أوحت لي مبادرة إحياء الذكرى الخمسينية لحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية بالمساهمة في النقاش العام والجاد الذي ينبغي أن يواكب هذه الذكرى التي نريدها أن تكون مناسبة خارج تمجيد الذات والاحتفاء بالمنجزات التي بصمت مسار المغرب الحديث على امتداد خمسة عقود من الزمن، بقدر ما نريدها أن تكون مناسبة للتقويم والمراجعة النقدية، بعيدا عن كل انجراف نحو مازوخية جلد الذات، وذلك بهدف التفكير الجماعي في أفق نضالي منفتح لايعني الاتحاديين وحدهم، لأن هذه الذكرى قد تحولت - بما لها وما عليها - الى تراث وطني مشترك، مؤثر في المشهد السياسي المغربي بصفة عامة، كما أنها تمثل للفاعلين الاتحاديين لحظة تأمل للحصيلة، تنظيميا وفكريا، من أجل وضع خارطة طريق. وسأقوم في هذا السياق باستقراء مضمرات الاختيارات الايديولوجية لحزب القوات الشعبية من منظور نسائي يسائل الادبيات الحزبية والممارسات النضالية، بالارتكاز على محطتين مفصليتين من عمر الذكرى الخمسينية، ممثلتين اساسا في التقرير الايديولوجي الصادر عن المؤتمر الاستثنائي، والتصريح الحكومي للوزير الاول الاسبق الاستاذ عبد الرحمن اليوسفي الذي كان يشغل في تلك المرحلة مهمة الكاتب الاول للحزب. لقد شكلت بالنسبة إلي العديد من الاحداث والتواريخ الحاسمة، نقطة جذب وغواية للانتماء الى صف اليسار (احداث مارس 65، اختطاف المهدي بنبركة، هزيمة 67، اغتيال الشهيد عمر بنجلون..). لكن تاريخ انعقاد المؤتمر الاستثنائي يناير 1975، يظل الحدث البارز والمباشر الذي جعلني وقدماي المتعثرتان بقلق السؤال، تطأ العتبة الاولى في مرحلة الشباب، أن اختار الانتساب للأسرة الاتحادية الاشتراكية. لقد كان المؤتمر الاستثنائي استثنائىا بكل المقاييس. أجمع الملاحظون آنذاك على انه يمثل قفزة نوعية في الفكر السياسي والتوضيح الايديولوجي. والسبب الثاني الذي ساهم في اختياري الانضمام الى الحزب، قد يبدو بسيطا، وقد يعتبره البعض ثانويا، لكنه أصبح اليوم من قبيل السهل الممتنع، يتمثل في جو الطهارة النضالية التي كانت تؤلف بين المناضلين في الشبيبة الاتحادية بكلية الآداب ظهر المهراز، حيث ، كان التآزر (الاخوي) دلالة ورمزية ترفع من جذوة الفعل النضالي في إطار علاقات ديمقراطية تحترم مبدأ الاختلاف مع الائتلاف، الشيء الذي كان يمنح للشبيبة الاتحادية حضورا متألقا في الساحة الطلابية. والسبب الثاني قد يكون مربط الانتماء، ويتمثل في التقرير الايديولوجي الذي أكد على ضرورة إشراك المرأة في معركة التحرير والتنمية، يقول التقرير: «وفي هذا المجال (المرأة) فإن مجهودا مكثفا قويا يجب أن يبذل من أجل تحرير المرأة المغربية من جميع أنواع الضغوط القانونية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، والتي تعمل على إبقائها في حالة التبعية التي لايبررها لا الشرع ولا العقل ولا العلم ولا الفكر التقدمي، والتي تحول دونها ودون القيام بدورها كاملا في المعركة المشتركة، معركة التحرير والتنمية» ص: 169. إن هذه الاشارات الدالة تعتبر من بين أهم المواقف التي حققت للحزب السبق الطليعي في تلك المرحلة ، بسبب الوعي المتقدم بضرورة الربط الجدلي بين إقرار حقوق المرأة وضرورة مشاركتها في معركة الديمقراطية والتنمية، فضلا عن إعداد تقرير خاص عن المرأة المغربية عرف «بالتقرير النسوي»، يؤكد على خصوصية قضايا النساء وأولويتها في البناء الديمقراطي. بالرغم من هذه المسافة الزمنية الشاسعة، فإن التقرير الايديولوجي ، خاصة في موقفه من المرأة وقضاياها، لايزال متفردا عن لحظته التاريخية، خاصة اذا استحضرنا التصورات والآراء التي كنا نواجه بها كشابات متطلعات الى تغيير الوضع النسائي العام، داخل الحرم الجامعي، وتحديدا في طرف دعاة أقصى اليسار. فكلما أثرنا الحديث عن خصوصية الوضع النسائي وملابسات حضور التقليد وهيمنة الفحولة السياسية، كان جوابهم يختزل في كون الصراع الطبقي هو الحل الامثل لتحرير المرأة المغربية. في هذه المرحلة بالذات، جاء التقرير الايديولوجي باجتهاداته الفكرية ونباهته السياسية، ليؤكد على أهمية قضايا النساء في مشروع البناء الديمقراطي، وعلى دور النساء في ميزان المعركة الديمقراطية. وتجدر الإشارة في هذا الصدد الى ملاحظة أساسية، تتمثل في الاختلال بين النظرية داخل الحزب والتطبيق الفعلي لمقرراته وتوجهاته، بين مستوى التنظير لقضايا النساء انطلاقا من التقرير الايديولوجي وبين واقع وموقع المرأة الاتحادية منذ سنة 1975 الى غاية انعقاد المؤتمر الوطني السادس (مارس - ابريل 2001) الذي أقر إعمال مبدأ الكوطا من اجل ضمان حضور النساء داخل اجهزة الحزب، وإتاحة الفرصة لهن من أجل المساهمة في صياغة وتنفيذ المقررات وبلورة المواقف الحزبية. لكن، بالرغم مما تحقق من انجازات تنظيمية في السنوات الاخيرة، فإن بعض الرواسب السلبية مازالت حاضرة الى حد الآن، تتجلى في عدم تفوق الحزب مع ذاته لكسب الرهان التاريخ الذي أوصى به المؤتمر الاستثنائي لكي يجعل من قضايا النساء، عنصرا بارزا في خطابه السياسي اليومي ومكونا ثابتا في جدول أعمال أجهزته بمختلف مستوياتها التنظيمية. أعتبر شخصيا أن التصور الحزبي الرائد لقضايا النساء الذي قدمه التقرير الايديولوجي، سيجد صداه الايجابي والفعلي في التصريح الحكومي الذي قدمه الوزير الاول الاسبق لحكومة التناوب التوافقي، الاستاذ عبد الرحمن اليوسفي. فلأول مرة في تاريخ الحكومات المتعاقبة على دواليب الحكومة في المغرب، منذ فجر الاستقلال، جاء التصريح الحكومي ليضع قضايا النساء ضمن أولويات برنامج عمل الحكومة بجميع أبعادها السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، معتبرا إياها أحد تحديات الرهان الديمقراطي، مؤكدا ولأول مرة في تاريخ المغرب السياسي على ضرورة إشراك المرأة في الحياة العامة، والإنصات الى مطالب النساء المشروعة وإقرار حقوقهن العادلة. ويعد ورش إصلاح قضايا النساء أحد الاوراش الكبرى التي انخرط فيها مغرب الالفية الثالثة، الذي تعزز مساره بسبب تضافر الجهود والتجاوب التاريخي للارادة السياسية مع تطلعات القوى الديمقراطية والحركة النسائية والتنظيمات الحقوقية، ليشمل سجل المكتسبات المنجز التشريعي (مدونة الاسرة - قانون الجنسية...) والتمكين السياسي (اللائحة الوطنية 2002 المشاركة في الحكومة، الدوائر الاضافية يونيو 2009 صندوق الدعم).. والتأهيل العلمي ( التمثيلية في المجالس العلمية - المشاركة في الدروس الحسنية الرمضانية).. يضاف الى هذا، التوجيه الملكي بخصوص الحرص على ضمان تمثيلية مناسبة للنساء في المجلس الاعلى للقضاء - حسب الخطاب الملكي بمناسبة ذكرى ثورة الملك والشعب المخصص لمشروع اصلاح القضاء. ان الغاية من استحضار محطة المؤتمر الاستثنائي وانجازاته المبدعة التي أتى بها التقرير الايديولوجي في ما يخص الموقف من النساء وقضاياهن، والتأكيد على مضمون التصريح الحكومي للاستاذ عبد الرحمن اليوسفي الذي جاء موصول الصلة بتوجهات الحزب في الموضوع، ليس من قبيل الاحتماء بما مضى واستعادة لحظات الفردوس الاتحادي الهاربة، بل هي نزوع نحو جعل المشروعية الاتحادية التاريخية، مشروعية متحولة وفاعلة تمتح ملامحها من الحاضر في تفاعل مع الماضي، وتتوجه الى بناء المستقبل بعيون بصيرة. ان صورة الاتحاد المترافصة على سطح صفحات التاريخ، تدعو الحزب الى اتخاذ المبادرة وصوغ أسئلة جديدة وبلورة المواقف السياسية الواعدة التي تعيد للاتحاد ألقه وبهجته. إن الواقع النسائي أصبح يعرف تحولات سريعة تبعا لما يعرفه المجتمع المغربي من تبدلات، ورغم اهمية ما تحقق للمرأة المغربية من مكتسبات على امتداد العشرية الاخيرة، فإن حجم التحديات الذي تعاني منه فئة النساء يسائلنا كاتحاد اشتراكي وباقي مكونات المجتمع المغربي. فظاهرة الفقر والامية مرتفعة اكثر في صفوف النساء، وآفة الانحراف نحو احتراف الدعارة، وتعاطي المخدرات وتكاثر عدد الاطفال المتخلى عنهم.. الخ كلها من القضايا التي تتجاوز الحقل النسائي وتتقاطع مع قضايا المجتمع في ابعادها الاجتماعية والاقتصادية والثقافية. وإذا كنا نعتبر أن هذا الواقع يتجاوزنا، فإن هذا لا يعفي الحزب، باعتباره تنظيما سياسيا يراهن على بناء مشروع مجتمعي، من أن يكون في مستوى اللحظة النيرة التي انبثقت من داخل المؤتمر الاستثنائي، والرجة التي أحدثها التصريح الحكومي التاريخي، بتبنيه لمفهوم مقاربة النوع الاجتماعي، لكي يعبد الطريق من جديد لمسارات مغايرة.