتظار أن يكون الكل في الكل وما الغد ببعيد إذا كانت الإرادة هنا والآن... ليلة الشعر والزجل وليلة القصة وليلة الشعر الأمازيغي وليلة المجموعات والليلة الصوفية وليلة العيطة... ليالي تنسي ولا محالة تفاهة التلفزيون الرديئة في هذا الشهر الجميل... دون أن ننسى ليلة الحكاية... «الحق في الصورة» كموضوع يفرض نفسه في الزمن الراهن كان عنوان الندوة الفكرية التي حضرها الحاضرون. وليلة السينما بشريط «سراح مؤقت» للمخرج الواعد نوفل براوي، والفيلم الطويل «خربوشة» لحميد الزوغي. الاختيار في محله ووقته كان... والجمهور في الموعد كان... وموقفا جدا كان اختيار المخرج السينمائي لطيف لحلو في إطار ليلة «تجربة مبدع» التي احتضنها مسرح محمد السادس بحضور ثلة من الفنانين والمبدعين والإعلاميين... احتفاء كان بحق في مستوى المحتفى به وشهادات نابعة من الصدق العميق تجاه هذا الرجل المتواضع الذي يحمل اسما على مسمى. ولإنجاح هذه التظاهرة، لم يكن بدا مرة أخرى من تضافر جهود أشخاص لهم مالهم من تجربة ودراية وحب الثقافة والفنون وعلى رأسهم الرجل الذي لابد منه الأخ حسن النفالي، وطبعا الفنان المتميز جدا جدا محمد الدرهم إلى جانب أناس يحملون في دمائهم حب الثقافة والإبداع كالكاتب عبد النبي دشين والناقد السينمائي حمادي كيروم، والفنان التشكيلي عبد الحي الملاخ والمناضل الأبدي أحمد الصعري والرجل البشوش مصطفى الزيراوي وأعتذر اعتذارا صادقا لمن نسيت... فشكرا لكم جميعا لإنجاح هذا البرنامج، وفي انتظار شهر رمضان المقبل، نتمنى أن تسهروا على تنظيم برامج أخرى ثقافية وفنية، ولا تقتصروا على شهر الغفران كما يفعل التلفزيون العجيب مع فكاهته الغريبة.