يروى أن النصرانية دخلت نجران عن طريق رجل اسمه فيميون، من بقايا أهل دين عيسى ابن مريم، الذي كان ينتقل من بلاد إلى بلاد، ومن قرية إلى أخرى. كان رجلا صالحا وزاهدا في متاع الدنيا ومجاب الدعاء. كان يعمل بنَّاء ولا يأكل إلا من كسب يده. وكان يُعظِّم يوم الأحد، فإذا كان الأحد لم يعمل فيه شيئاً، إذ كان يترك القرية وينعزل في الصحراء للصلاة إلى أن يحل الليل. وما إن يكتشف الناس كراماته، كان يسرع الخطى نحو قرية أخرى لا يعرفه أهلها. ففطن لشأن فيميون في قرية من قرى الشام رجل من أهلها اسمه «صالح»، فأحبه حبا لم يحبه شيئا كان قبله. وفي يوم من أيام الآحاد، وبينما كان فيميون ذاهبا إلى الصحراء كما كان يصنع، تبعه صالح مستخفيا. ولما توقف الناسك، جلس صالح يراقبه ولا يحب أن يعلم بمكانه. فقام فيميون يصلي، فبينما هو يصلي إذ أقبل نحوه التنين- الحية ذات الرؤوس السبع- فلما رآها صالح تقترب بصمت، خافها صالح عليه، فخرج من مكانه ليحذره: - احذر يا فيميون، التنين أقبل نحوك! فدعا عليها فيميون فماتت في الحال. ودون أن يلتفت إلى صالح، أقبل على صلاته حتى فرغ منها ثم انصرف. ولما عرف صالح أن فيميون قد رأى مكانه، جرى نحوه قائلا: -يا فيميون، تعلم والله أني ما أحببت شيئا قط حبك ، وقد أردت صحبتك، والكينونة معك حيث كنت. فقال: - لك ما شئت. أمري كما ترى، فإن علمت أنك تقوى عليه فنعم. فلزمه صالح. وكان إذا فاجأه العبد به الضر دعا له فشفي، وإذا دعي إلى أحد به ضر لم يأته، وكان لرجل من أهل القرية ابن ضرير فسأل عن شأن فيميون ، فقيل له: - إنه لا يأتي أحدا دعاه ولكنه رجل يعمل للناس البنيان بالأجر. فعمد الرجل إلى ابنه ذلك فوضعه في حجرته وألقى عليه ثوبا، ثم جاءه فقال له: - يا فيميون ، إني قد أردت أن أعمل في بيتي عملا ، فانطلق معي إليه حتى تنظر إليه فأشارطك عليه. فانطلق معه حتى دخل الحجرة التي كان فيها الابن الضرير. ثم قال له: - ما تريد أن تعمل في بيتك هذا؟ فبدأ الرجل يتحدث عن كذا وكذا، ثم رفع الثوب عن الصبي ثم قال: - يا فيميون، عبد من عباد الله أصابه ما ترى، فادع الله له. فدعا له فيميون، فقام الصبي ليس به بأس. ولما عرف فيميون أن سره قد انكشف، خرج من القرية يرافقه صالح. فبينما هما يمشيان في الطريق، إذ مرا بشجرة عظيمة فناداه منها رجل فقال: - يا فيميون.. يا فيميون! قال: - نعم. قال: - انتظرتك طويلا، وأقول متى هو آت؟ حتى سمعت صوتك، فعرفت أنك هو. لا تبرح حتى تقوم علي (تعتني بجثتي) فإني ميت الآن. فمات الرجل المتكلم وقام عليه فيميون، فأخرجه من الشجرة ثم دفنه. بعد ذاك انصرف وتبعه صالح حتى وطئا أرض العرب، فهوجما واختطفتهما سيارة (رحل) من بعض العرب، فخرجوا بهما حتى باعوهما بنجران. وكان أهل نجران يومئذ على دين العرب، يعبدون نخلة طويلة بين أظهرهم لها عيد في كل سنة إذا كان ذلك العيد علقوا عليها كل ثوب حسن وجدوه وحلي النساء ثم خرجوا إليها ، فعكفوا عليها يوما. فابتاع فيميون رجل من أشراف نجران وابتاع صالحا آخر. فكان فيميون إذا قام من الليل يصلي ، استسرج له البيت نورا ، حتى يصبح من غير مصباح فرأى ذلك سيده فأعجبه ما يرى منه، فسأله عن دينه فأخبره به وقال له فيميون : -إنما أنتم في باطل. إن هذه النخلة لا تضر ولا تنفع، ولو دعوت عليها إلهي الذي أعبده لأهلكها، وهو الله وحده لا شريك له. فقال له سيده: - فافعل، فإنك إن فعلت دخلنا في دينك، وتركنا ما نحن عليه. فقام فيميون، فتطهر وصلى ركعتين ثم دعا الله عليها، فأرسل الله عليها ريحا فجعفتها من أصلها فألقتها. فاتبعه عند ذلك أهل نجران على دينه فحملهم على الشريعة من دين عيسى ابن مريم عليه السلام.