عكس ما اعتقده البعض، حمل خطاب العرش لهذه السنة أجوبة واضحة عن تجربة العشر سنوات السابقة ونوايا صريحة لما سينتهجه الحكم خلال السنوات اللاحقة. لقد شاطرت عناصر الخطاب، وإلى حد بعيد، تقويم مناضلين سياسيين ومحللين وإعلاميين لأسلوب نظام الحكم بالمغرب وسبيله، في الوقت الذي نزل فيه نص الخطاب كالصاعقة على جزء كبير من القيادات الحزبية، عكسها غياب مطلق لتصريحاتها وردود أفعالها حول ذات الخطاب كما هي عادتها، وخلت صحفها من كل مقالات التمجيد له باستثناء افتتاحيات متأخرة لجريدة الوزير الأول. قضي الأمر إذن ، وبات واضحا أن العرش إضافة لكونه «قطب الرحى للثوابت الوطنية» هو من سيتكفل بالإدارة السياسية للبلاد لوحده، مقررا ومنفذا ومراقبا ،معتمدا سياسة شعارها الأساس»النماء الديمقراطي» ، ومحددا لدور الأحزاب راهنا في دور استشاري فيما يُقترح عليها من أفكار. ثم يقرر الملك بعد ذلك في مصير الإقرار والتفعيل لتلك الأفكار.وفي المحصلة، فإن أي تفكير في تشارك الأحزاب في الحكم على المدى المنظور أصبح في خبر كان ، وأية مطالبة بذلك عبر إصلاح سياسي ودستوري غير ممكنة الآن ، باعتبار النظام الحاكم يشعر أنه في غاية الراحة والارتياح ، و أنه القوي، وأن الأحزاب وصلت إلى أعلى درجات الضعف والوهن ، وبالتالي لا حاجة له لتقديم هدية أو تنازل سياسي في هذا الجانب راهنا. الحق أن قيادات الأحزاب في السنوات الأخيرة دخلت في انتظارية عمياء أوهمت نفسها ومناصريها بأن تغييرا ما سيحمله العهد الجديد وركزت صلب أوهامها في ذلك على تغيير مرتبط بشخص الملك نفسه مجردا من ثقل الادارة السياسية المخزنية العتيقة التي تسيطر على كل دواليب الدولة وعلى كل مناحي حياة المواطن والتي تمارس سلطتها،دائما وأبدا، باعتماد المراقبة الأمنية أولا وقبل كل شيء. فالمخزن قوي لأن الأحزاب ضعيفة، إذ قد خلت برامجها من كل مطلب سياسي أو اجتماعي ، ناهيك عن تهلهلها التنظيمي وخلو رأس هرمها من زعيم قادر على تزعم جماهير الأمة ومن قيادات سياسية قادرة على التفكير في استراتجية للعمل، تطرح قضايا الشعب الملحة على رأس أولويات تحركها، وتضع خططا لطرحها والدفاع من أجل تحقيقها ، فضاعت هذه القيادات الحزبية بين متاهات البحث الانتهازي عن مقعد هنا وهناك باسم الأمة وجماهيرها وبين جلسات انتظارية لما قد سيتم تغييره من فوق باسم الوفاء للعرش. انتهازية وانتظارية كرستا أوهاما كثيرة ركب عليها العهد الجديد ، واستعمل ذات الخطاب لغة وشعارات التي تكلم بها ورفعها أقطاب اليسار تحديدا، إلى حد توهموا أن النظام يتكلم لغتهم عن قناعة، وآمنوا أن زمن الحداثة والمواطنة آت لا ريب فيه، وذلك على مدى عقد من الزمن . واليوم نعتقد أن استراتجية رجال العهد الجديد نجحت إلى حدا ما، وقد اعتمدت تمويها في الخطاب لإحكام خطة الهجوم على الطبقة الحزبية، ولم تكن في النهاية إلا نوعا من صرف نظر تلك القيادات الحزبية( (diversion وإلهائها في الوقت الذي كانت تخطط فيه لاستمرار أسلوب نظام الحكم المُتبع منذ عشرات السنين،وهي استمرارية تتشابه -حاليا- مع الحقبة الحسنية وتتقاطع معها ، فالأمس كانت الأمية سببا في عدم نضج الشعب لحكم نفسه بنفسه أيام الراحل الحسن الثاني الذي حكم ردحا من الزمن انتهى بتأزم للوضع السياسي وتقهقر للوضع الاجتماعي وانحطاط للوضع الاقتصادي. واليوم وُجد سبب ثان لكي لا يشارك الشعب في تدبير أموره ، إنه الفقر.والنتيجة أن لا انتخابات شفافة، ولا ديمقراطية، إلا عندما تتم مواجهة هذا الفقر وبعد تنمية البشر والجهات ، بالاعتماد في ذلك على المعالجة التقنوقراطية المؤطرة بالمقاربة الأمنية وتحت غطاء حكومة سياسية لا يختلف مغربيان على ضعفها ومؤسسات منتخبة مطعون فيها وأحزاب عبارة عن تجمعات مصلحية بدون فكر ولا تاكتيك ولا استراتجية عمل. وفي المحصلة، وجدنا أنفسنا لا أمام سياسة العصا والجزرة كأسلوب حكم، و إننا أمام سياسة الجزرة التي زاد طولها وقوي عودها وتصلب فأضحت تشبه العصا من حيث الشكل والوقع. فاختلط الأمر على المتتبع لأوضاعنا السياسية كان مغربيا أو أجنبيا. وبدا جليا أن السياسية فقدت مكانها في بلادنا ، فالجهاز الحاكم يفتقد لرجال السياسة فاتخذ منهج حكم تقنوقراطي للأوضاع وباعتماده ل» النماء الديمقراطي « يكون قد عصف بآخر أوهام الحالمين بالانتقال الديمقراطي. أما الأحزاب فتلك مصيبة المصائب إذ وصل إلى قيادتها ، فقط ،أعضاء من أصحاب الاختصاص ومن رموز تنظيمية. فافتقدت في صفوفها سياسيين قادرين على الحلم والتحرك، قادرين على أخذ من الأحلام ما هو ممكن تحقيقه وتحويلها إلى آمال، وقادرين أخيرا على وضع تخطيط لتحقيق هذه الآمال وجعلها قضية يتعبأ الناس حولها لما يخدمهم ويلبي حاجياتهم. وإن كانت المكاتب السياسية كما يدل على ذلك اسمها مكاتب تضم السياسيين أولا، لا بأس أن تُعضد بأهل الاختصاص من الأعضاء وبعض القيادات المنبثقة من التنظيم، فللأسف فإن المكاتب السياسية للأحزاب حاليا، يسارا ويمينا ووسطا، لا تحمل من السياسة إلا الاسم وجل أعضائها في السياسة لا يفقهون. والأدهى والأمَر في هذا الصدد أن الكثير من أعضاء الأحزاب الحالية يظنون أنهم سيصبحون سياسيين فقط باحتلال موقع في تلك المكاتب، فبئس مصير هؤلاء وبئس مصير مكاتبهم وأحزابهم وبئس ما يصنعون. إن هي إلا أحزاب جامدة تفتقد رؤية وأهداف وبرنامج عمل، حتى غدت عبارة عن تشكيلات بشرية لها مصالح فردية آنية تريد الوصول إليها ضدا على مصلحة الشعب والوطن، وأصبحت قيادتها قيادات راكعة خانعة لا تعرف معنى الكرامة في الممارسة السياسية لصون ذات الكرامة وللحفاظ على عزة النفس. فظلمت نفسها قبل أن تظلم غيرها فاستحقت أن لا تُحترم، اليوم، لا من طرف الحاكم ولا من طرف الشعب.وإن لم تتدارك تلك القيادات الحزبية أخطاءها سيتحول عدم الاحترام إلى كراهية لها ،أما إذا تمادت في غيها وعبثها وأخطائها فستنقلب الكراهية إلى مستوى الحقد عليها وعلى أتباعها. فهل ما بقي، من أعضاء تلك الأحزاب، من المناضلين الصادقين راض على هذا الوضع السيئ و المسيء؟ والكرامة في السياسة لن يكون لها معنى إلا إذا توفر السياسي على جرأة في طرح القضايا بدون تضليل ولا دوران، وتوفر أيضا على طموح فردي يلتقي كليا مع الطموح الجماعي لأبناء شعبه .و هذه الخصال هي التي تجعل من السياسي مناضلا، وتجعل من الحزب الذي ينتمي إليه مجموعة من السياسيين المناضلين حزبا مناضلا، حزب يبتغي تحقيق آمال وطموح أعضائه مع تحقيق طموح وآمال فئات كبيرة من الشعب و في الوقت نفسه.إن تلك الخصال هي التي تعطي للوفاء معناه الحقيقي، وفاء للمبادئ،وفاء للحزب ووفاء للشعب وللوطن. فأن تكون صريحا يستوجب أن تكون واضحا في طرحك. وأن تكون مباشرا يستدعي منك الجرأة. وأن تعبر عن عمق تفكيرك وطموحك بكرامة ودون خوف أو تردد، مهما كان الثمن، يتطلب شجاعة ونكران الذات. فلا سياسة نبيلة المسعى والأهداف إلا إذا مورست بكرامة وجرأة ووضوح وبوفاء. في هذا الصدد يقول القائد عبد الرحيم بوعبيد رحمه الله :« أحسن طريقة ليكون السياسي بارعا، مبدعا وحاذقا أن يكون صريحا، مباشرا، وأن يعبر عن عمق أفكاره.» هكذا كان نهجه. فكان سياسيا حاذقا ، جريئا ،شجاعا ، مؤمنا بقضايا شعبه وأمته ووفيا لهما، فاستحق التقدير والإعجاب من الجميع في حياته وبعد وفاته. مغربنا يحتاج اليوم لسياسة جديدة، ويحتاج لقوى سياسية مناضلة جديدة ، تأخذ من تاريخ نضال الشعب أحسنه وتتجنب مساوئ التجربة الحزبية الحالية وتدفع بالتي هي أفضل دائما خدمة للشعب وقضاياه. آمنت جماهير شعبنا ولا تزال بالحرية والديمقراطية والاشتراكية كمنهج اقتصادي للتنمية الهادفة والعدالة الاجتماعية الشاملة والتوزيع العادل للثروات،وهي أهداف ثلاثة يجب العمل على بلوغها بشكل مرتبط .فلا جدوى من حرية لا تفضي إلى الديمقراطية وإلى العدالة اجتماعية. ولا فائدة من ديمقراطية لا تعزز الحرية والعدالة الاجتماعية. ولا تنمية ناجعة ولا عدالة اجتماعية ناجحة، لا تحميان حرية الفرد وتعززان دوره في تحديد الاختيارات وفي التنفيذ وفي المراقبة. فعلى المناضلين الصامدين وعلى شبابنا اليوم أن لا يبخلوا على أنفسهم وعلى وطنهم بعمل سياسي جديد و جاد، استعدادا لما هو آت من الأيام التي لن تكون إلا أياما عصيبة ، وذلك بالتحلي بصفات المناضل الصادقة، المقتنعة بالعمل الجماعي المنظم، الواعي والمتحرك، أسلوبا. يقترحون بدون تشنج، ويبادرون بدون انغلاق على الذات ، ليتمكنوا من تحقيق طموحاتهم باعتبارها جزءا لا يتجزأ من طموحات شعب بأكمله ، وصولا للعيش الرغيد والغد الأفضل.فالأمل مع الحياة والحياة كفاح ونضال. الاعتماد على الله وعليهم في تحقيق ذلك، بعدما اندحرت الأحزاب و تفرقت كلمتها وشُلت تنظيماتها وخضعت جل قياداتها بعد تركيعها ، ففقدت الجرأة والشجاعة والكرامة وبدلت الوفاء غدرا، وفقدت بالتالي تلك الأحزاب مقومات وجودها بعد أن جلبت نفور الشعب نحوها في أكثر من محطة انتخابية وغيرها ووضَعَها الحكام في الركن المظلم من المشهد السياسي.