أتوجه أولا بتحية خاصة للدكتور محمد شحرور على هذا العمل الضخم الذي يستحق التنويه، ليس باعتبار الجهد الذي بذل فيه فقط، بل كذلك نظرا للشجاعة الكبيرة التي تحلى بها ولتصديه لمطلب علمي ملح ألا وهو إعادة قراءة النص الديني والقرآن بصورة خاصة على ضوء مناهج حديثة. صدر الكتاب والقرآن في مطلع التسعينات، هذا العقد الذي شهد ولادة التحولات الكبرى التي يعرفها العالم.. وكأن الكتاب أراد أن يكون في مستوى اللحظة، فزعم دون كبير تواضع أن كل القراءات السابقة ظلت تتخبط في عوائق منهجية، لغوية بالأساس، وأنها لم ترق إلى مستوى فهم القرآن، وهو ما انعكس على الفلسفة، على علوم الفقه والدراسات الإسلامية عموما التي وقفت عاجزة أمام بعض المعاني بسبب منطلقاتها الخاطئة. هكذا لم يعد الدكتور شحرور فقط بقراءة جديدة للقرآن، بل بنظرية في المعرفة تخرج الإنسان من الكهف . تتصف بالموضوعية والعلمية إننا مقيدون فقط بقواعد البحث العلمي الموضوعي وبالأرضية العلمية في عصرنا. لهذه الغاية، لم يوفر أي جهد في انتقاء ترسانته العلمية وفي شحذها.. فوظف بصورة مباشرة أو غير مباشرة: فقه اللغة، اللسانيات، الرياضيات، قوانين الجدل، بعض إواليات المنهج البنيوي، نظرية تطور الكائنات الحية وحتى بعض عناصر نظرية التحليل النفسي.. قد يتساءل كثيرون بحق، لماذا حشر كل هذه الأدوات والطرائق المنهجية؟ لماذا السعي إلى البحث عن تأويلات لأبرز الاكتشافات العلمية الكونية والإنسانية بين تلابيب نصوص سابقة عليها بعدة قرون؟ يجيب أستاذنا: بما أن القرآن صالح لكل زمان ومكان، فإنه يتضمن ضرورة هذه المعارف كاملة، ويرى أن استنطاقه بناء على المنهج اللغوي الذي اقترحه كاف لاستخلاص هذه المضامين جميعا. من هنا فإن "الكتاب والقرآن" لايمثل المدخل الرئيسي للعرب أو للمسلمين للقطيعة مع تخلفهم وولوج العصر فقط، بل هو تطلع إلى فض إشكالية المعرفة الإنسانية، وإلى الإجابة على جميع الأسئلة التي طالما استعصت على الإنسان، إن كان على المستوى الكوني أو . الميتفيزيائي (2) طالما أن الدكتور شحرور يعتبر إعادة تأويل النص الديني شرطا للمعاصرة في مقدمة الكتاب، فإن هناك سؤالا لا يملك المرء إلا أن يطرحه، بغض النظر عما إذا كان النص الديني جزءا من التراث أم لم يكن: هل المعاصرة أو التقدم هي مسألة وعي، تأويل أو تمثل نص معين فقط ؟ إن ما يعطي هذا التساؤل معناه بقدر أكبر، أن الدكتور نفسه، يدعو إلى إعادة قراءة الجزء المتعلق بالرسالة من الكتاب على ضوء تجدد متطلبات الواقع، ألا يمكننا القول أن ما وصفه صاحبنا بالثابت والمطلق، في مستوى النبوة.. هو ثابت ومطلق إنسانيا وكونيا.. أليست قيم الحرية، العدالة والكرامة قيما كونية مطلقة كانت قبل الأديان وظلت قائمة بعدها.. لماذا تخصيص ما هو عام؟ وماذا يمكن أن يفيد إذن؟ إذا عدنا إلى النموذج الأوربي، سوف نجد أن الأمور سارت على عكس ما يندبنا الأستاذ المحترم إليه: إن تطور الحياة المادية هو ما كان يخلق شروط إعادة قراءة النص الديني وليس العكس. إن ظهور الطباعة هو ما كان من وراء كسر احتكار الكنيسة للكتاب المقدس، كما أن نشوء الدولة القومية هو ما كان من وراء ترجمته، وبالتالي زرع بذور تناسل قراءاته، أخيرا فإن تغير شروط الإنتاج المادي هو ما أدى إلى ظهور حركة الإصلاح الديني ووضع أسس المجتمع والدولة الحديثتين.. إعادة قراءة النص جاءت إذن في مستوى لاحق.. إن العمل، الممارسة، الانكباب على الواقع هو ما يخلق شروط تجاوز هذا الواقع، وكل زعم بالخصوصية أو بامتلاك حقيقة استثنائية يتنافى تماما مع مبدأي العلمية والموضوعية اللتين التزم بهما الباحث. كما أن سلخ أي نص عن سياقه التاريخي والاجتماعي، يفتح الأبواب أمام التأويلات الأكثر غرابة ويخضع مفاهيم هذا النص لإكراهات دلالية بروكسيتية تلوي أعناقها، معجميا صرفيا ونحويا. إن الزعم بتقديم القراءة الصحيحة للقرآن، بالنسبة لباحث يرفع شعار الموضوعية والعلمية لا يمكن إلا أن يكون لا علميا ولا موضوعيا لأسباب متعددة نذكر منها على سبيل الاستئناس فقط، أن الاستناد إلى بعض الملاحظات اللغوية للقدماء، لا يشكل بحال من الأحوال نظرية علمية بالمعنى الدقيق، إن العمومية التي هي شرط من شروط العلمية، لا يمكن أن تقوم إلا بناء على دراسة مقارنة بين عدد من اللغات.. هذا هو أساس التمييز بين علم اللغة وفقه اللغة.. ونحن على سبيل المثال لم نسمع أبدا عن نظرية في الإثنولوجيا انطلاقا من دراسة قبيلة واحدة.. على المستوى اللساني مزج الباحث بين المدرستين التوليدية الوظيفية (2) المصدر 31 وهو ما سبق أن نادى به الشاطبي، اللهم أن الأول نادى به من موقع الفقيه، في حين ينادي به صاحبنا من موقع العلم والمعرفة.. في تحديد اللغة، فأعطاها وظيفتين: التفكير والتواصل، وبغض النظر عن التشويش الذي يمكن أن يثيره مثل هذا الخلط بين المدرستين، فإن المعنى بمقتضى هاتين المرجعيتين لا يكمن في النص، ولا في ذهن القارئ، كما أنه لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يكون متعاليا عليه، بل ينطلق من العلاقة التي يقيمها القارئ معه، أي أن كل قراءة للنص هي إعادة إنتاج له. قد يقول الدكتور شحرور أن هذه الدينامية في المعنى، بين القارئ والنص المقروء هي ما تحققه العلاقة التي يفترضها بين الاستقامة والحنيفية على مستوى الآيات المحكمات.. هنا سوف يكون قد طبق مقياسين متقابلين على نص واحد، في لغة واحدة، انطلاقا من تأويلات خاصة حنطت المفاهيم، التي هي بمثابة مفاتيح للنص، داخل معان قادرة بما قد يؤسس لأرثودوكسية جديدة. ورغم تعدد المرجعيات النظرية والمنهجية بالنسبة للدكتور شحرور، ومع أن الكثيرين وقفوا مطولا عند المؤثرات الماركسية، بغرض الإساءة، وأن البعض لم يتورع في وصف الكتاب بأنه مؤامرة يهودية، فإنني أظن أن التأثيرات الأكثر وضوحا تعود للبنيوية، لاعتبارات ذاتية وموضوعية. يتمثل العامل الذاتي في سعيه إلى فهم العالم انطلاقا "من نص في لغة".. ولا يتعلق الأمر هنا فقط بالعالم الذي كان في زمن النص، بل ما كان قبله وما أتى بعده، وما قد يستقبل من الأحداث. أما الاعتبارات الموضوعية فتتمثل في اعتماد علم اللغة مرجعية أساسية للمقاربة، وفي انتهاج تقنية الحفر في المفاهيم، وفي تفكيك النص إلى "تيمات" أو موضوعات - كتب - وبالتالي إسقاط مقولة الجوهر. على أنه إذا كان الدكتور شحرور قد توفق إلى حد ما في العملية الأخيرة، فإنه لم يتوفق بنفس القدر، ولربما أخفق في الخطوة الثانية.. لقد تعسف كثيرا في رأيي على المصطلح القرآني وحمله ما لا يحتمل.. إن نفي الترادف مبدأ لسني سليم، يقوم على مبدأ الاقتصاد في اللغة، لكن مع ذلك لا يجب أن يشترط فيه أو أن يتم إغفال دور بعض الاستعارات أو المجازات التي تتحول إلى مرادفات قارة أو مؤقتة، وهي في الحقيقة الاستثناءات التي تؤكد القاعدة، إن إقرار هذا المبدأ لا يجب أن يبرر حشو عدد من هذه المترادفات بمعان في غاية الغرابة، التي ليس هناك ما يسندها أحيانا 3 أو لوي أعناق بعض مفردات الكلم القرآني لكي تعطي معان بعيدة، تصب صبا في التصور الجاهز والمسبق للباحث 4 أو فرض معان على بعض المفردات، لا أصل لها حتى في المعاجم التي يقول الباحث أنه اعتمدها 5 إنني أظن أن الدكتور شحرور قد سجل أبرز مظاهر إخفاقه حيث يبدو له أنه قد توفق تماما .. أي في سعيه إلى البرهنة على أن القرآن يتضمن جميع المعارف الكبرى، الطبيعية، التجريبية والعلمئنسانية، وبالتالي في اعتباره في حد ذاته نظرية في المعرفة.. لقد التزم الباحث في مقدمة كتابه أنه سوف يتقيد بالمعرفة العلمية والموضوعية، والحقيقة في رأيي أنه لم يتقيد بأبجدية نظرة المعرفة القائمة على التمييز النوعي بين مستويات المعرفة، الطبيعية، العلمئنسانية والدينية.. الأمر الذي جعلنا نقف محتارين أمام نظريته هاته: هل هي نظرية في 3 البشر/الإنسان 4 قضاء/قدر 5 إعطاء معنى الثبات والاستقرار للفعل برك والميل للفعل حنف.. نشوء الكون ؟ في ظهور اللغة وفي تطورها ؟ في قوانين الطبيعة ؟ في الفلسفة ؟ في التفسير ؟ أم هي تأسيس لمذهب فقهي جديد ؟ إذا كان الكشف العلمي لا يعدو أن يكون ابتكار لغة جديدة لقراءة الواقع، تمكن من طرح أسئلة غير مسبوقة، أكثر سبرا له، فإنني عندما انتهيت من قراءة الكتاب، تساءلت عن فحوى المعجم الذي يقترحه علينا الدكتور.. هل هو معجم مطابق بالفعل لمدلولاته ومؤسس بالفعل لكشف علمي جديد ؟ عند ذلك تذكرت لعبة كثيرا ما منا نستمتع بها ونحن صغار.. كنا نطلب من أحدنا أن يضع رقما في ذهنه، بعد ذلك، نطلب منه أن يزيد عليه أو أن ينقص منه بعض الأعداد بغرض تشتيت انتباهه، ثم نطلب منه بعد ذلك حذف الرقم الذي وضعه في ذهنه أولا، بحيث لا يبقى في ذهنه إلا العدد الذي أعطيناه له، فنفاجئه به.. ولا يكاد يتمالك نفسه من الدهشة.. بهذه الطريقة تماما يمكننا أن نقترح على القارئ ملء تجاويف الكلمات بالمعاني التي نقترحها عليه.. بعد أن ننتقي من النص الشواهد التي تناسبنا..وكم يكون سهلا، صب السياق في الاتجاه الذي نريد، بحيث لا نستدعي نظرة النظم عند الجرجاني إلا لكي تكون شاهدة على عجزها. أستاذ بجامعة الحسن الثاني الدارالبيضاء.