«لا تحيل الخرافة السياسية أبدا إلى الحاضر، بل إنها في معظم الأوقات تتموقع داخل المستقبل، أونادرا داخل ماض بعيد. من ثم لا يمكن أن تكون محط مراقبة من خلال وقائع معروفة وقابلة للتأكد منها. وإذا كان مستحيلا تأكيد صحتها، فإنه من المستحيل بالتأكيد تأكيد أنها غير صحيحة. لهذا فإن الخرافة السياسية تشكل حالة جد ملتبسة». في هذا الاتجاه يسير الموضوع التالي الذي نجد من بين نصوص (الكاتب والسياسة) ولوظائف الخرافة السياسية)(1). الخرافة السياسية والأسطورة السياسية يمكننا توصيف الخرافة السياسية على النحو التالي: «إسقاط أو ارتسام داخل الماضي أو - في الغالب - داخل المستقبل، لسراب منبعث من رغبات جزء من الساكنة والذي نستعمله لحثها على اقتفاء حركة سياسية أيا كانت أو الانخراط في أي برنامج، وذلك بالاغراء أن السراب قابل للتحقيق احتمالاتهم. ليست للخرافات السياسية - مثل الخرافات الدينية - علائق مع الوثائق أكثر مما تكون للرؤى بخصوصها بصفة عامة. وعلى الرغم من أن لهذه الخرافات (Mythes) - تمييزا عن الأساطير légendes، كما سياتي لاحقا - لا تتحقق البتة تقريبا، فإن بإمكانها مع ذلك أن تحث الكائنات البشرية على أن تتصرف بطريقة تتم معها تغيرات اجتماعية حقيقية فجأة بواسطتها، بالمناسبة تحدث الخرافات تغييرا مفيدا، لكنها بصفة عامة تنجح بالأحرى في التشويش على الرؤية الاجتماعية لهؤلاء الذين يستسلمون لها، بفتح الطريق لاكتساح للسلطة معاد للمجتمع، بواسطة سياسة قائمة على الخديعة المقصودة. ولدت الخرافة السياسية مع افلاطون، الذي لم تتسبب مجهودات الا في خسائر لا يعتد بها لأن قليلا جدا من معاصريه كانوا يقاسمونه أفكاره، منذ ذلك الوقت تم استعمالها من طرف جميع الضالعين في السياسة الذين ارادوا استقطاب الجماهير الي مشاريعهم. في تحليلنا للخرافة، يتوجب علينا الجذرفي التمييز جيدا للتدليسات التي تعرضت لها أحداث تاريخية قد يكون ممكنا تسميتها «أساطير Légendes» سياسية، التباينات بين الاثنتين - خرافة، أسطورة - سهلة الإدراك نسبيا.كمثال على الأسطورة السياسية أن «تتحدث صحيفة ما عن ان حزبا معينا هو الوحيد الذي ساند اضرابا نقابيا ودعم النقابة ماديا ومعنويا لتوسيع حركة الاضراب، لكن الحقيقة ليست هي هذه إ ذ هناك أحزاب أخرى ساندت ودعمت الاضراب. هناك إذن تدليس ظاهرة للعيان« لتجسيد الفرق بين الأسطورة السياسية والخرافة اختار هذا النص من كتاب (الرأسمال) - ماركس / انجليز -:»بموازاة مع العدد المتناقص بلا توقف لأقطاب الرأسمال الذين يعتصبون ويحتكرون جميع مزايا وايجابيات مسار التحول اياه، تزايد مقدار البؤس والاستبداد والاستغلال، لكن في نفس الوقت تعاظم انتفاض الطبقة العمالية. أصبح احتكار الرأسمال عائقا أمام نمط الانتاج الذي برز تحت سلطته. لقد انتهى الأمر بمركزة وسائل الانتاج ومشاركة العمل الي بلوغ نقطتين أصبحتا متعارضتين مع الشرنقة الرأسمالية. تشتت هذه الشرنقة، وهو ما يوحي بنهاية الملكية الرأسمالية الخاصة». إذا ما قارنا هذا النص مع النص السابق، نرى بوضوح ظهور الطابع الخاص للخرافة السياسية والاختلافات الأساسية التي تميزها عن الأسطورة السياسية العادية أو عن تزوير التاريخ - في النص الأول نرى كيف أن مجموعة من الوقائع المعروفة اختيرت من طرف بعض مروجي الدعايات، ثم تم تغييرها عن قصد تماما لخلق انطباع مخالف فانعدام الأخلاق في مسلك من هذا القبيل لاشك قائم. فهو غير مبرر إلا إذا سلمنا أن الكذب مقبول في السياسة. من جهتها، مثل الخرافة السياسية حالة أكثر التباسا. بدء بإمكاننا أن ندرك أن ثمة خاصيتين مهمتين للخرافة السياسية. فهي لا تحيل أبدا الي الحاضر بل تتموقع داخل المستقبل في معظم الوقت، أو في حالات نادرة ضمن ماض بعيد. من ثم لا يمكن أن تكون محط مراقبة لوقائع معروفة أو حقيقية. من ثم إذا كان من المستحيل إعطاء الدليل على انها حقيقية، فإنها كذلك بالتأكيد من المستحيل اعطاء الدليل انها غير صحيحة. من هذا الأمر تستفيد من مرتين. إذا ما تحققت، فإن الذي يخلقها سيتمكن من الاستفادة من الامتيازات التي نمنحها لشخص رأى الأمور على الوجه الصحيح بحدسه، بالمقابل، إذا لم تصبح واقعا، فإنه بإمكاننا اسقاطها بعيدا داخل المستقبل، على الرغم من ان ثمة حدودا تفقد الخرافة فيها وراءها طراوتها وتكف عن تلهم مخيال الشعب. في هذه اللحظة يجب استبدالها بخرافة أخرى. يتبع الخرافة تتميع مع الزمن رغبة الشعب هي التي تصنع القوة المعبئة للخرافة، بإمكان أي فرد أن يخلقها للدفع بقضيته الشخصية الى الأمام أو بقضية حزبه، لكن الخرافة لن تعرف النجاح إلا إذا كانت حاملة للرغبات اللاشعورية الى حد ما لهؤلاء الذين نريد قيادتهم. فهذه الرغبة الشعبية تبقي الخرافة قائمة، وكذا الفكرة التي تريد أن تمنح المجموعة المروجة للخرافة الوسيلة لتحقيق تلك الرغبات، يمكننا أن نميز عددا من النقط بخصوص الخرافة كما يلي: - ان الخرافة لا تنصب علي الحاضر وتتموقع داخل المستقبل عامة - واحيانا داخل الماضي - دائما، على أية حال، في فترة خارج التاريخ. - لكونها لا تعتمد علي وقائع قابلة للتحقق منها، فإنه لا يكون بإمكاننا تأكيد أنها حقيقية ولا تقدم الدليل انها ليست كذلك. - إذا لم تتحقق علي الفور، يمكن دائما أن تؤجل الى مستقبل أبعد، يجعل أمل وصبر المخلوقات البشرية من الخرافة الناجحة أصلا ذا أمد طويل. - ان الخرافة متجذرة في الرغبات البشرية. يمكن أن يتم ابتكارها من طرف فرد لوحده، لكنها لن تنجح أبدا ما عدا إذا كانت تتماشى مع تلبية مع رغبة جماعية شديدة. - تتجه الى أن تتميع مع الزمن. فالناس غير مستعدين الي الانتظار الي ما لا نهاية أن تتحقق، كما أن الخرافة التي تفقد الاعتبار يجب أن تعوض بشيء جديد. - كلمازاد ربطها بالظروف، كلما قل احتمال ان تستمر كخرافة سياسية، إذا ارتبطت قريبا جدا بالأحداث، فإن تحقيقها يخشى أن يصبح مستحيلا بفعل مجرى التاريخ. منذ أمد طويل، إن هؤلاء الذين كتبوا عن السياسة اقروا بمزايا الخرافات لممارسة الحكم والقيادة وكذا بالنسبة لاكتساح السلطة والاحتفاظ بها. كان افلاطون قد قرر أن يجعل من خرافة الأوائل عماد مجتمعه المثالي، و كان يوكد بعزم أن من حق القائد صنع خرافة علي الرغم من أنه يعرف زيفها. فقد كتب في ا(الجمهورية): »هكذا يرجع لحماة الأمة ولهم وحدهم تأكيد أمور زائفة لتضليل الأعداء أو مواطني الأمة من أجل خير هذه الأخيرة«. ثم يضيف: »هل بإمكاننا اختلاق شيء على طريقة هذه الأكاذيب الضرورية التي تحدثنا، بحيث انه بواسطة كذبة و جيهة يمكننا اقناع الحاكمين انفسهم أو علي الأقل باقي المواطنين؟«. اخفقت خرافة افلاطون لأنها لم تمكن مسايرة لرغبات معاصريه، كان من الممكن أن يعرف مزيدا من النجاح في السياسة لوا أنه كيف خرافاته الشخصية مع عقلية عصره بدل الاكتفاء بتأويل ثرواته الشخصية بخصوص ماض مثالي. كان ينبغي انتظار عصر النهضة ليظهر شخص آخر اكتشف بل دعا بسلامة نية مهدئة الي اللجوء الي الدين من أجل تعزيز السلطة السياسية. انه نيكولا ماكياڤيلي: »من واجب الأمراء والجمهوريات - الحريصين علي حماية حكوماتهم من التفرقة ومن الرشوة - بعيدا عن كل اعتبار حماية الدين وطقوسه، والتأكد من انهم يجلونه بحمية«. بعد ماكياڤيلي، دافع كثيرون من بين المنظرين الذين بالنسبة إليهم يركز العمل الاجتماعي أساسا علي الوصول الي السلطة، دافعوا علي نحو ما علي استعمال الخرافة - مثلا، هيجل، فيشت، شيلينغ - ماعدا استثناءات قليلة - الفيلسوف شوبينها ورمثلا، الذي لم يترك لنفسه الانسياق مع سحب الابتداع الميتولوجي والذي لم يكن يحث ا لآخرين كذلك علي التيه داخلها. فقد قال: »يعمل هؤلاء الفلاسفة الادعياء لا علي تهذيب وتعليم القارئ، بل على سلب عقله أو سحره«. لم يحاول هيجل وزملاءه توصيف واقع ما قابل للتحقق منه. فهم يقدمون بالأحرى مجموعة من المفاهيم من المستحيل اثباتها انها كانت تشكل خرافات في المعنى الحقيقي للكلمة. عندما ننتقل من هيجل الى ماركس، يجب ان نشير بخصوص الخرافة انها ليست بحاجة الى أن تصنع عن وعي لتضليل أو غش الشعب. من الممكن بالنسبة لمفكر اجتماعي خلق نظرية يؤمن بها بصدق والتي تمتلك في نفس الوقت جميع تلك المزايا لتحقيق الرغبة التي تجعل منها خرافة سياسية موفقة. من جانبي اعتبر أن مارس كان أحد هؤلاء المبدعين للخرافات عن لاوعي نوعا ما، وانه علي الرغم من التمظهرات التي لا معنى لها المتسمة بانعدام الاستقامة، تمظهرات سمح لنفسه به احيانا خلال سجالاته مع منظرين معارضين له، فإنه اعتد بصدق ان تنبؤاته بخصوص نهاية الرأسمالي قد تنتهي بالتحقيق. (يتبع) هامش: (1) كتاب (l>ecrivain et la politique) لمؤلفه جورج وودكوك (1995-1912).