ندخل شفشاون كما ندخل خلوة ملاك. ونتعثر في أجمل ما فينا: لغتنا كما يتعثر طفل يدخل حديقة أول مرة. وعندما تدور الأرض حول نفسها، تدور حول الشمس وحول الشعر وحول شفشاون، فيكون في الدنيا ربيع من الأصدقاء.. في سبت النهاية المنصرمة من الأسبوع الذي ودعناه، كان علي أن أقول كل الحب الذي راكمته للمدينة ولأهلها. كانت قرون عديدة تطل علينا من فتحة أندلسية في القصبة، وكنا نتفقد أحاسيسنا، كما يتفقد آخرون زادهم في رحلة طويلة. كان أمامي عبد الكريم الطبال، وكان أمامي بالفعل صوفي رسم حديقة، وزرع فيها مواجد كثيرة، ثم أحاطها بشرائط من الذهب، وقال هذا قسط المغاربة من أرض الشعر، وهذا قسط الشعر من المغاربة. مقيم شعريا في العالم من أجلنا، لأنه أحد الآباء المؤسسين .. لقد راهنت الحضور، بأن قصائده تتحول في الليل إلى فراشات مضيئة، وتتحول أيضا إلى لآليء، لأنها مشتقة من إحساسه الرهيف، وإنسانيته الصامتة في أعلى الجبل. نحن نسير، جيلنا أقصد، محاطين بالزرقة في هوية قصيدته، ومحاطين بأفكار مضاءة جيدا.. عبد الكريم الطبال يسارع، مخفورا دوما بالموج والنشيد، إلى غرف الكناية والمجاز ليبني لنا غرفة رمزية تسكنها القصيدة المغربية، والطبال في الشاون يسهر بأمطاره الطويلة وبالثلوج على ربيع الشمال الدائم.. ويكون الانتقال إلى ثريا ماجدولين، انتقال إلى فرادة الحدس الأنثوي، وأنت تسألها هل صحيح أن الدم الصاخب في عروقك حبر سماوي، هل صحيح تكون القصيدة دائما حدسا أنثويا عاجلا، يسارع بدوره الى أن يكون حاسة سادسة دائمة، كما تدوم الثورات في نشيد، أو في أغنية؟ معها استطعنا أن نرى الكناية تتحول الى شط، الى زمن قائم في الذات، يسكنها ويشردها بين العواطف الملتهبة. قلت لها ذلك المساء أننا نفاجأ دوما بالحرية وهي تقلد عواطف الشاعرات. كما يقلد الصليب نفسه وهو يقترب من أحمد المسيح. شاعر مصلوب على لغتين، بين لغتين. كان من القلائل الذين ارتقوا بنا الى دارجة الخيال، وعلمنا أننا، كلنا لا نتخيل سوى بالدارجة، لأن اللغة العربية الفصحى لا تحمل خشخاشا في صوتها، ولا تحمل السهوب في جرسها، ولا تحمل الدفوف التي تحرك أجسادنا. أحمد المسيح يومها أعطاني الفرصة لكي أكتشف في تلقائية الحديث عنه، أنه ينتقل من اللغة إلى «النيكاتيف»، لكي يحمض الواقع في الزجل. عارك من أجل أن نفهم بأن الدارجة ليست ظلا للفصحى، لهذا يتخيله قارؤه كما لو أن لها أحجارا كريمة تحت اللسان. المسيح في الفورة كان يكتب حدادا علينا، ليكتب لنا تاريخا في الشجر.. في شفشاون كانت الشاعرة تسلكنا إلى الشاعر، لكي يسلمني إلى شاعر يليه. لألتقي محمد بودويك وأسأله: يا محمد متى تجد الوقت لكي تكتب؟ فطالما دخل علينا بودويك مدججا بالمودة وبالفرح، يتكدس في بحته كما تتكدس الأنواء في يد بحار أو في نجمة، بأسنانه الثورية الطويلة، يجعلك تحسده على النهم الذي يقضم به تويجات الزهرة ، لكي يأخذ ما فيها من فصول. تحسده على الوديان البعيدة التي جاءت به من شرق البلاد إلى .....يسار العالم. بودويك عندما ينحت كلمة يصبح لها صوت، وتتنطق أو تتحول إلى رنين من فضة. حميم نفسه، ذاكرته خضراء من شدة الفرح. ولعله صفة من صفات زميله الصديق عبد السلام الموساوي، فهو أيضا يتناسل في الحب والمودة. أذكر أننا نتحدث عنه كما نتحدث عنه ونقول باستمرار إنه في ضاحية لغته واستعاراته تستيقظ أنجم كثيرة تدفيء العالم لديه، هو شفاف للغاية، لا يجد أدنى حرج حينما يسأل هل شمس واحدة كافية لهذا العالم، لهذا يربي دائما كالطيور لعله يقنع نفسه أنها ضرورية لكي يعيش يوما واحد من شهر أكتوبر. لا تسألونني لماذا اخترت هذا الشهر، ولكنني أخمن أنه شهر عبد السلام الموساوي. في الحديث عن محمود عبد الغني أضع نقطتين لأشرح صديقا: أقول عنه إنه سيحتفظ بحريته كالخطأ، يتحرك ككوموندو حقيقي ويؤكد باستمرار مثل بودي يتهجى الثورات الباطنية: لست في حاجة إلى أب لكي أغضب، لست في حاجة إلى الأجداد لكي أتمرن، تعتمل فيه اللغة فيحاول أن يقشرها لعله يجد بابل قديمة، لكنه يعثر على الواقع، فيطلق نثرياته الجميلة، متسارعة كما لو أنه يحمل رشاشة. صديقي ليس مولعا باللغة إنه، أساسا، مولع بالحبر الذي يكتب به، لنفسه، وللعالم حتى لا يبرد في يده. وكما يبحث هو عن خياله، يسترجع مراد القادري، إلى جانبه جيلا بكامله نبت في رأسه، ثم تحلق حوله. أذكر اسمه دائما مقرونا بشفشاون، لكن أيضا مقرونا بالكثير من وجوهنا الكثيرة ومن الكثير من عواطفنا، وبالكثير أيضا من أسبابنا الصغيرة التي قادتنا للغة. صديقنا مراد رحب بالمودة، وارف للغاية بصفائه، لا يتخيل نفسه ربانا أو بحارا في قصيدة (وايتمان) يحمل الرسائل إلى الأميرات، بل مصاب بلغته الدقيقة، اللغة التي يتحدث بها عاشقان مغربيان، بحب مغربي محض. هو أيضا يسدد صداقته بدقة متناهية يكاد يشبه القناص، سيظل دائما الجار الحميم لحياتنا . وفي شفشاون تولد صداقات جديدة، ترعاها القصبات والشجيرات في القمم أو أصص البيوت الأندلسية العتيقة، لأنها صداقات تجري جريان الشعر. وهذا ما حدث مع عبد الجواد الخنيفي، الذي لم تتح لي الفرصة لكي أجايله في ميلاد شعره ... ولي أن أشكر أيضا مصطفى الذي عمل على توثيق تلك اللحظة وتسجيلها الشيئ الذي سمح لي باستعادة ذلك الفيض الشفشاوني في العاطفة.