هيئة المعلومات المالية تحقق في شبهات تبييض أموال بعقارات شمال المغرب    المغرب يخطط لإطلاق منتجات غذائية مبتكرة تحتوي على مستخلصات القنب الهندي: الشوكولاتة والدقيق والقهوة قريبًا في الأسواق    تشييع جثمان الفنان محمد الخلفي بمقبرة الشهداء بالدار البيضاء    فريق الجيش يفوز على حسنية أكادير    شرطة بني مكادة توقف مروج مخدرات بحوزته 308 أقراص مهلوسة وكوكايين    حفيظ عبد الصادق: لاعبو الرجاء غاضبين بسبب سوء النتائج – فيديو-    دياز يساهم في تخطي الريال لإشبيلية    المغرب يحقق قفزة نوعية في تصنيف جودة الطرق.. ويرتقي للمرتبة 16 عالميًا    مقتل تسعة أشخاص في حادث تحطّم طائرة جنوب البرازيل    المغرب يوجه رسالة حاسمة لأطرف ليبية موالية للعالم الآخر.. موقفنا صارم ضد المشاريع الإقليمية المشبوهة    فرنسا تسحب التمور الجزائرية من أسواقها بسبب احتوائها على مواد كيميائية مسرطنة    وزارة الثقافة والتواصل والشباب تكشف عن حصيلة المعرض الدولي لكتاب الطفل    فاس.. تتويج الفيلم القصير "الأيام الرمادية" بالجائزة الكبرى لمهرجان أيام فاس للتواصل السينمائي    التقدم والاشتراكية يطالب الحكومة بالكشف عن مَبالغُ الدعم المباشر لتفادي انتظاراتٍ تنتهي بخيْباتِ الأمل    مسلمون ومسيحيون ويهود يلتئمون بالدر البيضاء للاحتفاء بقيم السلام والتعايش المشترك    الرجاء يطوي صفحة سابينتو والعامري يقفز من سفينة المغرب التطواني    العداء سفيان ‬البقالي ينافس في إسبانيا    جلالة الملك يستقبل الرئيس الموريتاني محمد ولد الشيخ الغزواني    بلينكن يشيد أمام مجلس الأمن بالشراكة مع المغرب في مجال الذكاء الاصطناعي    وقفة أمام البرلمان تحذر من تغلغل الصهاينة في المنظومة الصحية وتطالب بإسقاط التطبيع    الولايات المتحدة تعزز شراكتها العسكرية مع المغرب في صفقة بقيمة 170 مليون دولار!    الجزائر تسعى إلى عرقلة المصالحة الليبية بعد نجاح مشاورات بوزنيقة    انخفاض طفيف في أسعار الغازوال واستقرار البنزين بالمغرب    رسالة تهنئة من الملك محمد السادس إلى رئيس المجلس الرئاسي الليبي بمناسبة يوم الاستقلال: تأكيد على عمق العلاقات الأخوية بين المغرب وليبيا    مباراة نهضة الزمامرة والوداد بدون حضور جماهيري    رحيل الفنان محمد الخلفي بعد حياة فنية حافلة بالعطاء والغبن    لقاء مع القاص محمد اكويندي بكلية الآداب بن مسيك    لقاء بطنجة يستضيف الكاتب والناقد المسرحي رضوان احدادو    بسبب فيروسات خطيرة.. السلطات الروسية تمنع دخول شحنة طماطم مغربية    غزة تباد: استشهاد 45259 فلسطينيا في حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة منذ 7 أكتوبر 2023    مقاييس الأمطار المسجلة بالمغرب خلال ال24 ساعة الماضية    ندوة علمية بالرباط تناقش حلولا مبتكرة للتكيف مع التغيرات المناخية بمشاركة خبراء دوليين    الرباط.. مؤتمر الأممية الاشتراكية يناقش موضوع التغيرات المناخية وخطورتها على البشرية    البنك الدولي يولي اهتماما بالغا للقطاع الفلاحي بالمغرب    ألمانيا: دوافع منفذ عملية الدهس بمدينة ماجدبورغ لازالت ضبابية.    بنعبد الله: نرفض أي مساومة أو تهاون في الدفاع عن وحدة المغرب الترابية    تفاصيل المؤتمر الوطني السادس للعصبة المغربية للتربية الأساسية ومحاربة الأمية    أكادير: لقاء تحسيسي حول ترشيد استهلاك المياه لفائدة التلاميذ    استمرار الاجواء الباردة بمنطقة الريف    خبير أمريكي يحذر من خطورة سماع دقات القلب أثناء وضع الأذن على الوسادة    حملة توقف 40 شخصا بجهة الشرق    "اليونيسكو" تستفسر عن تأخر مشروع "جاهزية التسونامي" في الجديدة    ندوة تسائل تطورات واتجاهات الرواية والنقد الأدبي المعاصر    استيراد اللحوم الحمراء سبب زيارة وفد الاتحاد العام للمقاولات والمهن لإسبانيا    ارتفاع حصيلة ضحايا الحرب في قطاع غزة إلى 45259 قتيلا    القافلة الوطنية رياضة بدون منشطات تحط الرحال بسيدي قاسم    سمية زيوزيو جميلة عارضات الأزياء تشارك ببلجيكا في تنظيم أكبر الحفلات وفي حفل كعارضة أزياء    لأول مرة بالناظور والجهة.. مركز الدكتور وعليت يحدث ثورة علاجية في أورام الغدة الدرقية وأمراض الغدد    وفاة الممثل محمد الخلفي عن 87 عاما    دواء مضاد للوزن الزائد يعالج انقطاع التنفس أثناء النوم    المديرية العامة للضرائب تنشر مذكرة تلخيصية بشأن التدابير الجبائية لقانون المالية 2025    أخطاء كنجهلوها..سلامة الأطفال والرضع أثناء نومهم في مقاعد السيارات (فيديو)    "بوحمرون" يخطف طفلة جديدة بشفشاون    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب.. "رواية جديدة لأحمد التوفيق: المغرب بلد علماني"    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قتلة بدون بنادق : اعترافات قناص اقتصادي


4 - بِعتُ روحي للشيطان
لاوة على تعلم المزيد عن وظيفيتي ودوري. أمضيت كثيرا من الوقت في قراءة العديد من الكتب عن أندونيسيا. قالت لي «كلودين» في مرة من المرات؛ كلما اطلعت اكثر على البلد الذي ستذهب اليه كلما كانت مهمتك أسهل وقد أخذت ذلك عن ظهر قلب.
في عام 1971 ارتفع إصرار الولايات المتحدة على إغراء اندونيسيا بغية إبعادها عن المعسكر الشيوعي لأن مصير الحرب في فيتنام لم يكن موثوقا. فلقد بدأ نيكسون سلسلة من سَحْب القوات منذ صيف 1969 ،وأصبح هدف الاستراتيجيا الامريكية هو الحُؤول دون سقوط المزيد من الدول داخل دائرة نفوذ الشيوعية. وهكذا ركزت الادارة الامريكية على بلدين. كانت اندونيسيا أولاهما، فهي المفتاح وكان مشروع «ماين» لكهربة مناطق البلاد واحدا من المشاريع الهادفة الى احتواء جنوب شرق آسيا.
كان هدف واشنطن هو ان يقوم سوهارتو بخدمة الولايات المتحدة كما يخدمها الشاه في ايران. كما كانت تأمل أن تتحول اندونيسيا إلى نموذج للمنطقة برمتها بل ونموذج ايضا للعالم الاسلامي وخاصة منطقة الشرق الاوسط الملتهبة.
على صعيد حياتي الشخصية. عرفت علاقتي ب «آن» بعض الفتور. لابد انها شعرت باني اعيش حياتين ولاشك ان علاقتي السرية بكلودين قد اثرت على ذلك. ولم اكن استطيع أن أتحدث لها عن هذه العلاقة. لكننا انتهينا إلى قرار بالانفصال والعيش في شقتين مختلفتين.
في احد ايام 1971 قبل زهاء أسبوع على موعد رحيلي الى اندونيسيا وصلت الى شقة كلودين فوجدت فوق مائدة الغذاء تشكيلة منوعة من الاجبان و المزّات مع قنينة خمر معتقة من نوع بوردو.
تبادلنا الانخاب؛ ابتسمت وقالت لي: « ها أنت الآن واحد منا» تحدثنا حوالي ساعة عن كل شيء اثناء شربنا ،وحين أنهينا القنينة رمقتني بنظرة لم أر مثلها من قبل وقالت «لا تتحدث أبدا عن لقاءاتنا. لن أغفر لك أبدا إن فعلت وسأنكر وجود هذه العلاقة أصلا» .شعرت ربما للمرة الاولى بانها تهددني حين قالت بضحكة باردة : «الحديث عن علاقتنا قد يمثل خطرا حقيقيا على حياتك»
أحسست بالاسى وبالاضطراب وانا عائد وحيدا الى المركز. اعترفت بذكائها وبحذرها ففي جميع لقاءاتنا لم نتقابل إلا في شقتها، لا اثر لهذه العلاقة ولم يتدخل اي واحد من «ماين» في ترتيب العلاقة باي شكل من الاشكال. وشعرت بجزء مني يحترم نزاهتها.
**********
كانت لدي نظرة رومانسية عن اندونيسيا؛ البلد الذي سأعيش فيه خلال الثلاثة اشهر المقبلة. كانت قراءاتي تساهم في هذه النظرة الرومانسية.
لقد عايشت الفقر من قبل ؛ بعض زملائي في مدرسة «نيوهامبشاير» كانوا يعيشون في اكواخ باردة وكانوا يصلون الى المدرسة مرتدين ملابس رثة واحذية مهترئة تحت زخات المطر وفوق المستنقعات ،و عشت صحبة الفلاحين الانديين (في الاكوادور) الذين كانت وجبتهم الوحيدة تتكون من أكواز الذرة المشوية ومن البطاطس، والذين كان العديد من اطفالهم يموتون قبل ان يحتفلوا بعيد ميلادهم الاول. لقد رأيت انواعا من الفقر لكن لاشيء كان يهيئني لجاكارتا.
استقر فريقنا بالطبع في أحد أرقى فنادق العاصمة «فندق أنتر كونتينتال اندونيسيا» المملوك لشركة «بان امريكان» للطيران. في المساء الاول لوصولنا دعانا مدير المشروع «شارلي إلنغوورث» إلي حفل عشاء بالمطعم الارضي الفاخر بالفندق.
كان «شارلي» على اطلاع كبير على الحروب؛ خصص كل وقت فراغه لقراءة الروايات التاريخية للحروب وللقادة العسكريين الكبار. و من ولعه الشديد هذا كان يرتدي تلك الليلة كسوة كاكية شبيهة ببزات العسكر.
بعد العشاء اشعل «شارلي» سيجارا ورفع كأس شمبانيا في نخب الحاضرين متمنيا الحياة السعيدة للجميع. ثم أخذ الكلمة قائلا اننا نستمتع جيدا هنا فالاندونيسيون سيهتمون بنا و كذا موظفو السفارة الامريكية ،لكن لا ينبغي أن ننسى المهمة التي جئنا من اجلها. القى نظرة على بضعة اوراق امامه ثم واصل: « نعم نحن هنا من أجل اعداد تصميم مديري لكهربة جاوا (الجزيرة الاكثر كثافة سكانية في العالم )بيد ان هذا ليس الا الجزء الظاهر من جبل الجليد.»
ثم تحولت سحنته الى الجدية :«نحن هنا من أجل إنقاذ البلد من أغلال الشيوعية. كما تعرفون فان لاندونيسيا تاريخ طويل ومأساوي وهاهي اليوم وهي تستعد للانطلاق داخل القرن العشرين. تتعرض للاختبار من جديد. ودورنا هو ان نحول دون أن تسير اندونيسيا على خطى جيرانها الشماليين فيتنام، كمبوديا، واللاوس. والمفتاح هو نظام كهربائي متكامل للبلاد. فهذا العنصر وحده - باستثناء امكانية وجود النفط- من شأنه ضمان حكم رأسمالي وديقراطي.»
ثم واصل عرضه : «بخصوص النفط تعلمون جميعا كم هو اقتصاد بلادنا متوقف على النفط. وفي هذا الاطار يمكن لاندونيسيا ان تكون حليفا قويا لنا. لهذا وأنتم تضعون هذا التصميم المديري. ضعوا كل إمكاناتكم كي تتمكن الصناعة النفطية وجميع المنشآت المرتبطة بها - موانئ ،أنابيب نفط ،شركات بناء ، من الاستفادة من الكهرباء طيلة الخمسة وعشرين سنة القادمة التي هي عمر التصميم.»
رفع عينيه عن أوراق مذكرته ونظر اليَّ مباشرة قائلا: «من الافضل رفع التوقعات إلى أعلى مستوياتها إن كنت لا تريد أن ترى الاطفال الاندونيسسين يعيشون تحت مطرقة ومنجل الراية الحمراء للصين.»
في تلك الليلة وأنا أتقلب فوق فراشي الناعم. كان من المستحيل ان انكر أن شارلي وجميع افراد فريقنا جاؤوا هنا لاسباب أنانية. كنا نخدم الامبراطورية الامريكية لا الأغلبية الساحقة من الاندونيسيين.»
هذه الافكار و مثلها واصلت إزعاج نومي كل ليلة قضيتها داخل فندق «انتركونتينتال. اندونيسيا» . وفي النهاية كان خط دفاعي الاول أنانِيٌّ تماما. لقد أقنعت نفسي بأني خُضت طريقي وسط مدرسة «نيوهامبشاير» و من خلال عملٍ مُضْنٍ ومصادفات قَدَريَّة، وصلت الى هذه الدرجة من الحياة المريحة. كما أنني كنت اقوم بعمل جيد من وجهة نظر ثقافتي.
ومع ذلك وفي منتصف الليالي كنت أواسي نفسي بوعدها أني سأكشف الحقيقة في يوم من الايام. ثم انام علي روايات المقاتلين في الغرب القديم بأمريكا.
****************
امضى فريقنا المكون من أحد عشر شخصا ستة أيام في جاكارتا ، بمقر السفارة الامريكية في لقاءات مع بعض المسؤولين أو في تنظيم أنفسنا او في الاستراحة بالقرب من مسابح السفارة. وبعد ذلك نقلنا «شارلي» الي مدينة باندونغ الجبلية. حيث مُنِحنا إقامة حكومية بكامل خدماتها إضافة الى سيارة تويوتا لكل واحد منا مع سائق ومترجم.
بالنسبة لي كانت أيامي الاولي في باندونغ تتخلها لقاءات مع «شارلي» ومع «هاورد باكر» وهو في السبعينات من العمر، مكلف بإعداد دراسة حول مجموع الطاقة الكهربائية التي تحتاجها «جاوا» خلال ربع قرن القادم. كثيرا ما وصفه لي شارلي بانه عجوز مخرف لاينبغي الوثوق فيه.
حدد لي «شارلي» مهمتي وآجالها المحددة قائلا ان استشرافاتي الاقتصادية هي التي سيبني عليها المهندسون تصاميمهم.
وفي يوم من الايام جرَّني الشيخ «هاورد» وبعد ان سدد الجهاز الذي يضعه في أذنه ويساعده على السمع قال لي: «إيه أيها الشاب. تعال.... هذا يظل بيني وبينك. لقد أمضيت زمنا طويلا في هذا العمل وأعلم علم اليقين أن أي مشروع كهربائي لا يمكن ان ينمو باكثر من 6 او 7 بالمئة كل عام. دع عنك ما يقوله تشارلي».
لكني عارضته مقارعا الحجة بالحجة - رغم تصديقي لكلامه في قرارة نفسي- وبعد أن أعياه كلامي و يئس من إقناعي ابتسم وانزل جهاز الانصات من اذنيه قائلا :« لقد بعتم أرواحكم للشيطان جميعكم. إنكم هنا من أجل المال. اما أنا فسأعود الي عملي».
صدمني كلامه عميقا. وكان من الصعب علي ان أرد دموعي و كلماته تتردد في اذني :«إنكم هنا من أجل المال».
ليلتها لم أنم .استعرضت صور الاشخاص المؤثرين في حياتي - هوارد، شارلي، كلودين ،آن ،اينار، العم فرانك - وتساءلت عما كانت ستكون عليه حياتي لولا لقاءهم. لن أكون في أندونيسيا بكل تأكيد. ثم فكرت في القرار الذي سأتخذه في استشرافاتي؛ «شارلي» يتوقع مني معدلات زيادة سنوية لا تقل عن 17بالمئةو« هوارد» لا يتوقع اكثر من 6 بالمائة. ماذا سأختار؟
وفجأة لمعت في ذهني الفكرة التي حررت روحي. إن القرار ليس قراري. سأُسعِد رؤسائي بالاستجابة لانتظاراتهم وعلى «هوارد» أن يقوم بواجبه؛ فعملي لن يكون له تأثير على التصميم المديري ،ثم انزاح مصدر كبير للإزعاج من دماغي فسقطت في نوم عميق.
بعد بضعة أيام. أصيب «هوارد» بمرض أميبي تم نقله على إثره إلى المستشفى الكاثوليكي حيث نصحه الاطباء بالانتقال فورا للولايات المتحدة لاستكمال العلاج.
قبل مغاردته قال لي :«لا حاجة لطبخ الارقام....لن أكون جزءا من المهزلة ، رغم ما ترددون من معجزات النمو الاقتصادي»
****************
كانت عقودنا مع الحكومة الاندونيسية ومع بنك التنمية الآسيوي ومع وكالة التنمية الامريكية «يو. ايس ايد» تتطلب منا زيارة ميدانية للمناطق التي سيشملها التصميم المديري.
وبطلب من «شارلي» قمت بزيارة عدد من المناطق الرائعة واقمت في اقامات فاخرة والتقيت مسؤولين اقتصاديين وسياحيين مهمين وأنصتتُ لآرائهم حول الاستشرافات الاقتصادية.
اثناء إقامتي في باندونغ تعرفت على ابن إحدى السكرتيرات الاندونيسيات العاملات في خدمتنا؛ كان «راسي» شابا يصغرني ببضع سنين ، طالبا في كلية الاقتصاد و كان يملك دراجة سكوتر أترافق وإياه عليها ليصحبني إلى أماكن في المدينة لم أكن أعرفها .وبفضله تعلمت جزءا غير يسير من اللهجة المحلية السائدة (كانت هناك حوالي 350 لهجة عمل سوكارنو على توحيدها في لغة او لهجة مفهومة من الجميع).
أخذني مرة الى «دالانغ» حيث مسرح العرائس الشهير. كان المئات يتحلقون واقفين أو جالسين على كراسٍ صغيرة منقولة.
اختفى «راسي» وسط الجمهور وعاد بعد قليل مرفوقا بعدد من الشباب في مثل سنه ،أهداني بعضهم شايا ساخنا وكعكات صغيرة.
وبعد فترة وجيزة، بدأت الموسيقى تصدح بينما يهمس «راسي» في اذني :«ان دالانغ هو من يعزف كل هذه التنويعات من الموسيقى لوحده وهو نفسه من يحرك الدمى ويتكلم بأصواتها. سأقوم بالترجمة لك».
كان أمرا عجيبا ،حيث يمزج دالانغ الأساطير القديمة بالوقائع العصرية والحديثة.
بعد عدة فصول كلاسيكية، كشف دالانغ دمية بصورة ريتشارد نيكسون (الرئيس الامريكي آنذاك) . كان نيكسون يرتدي زي العم سام المعروف وكان مصحوبا بدمية تحمل في يدها حفنة دولارات وفي اليد الاخرى علم أمريكا تلوح به أمام وجه نيكسون كما يفعل الأقنان أمام أسيادهم.
وخلف الدميتين ظهرت خريطة للشرقين الأوسط والأقصى. وكل بلد من بلدان المنطقة معلق بشوكة مكتوب عليها إسمه. أخذ نيكسون فيتنام ، وقربها من فمه ليقضمها ثم قال ما معناه «كفانا من هذا النوع» ثم انتقل الى بلدان اخرى ليقضمها واحدة بعد الأخرى و يرميها في سلته . والغريب انه لم يتناول البلدان القريبة من فيتنام- طبقا لسياسة الدومينو - بل إن اختياره كان داخل الشرق الاوسط. فلسطين ، الكويت، العربية السعودية، العراق ، سوريا وايران. وبعد ذلك التفت إلى باكستان ثم أفغانستان. وفي كل مرة كان يرمي البلد المعني في سلته دلالة على أنه التهمها كان يقول جُملا معادية للإسلام والمسلمين مثل:« المسلمون الكلاب» أو «غيلان محمد» او «الشياطين المسلمة».
تصاعدت حدة التوتر والغضب لدى الجمهور مع كل بلد يتم رميه في سلة نيكسون وبدا لي- مع فورة هذا الغضب - أني قد أتحول إلى هدف خاصة وأن قامتي الطويلة مقارنة معهم تفضحني.
قال نيكسون شيئا ما ترجمه لي «راسي» كالتالي: «أعط هذا للبنك العالمي ولْنَرَ ماذا سيجلب لنا من مال من أندونيسيا» وفي اللحظة التي كان نيكسون سيرمي أندونيسيا في السلة المعلومة ، دخل خشبة المسرح دمية رجل آخر قال لي «راسي» أنه سياسي شعبي من باندونغ.
وقف السياسي الاندونيسي - وكان اسمه مكتوبا بوضوح فوق الدمية - أمام نيكسون صارخا في وجهه :«اندونيسيا ذات سيادة» ضج الجمهور بالتصفيق. وهنا وقفت الدمية التي تحمل الدولارات الامريكية فوجهت العلم الامريكي ،مثل رمح، إلى جسد السياسي الشعبي فأردته قتيلا. وغادرت الدمى جميعها الركح وأُسْدِل الستار وتفرقت الجموع غاضبة.
قلت ل «راسي» : «ينبغي أن أذهب» . وكأنه شعر بخوفي فوضع ذراعه على كتفي قائلا: «ليس لديهم أي شيء ضدك شخصيا» ولم أكن مطمئنا مثله.
وبعد ذلك توجهنا - صحبة أصدقائه من الشباب - إلى مقهى بالمدينة حيث كان الحماس يغلب على الشباب لكنهم كانوا مؤمنين بان الولايات المتحدة تسعى لبناء امبراطورية تحكم العالم وأن العالم الإسلامي هو القادر على مواجهتها إن عاجلا أو آجلا.
بعد عدة ايام على مشاهدتي لمسرح الدمى تم اغتيال ذلك السياسي الشعبي من باندونغ الذي وقف - في المسرحية - ضد نيكسون. اغتيل من طرف شخص يقود سيارة فر بها إلى المجهول.
***************
استغللت وقت فراغي أثناء زياراتي لجاكارتا - سعيا نحو أرقام وإحصاءات. في كتابة انطباعاتي و نقاشاتي مع المواطنين و الطلبة في كتاب مذكراتي الخاصة، كنت أجوب شوارع العاصمة متصدقا ببعض المال على المتسولين. كما كنت أخوض في أحاديث مع المجذومين والمومسات والمتسعكين. وبدأت أُكَوِّنُ فكرة عن الدور الذي يمكن للمساعدات الأجنبية (من البنك العالمي مثلا...) أن تلعبه في محاربة الفقر بشكل حقيقي ، وعن الدور الامبريالي الواقعي الذي تلعبه هذه المساعدات في تأبيد الفقر واللامساواة.
***************
عدت من أندونيسيا إلى بوسطن لأعلم أن رئيسي في شركة «ماين» «إينار» قد تمت ترقيته ونقله إلى بورتلاند بولاية أوريغون وأصبح رئيسي المباشر هو «برونو زامبوتي» الملقب ب «الثعلب الفضي»؛ بسبب لون شعره ودهائه في المناورة. وكنت مثل جميع العاملين في «ماين» أخشى «برونو زامبوتي» وأتجنب لقاءه.
ومرة قبيل الغذاء استُدعيت إلى مكتب برونو وبعد محادثة ودية حول أندونيسيا قال لي شيئا جعلني أقفز من مكاني.
لقد طردت «هاورد باركر» لسنا بحاجة للدخول في تفاصيل ،باستثناء القول أنه فقد أي إحساس بالواقع». كان يبتسم بهدوء وهو ينقر بأصابعه على ملف أمامه:« تصور ... 8 بالمئة في السنة ، هذا هو معدل التطور الطاقي الذي توقعه لبلد قوي مثل أندونيسيا» ثم غارت ابتسامته لينظر إلي مباشرة في العينين مواصلا :« لقد حدثني عنك شارلي الينغورث وقال لي أن توقعاتك تتراوح بين 17 و 20 بالمئة هل هذا صحيح؟»
أكدت له ذلك. فنهض من مقعده. وصافحني قائلا: «هنيئا لك. لقد تمت ترقيتك.»
قد أكون احتفلت تلك الليلة بالترقية مع بعض الزملاء، لكني أحسست بالحنين إلى «كلودين». كانت حذرتني من الاتصال بهاتفها حين أكون بالخارج، لكني الآن في بوسطن. لاضير إذن إن انا كلمتها». و لأن تلفونها لايرد ذهبت إلى شقتها فوجدت زوجين لا يعرفان عنها أي شيء. توجهت الى شركة «ماين» أبحث عن إسمها ضمن المتعاونين أو المستشارين السابقين للشركة، لكن الموظفين أكدوا لي عدم وجود مستشار ل«ماني» بهذا الاسم.
بعد عدة أسابيع قدمت تقريري حول أندونيسيا أمام الممولين الدوليين وتلقيت أسئلة خبرائهم .كانت توقعاتي للطلب على الطاقة الكهربائية في أندونيسيا تتراوح بين 19 و 17 في المئة كل سنة لمدة 20 عاما القادمة. قدمت عرضي بثقة تامة مستندا إلى نصيحة «كلودين» حين قالت لي ونحن في شقتها بشارع «بيكون» :«من يستطيع استشراف المستقبل لمدة 25 عاما الآتية؟توقعاتك هي في نفس قيمة توقعاتهم المهم هو الثقة في النفس.»
أقنعت نفسي بأني أصبحت خبيرا رغم أن خبرتي في الواقع محدودة لكن ما كان ينقصني تجربة ومعرفة كنت اغطيه بالشجاعة والجرأة. وقد نجحت هذه الحيلة فحصلت تقاريري على مصادقة الخبراء.
وطيلة الشهور التالية، امضيت وقتي في لقاءات في طهران وكاراكاس وغواتيمالا سيتي ولندن و فييينا وواشنطن صحبة شخصيات معروفة وشهيرة مثل شاه إيران و رؤساء دول سابقين ، وهذا زاد من شهرتي واحترام مؤسسات الإقراض الدولية لتقاريري.
وفي أحد المساءات دعاني «برونو» إلى مكتبه. وقف خلف الكرسي الذي جلست عليه ووضع يديه على كتفي قائلا:« لقد قمت بعمل ممتاز ولاظهار تقديرنا. فاننا نمنحك فرصة العمر؛ نمنحك شيئا نالته قِلَّةٌ من الرجال، وغالبا بعد أن بلغوا ضعف عمرك»
* وجدت صعوبة حقيقية في ترجمة عنوان الكتاب confessions of an economic hit man إذ أن hit man لغة تعني القاتل المأجور أو قناص البشر أو رجل المافيا، بيد أن إضافة نعت economic الى القاتل أو القناص من شأنه تغيير سياق الترجمة.
لهذا السبب فضلت إضافة عنوان فوقي (ليس موجودا في الاصل) هو « قتلة بدون بنادق» آملا في أن أسهل استيعاب المعنى المقصود على القارئ الكريم .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.