طور البناء انتقلت المرحلة من طورها الأول إلى طورها الثاني وطور العمل الجدي لبناء الاستقلال .. فأخذت تتعارض الوسائل والطرق وحتى الأهداف بين الائتلاف المصطنع. لأننا في الوقت الذي كنا نتجه كلية نحو البناء والتشييد ووضع الأسس المتينة لذلك كان غيرنا يسير إلى بناء نفسه وإقامة هيكل مبكر لشخصيته . وشتان بين من يريد بناء الاستقلال ومن يتخذ هذا الاستقلال وسيلة لبناء نفسه . فالوقت وقت رفع القناع عن أولئك الذين غلطوا في أنفسهم واعتبروا الضرورة المؤقتة التي سمحت بوجودهم ستظل ضرورة دائمة تحتم بقاءهم في المراكز التي تكبرهم والتي لن تكون قط صالحة لهم. لقد ساهم الحزب في الحكومة راعيا لهذه الحيثيات فدخلها بعزائم رجاله التي يعرفها الجميع عنهم واتجهوا نحو تقويض الماضي لإقامة المستقبل الزاهر على أنقاضه. فاخطئوا وأصابوا كجميع البشر وكانوا دائما يهتدون بهدى صاحب الجلالة ويستنيرون بآرائه وتوجهاته. إلا أنهم كانوا يشعرون دائما بنقص كبير في لم الشعب وتوحيد الرأي. لقد كانوا يحسون أن الوزارة ينقصها الديناميو المحرك. ينقصها الرئيس الذي يقوم بمهمة التنسيق بين مسؤوليات الوزارة المختلفة وتقريب وجهات نظرها وتوجهها جميعا في صعيد واحد يكون هو المقاس الحقيقي لسياسة الحكومة الموحدة . وكان هذا الشعور بالنقص يؤدي حتما إلى نتيجة واحدة هي إضافة هذه المشاغل إلى مشاغل صاحب الجلالة التي تكثر عن الحصر ويحملون جلالته بذلك أعباء جديدة ، ما كان أغنى جلالته عن تحملها، لو كان على رأس حكومته من يستطيع القيام بها والوفاء بتعهداتها والسير بها في الطريق القويم الذي يجب أن تسير عليه سياسة دولة جديدة كدولة المغرب الفتية. انتظار الفرصة ذلك هو اللغز والسر الذي عشنا فيه وتكبدنا مرارته وتحملنا على الدوام خطورة الهفوات الناتجة عنه ، فكلنا ننتظر الفرصة السانحة للخروج من هذا الجو الذي لم يكن في الإمكان إصلاحه في مثل وزارة كهذه، يحارب بعض وزرائها أنفسهم ويحاولون تشكيك الشعب في قيمه ومثله العليا وقدرته على مواجهة مسؤوليات الحياة ومسؤوليات الاستقلال وتشكيكه في حقوقه ويسعون إلى تشتيت شمله وتفريق كلمته وكل ذلك يعرفه الخاص والعام. وجاءت الفرصة عندما وقعت محاولة تكوين ما يسمى بكتلة الدفاع عن الحريات الديمقراطية ، فخطا الحزب هذه الخطوة وسحب وزرائه من هذه الحكومة المنحلة. معركة الدفاع عن النفس وأنا لا أريد أن أتحدث عن هذه الطائفة لأنه من الجائز أن يكون بينها من عمل عملا صالحا للبلاد إلا انه سيكون ألان مدفوعا من طرف آخرين ولا يعرف أين يسير وإنما المهم هو تسلسل الحوادث التي أدت إلى خروج هذه الفئة إلى الوجود. فمما لا شك فيه انه بقدر ما كانت تقترب الفترة الانتقالية من نهايتها وتدنو ساعة الحق وإحقاقه واضطرار الحكومة أن تسير في طريق الجد والبناء، تلك الحاجة التي كانت تبرز في الصف الأول رجال حزب الاستقلال الذين تتكون منهم القوة البناءة في الشعب المجسمة في حركة المقاومة والاتحاد المغربي للشغل والهيئات والمنظمات والجمعيات التابعة للحزب ، كلما اقتربت هذه الفترة من نهايتها كان أولئك الذين يخشون تلك الساعة التي يخلون فيها الأماكن للذين يخدمون مصلحة الشعب ويسهرون عليها، كانوا يخلقون جوا من الدفاع عن النفس ويعملون على خلق قوة توازي القوة التي يتوفر عليها أولئك الذين يمثلون قوة الشعب الحقيقية . فعشنا في هذه الفترة في معركة سميتها معركة الدفاع عن النفس ، وهي خلق قوة متوازية تجابه القوى الشعبية . وهذا هو السر الذي جعل بعض الفئات يسمون أنفسهم أحزابا، وظهرت ما يسمى بالحركة الشعبية. وكل هذه الحركات لا تقصد سوى تطويل الفترة الانتقالية حتى تبحث لنفسها عمن يناصرها ويؤيدها . فكان من الطبيعي أن تجد أولئك الذين كان يطالب الشعب بالاقتصاص منهم على خيانتهم وأولئك الذين نبذهم لأنه عرف فيهم متعاونين متواطئين على مقدرات البلاد.وعندما بحثنا في صفوف الحركة الشعبية مثلا وجدناها ملجأ لكل مرشح للمتابعة من طرف الشعب في عملية التطهير المنتظرة. حق تأسيس الأحزاب والجمعيات ولذلك قررت الحكومة بالإجماع حل هذه الهيئة:هيئة الحركة الشعبية. وحلها ليس اعتداءا من طرف الحكومة أو الحزب وإنما هو دفاع عن حقوق الشعب من الذين يتآمرون ضده مثل عدى وبيهي وأنصاره وآنذاك بدأت معركة من نوع آخر . معركة الحرية عندما اتخذت قرار بمنع تأسيس هذه الحركات من طرف الحكومة بالإجماع وكنا نعلم أن رئيس الحكومة يتصل بهذه الحركات. حرية الصحافة والاجتماع لقد كانت الحكومة تضم طائفتين بقدر ما كانت إحداهما تتوجه نحو البناء كانت الأخرى تتجه نحو الهدم والتقويض. وفي الوقت الذي اشتغلت طائفة في تخطيط أو تنفيذ المشاريع الكبرى للنهوض بالبلاد كانت الطائفة الأخرى تشتغل بتكوين الهيئات والأحزاب المصطنعة ، فكان من الواجب حماية الشعب من تفشي الآراء الهدامة التي تتولد عن التيارات الطائشة الصادرة عن هذه الهيئات وحمايته كذلك من دعاة الفتنة ، وهذا هو السر في القرارات التي اتخذتها الحكومة بالنسبة للصحافة والاجتماعات. فقيل إذ ذاك بان الحكومة تريد خنق الحريات والحقيقة تعرفونها جميعا. فالمغرب يجتاز مرحلة دقيقة من حياته حيث تتراكم أمامه سلسلة من المشاكل التي تتطلب الحل العاجل ، الجيوش الأجنبية لا تزال مرابطة في ارض الوطن ، وكثير من أجزاء البلاد لا تزال تئن تحت وطأة الأجنبي والإدارة لا تزال لم تستكمل بعد قوتها والاقتصاد المغربي لازال في أطوار النقاهة يتعثر في مشيته البطيئة إلى غير ذلك من المشاكل... ، لذلك طلبت الحكومة من مسيري الصحف والهيآت السياسية أن تكون رقيبة على نفسها وتحاسب نفسها فيما تريد أن تكتبه أو تقدم عليه نظرا للحوادث الحالية والمواقف الدقيقة التي يجتازها المغرب ، هذه الحوادث التي يتبناها الشعب بكامله كما تبناها جلالة الملك . كل هذا يلتزم بالخضوع لمقتضيات المصلحة الوطنية فطلبنا من الجميع أن يلتزم بالخضوع لمقتضيات المصلحة الوطنية، وإذا استطعنا أن نتفهم المعنى الحقيقي للحرية أمكننا أن نكتب عن جميع الحوادث من غير أن نهيج الرأي العام. فالمعركة معركة دقيقة ينتظر الشعب من ورائها أداة لتحقيق الأهداف الوطنية، وهذه المعركة هي التي سميتها أزمة المغرب، أما الذين يريدون أن يسموها معركة الحرية فهذا تضليل. النظام الديمقراطي والاستعمار الذي لا يريد أن ينهض المغرب ويتبوأ المكان اللائق به سعى إلى وسيلة يشغل بها الموطن وذلك بخلق نوع من التهافت على أشكال الانتخابات والتشدق بالديمقراطية ،وحزب الاستقلال كان أول من عذب في سبيل الحرية وفقد أعز أبنائه وأصدقائه في معركتها ولذلك فهو لا يريد أن يأتي أولئك الذين كانوا يتفرجون على المعركة ليتبجحوا اليوم بالحديث عن الحرية . إنن نريد إقرار نظام ديمقراطي في المغرب ولا ننتظر أن يأتي إذناب الاستعمار لمطالبتنا بذلك،ولقد أعلنا عن هذه الرغبات في برامجنا العامة خلال مؤتمراتنا الوطنية . وعلى ضوء هذه الحوادث كان لزاما علينا أن نكتب برامجنا من جديد.ولذلك فنحن نطالب أن تعقب الانتخابات البلدية انتخابات نيابية ولا نريد أن يلهينا الاستعمار عن أهدافنا أو جزء منها، هذه الأهداف التي تقتضي منا تأييد الجزائر وتجنيد الشعب وجمع قواه، وهذا ما يخشاه الاستعمار. وأؤكد لكم أن المناورات الموجودة في المغرب والحركة التي قامت حولها من اجل الحريات المزعومة أنها هي من دسائس الاستعمار، وان الذين كتبوا الملتمس المقدم إلى جلالة الملك لم يكونوا ينتظرون استقالة الحزب بل كانوا يعتقدون أن الحكومة ستظل قائمة تسير كما كانت من قبل ويستمرون تحت ظلها في مناوراتهم . فجاءت الاستقالة مخيبة لظنونهم ومحطمة لكل ما بنوه من صروح الأوهام والأباطيل ، فأقبلت الصحف الاستعمارية من جميع أنحاء العالم تصور حزب الاستقلال كالشبح المخيف الذي ينتظر أن يتولى الحكم والذي يجب الحذر منه. ويكفي أن استشهد لكم بقول صحيفة(( يا )) الاسبانية التي يذهب بها التحيز لصالح المناوئين لحزب الاستقلال للإنذار بان : (( حكومة من حزب الاستقلال قد تؤدي إلى خطر حرب مدنية بالمغرب )) كأن الاستعمار الاسباني يقول لأذنابه إنني مستعد لإمدادكم لتفعلوا ما حاوله عدى وبيهي من قبل . لقد دنت ساعة إحقاق الحق ونحن لسنا طلاب مناصب ولا جاه.وكما عرفنا الشعب جنودا مخلصين نقتحم ميادين النضال في إباء وشمم مضحين بحياتنا ودمائنا وأموالنا، فانه يعرفنا الآن الرعاة الأمناء بهذه الانتصارات المحققة بكفاحنا المرير ، فإذا تحققت لنا الوسائل فإننا سنقوم بمسؤولياتنا ، وإذا لم تتوفر فسنقوم بواجبنا خارج الحكومة ونكون في كلتا الحالتين في خدمة المصلحة العليا للوطن. والواجب يقضي أن نكون صرحاء مع أنفسنا وان نقول بان فترة الانتقال قد انتهت ولنا من تاريخ الكفاح المشترك من حول جلالة الملك ما يجعل جلالته يعلم صدقنا وإخلاصنا لأنه لم يتعود منا غير ذلك. كيف سيكون حل الأزمة يجب إن ننظر إلى هذه الحالة بعين صريحة. فالمسالة تتعلق بالجواب عن سؤالين : ما هي المهام التي تنتظر البلاد؟ ومن هم الرجال الذين سيقومون بهذه المهام؟ علينا إن نقوم بمسؤولياتنا ونقول للشعب هذه المهام التي تنتظرنا وعلينا ان نرى من هم الرجال الذين سيقومون بهذه المهام فالمسالة ليست مسالة تنافس على المناصب وإنما هو تحمل المسؤوليات وما عدى ذلك فما هو إلا إلهيات يلهون بها الشعب . انه سؤال ملقى علينا كمسئولين في الحزب للبحث عن الرجال الصالحين للمكان الصالح. وإذا عرفتم أن هذه هي الخطة التي نتبعها في حل الأزمة علمتم إننا نسير في الطريق المستقيم والمصير الذي يحقق للبلاد العزة والكرامة والرفاهية والرخاء، ولنا الضمانة الكافية في حكمة صاحب الجلالة لإيجاد الحل الذي يقتضيه الموقف، وجلالته يعرف هذه المهام كما يعرف المغرب ككف يده الكريمة ، وهو وحده يستطيع أن يميز بين من يصلح للقيام بهذه المهام وبين من لا يصلح .ونحن نضع ثقتنا فيه بدون أي تملق لأنه يعلم أننا لا نتبجح بمحبة العرش بعد الاستقلال وإنما دافعنا عنه بدمائنا في الوقت الذي يئس الآخرون من رجوع صاحبه المفدى إليه فالعرش شيء مقدس وشيء سام لدينا . فيجب أن ندرك من الآن أن البلاد مقبلة على مرحلة دقيقة، هي مرحلة الوضوح، فالمسالة مسالة صراحة واستعداد لتحمل مسؤولياتنا . فعلى الحزب أن يعلم أننا مقبلون على مرحلة دقيقة وأننا نعد الأمة لبناء الاستقلال لأننا بناءون سواء كنا داخل الحكم أو خارجه . نشر على صفحات الملحق السياسي لجريدة الإتحاد الاشتراكي يوم الأربعاء 4فبراير2009 عدد9090 انتهى