يبدو النظام السياسي الإيراني هذه الأيام أشبه بعباءة مليئة بالثقوب لا تفيد محاولات رتقها سوى في إبرازها أكثر. فقد كشفت أزمة نتائج انتخابات الرئاسة ثغرات أساسية في تركيبته وأدائه، توجه خطاب المرشد الأعلى للثورة علي خامنئي المغلف بالشعارات والعبارات العاطفية والذي حاول فيه إعادة تماسك جمهوريته واستيعاب الانقسامات وامتصاص الرغبة الجامحة في التغيير، لكنه لم يتوان، في تناقض واضح، عن تهديد المعارضة بالأسوأ إذا لم توقف تحركها، مؤكدا انه لن يخضع للشارع على الرغم من اللهجة الدفاعية التي اعتمدها في أكثر من نقطة أثارها. فعلى غرار سائر الأنظمة الشمولية القائمة على سلطة مطلقة لفرد، والتي قد تضطر إلى الأخذ ببعض مظاهر الديمقراطية خدمة لحاجات التسويق والاستمرار، لكنها سرعان ما تتراجع عن المضي في هذا الطريق إلى نهايته المنطقية، فإن اللوم في أي خلل يقع دوماً على الخارج "المتآمر" و "المتربص"، بينما مظاهر احتجاج الداخل واستيائه وغضبه ليست سوى "زلات" محدودة داخل البيت، مع إبقاء الباب مفتوحاً أمام ربطها ب "الأعداء" إذا خرجت عن الحدود المرسومة وطرحت شكوكاً حول شرعية النظام نفسه، وتحميلها المسؤولية عن أي مواجهات محتملة. وبنظرة عابرة على المرشحين الأربعة للرئاسة يتبين لنا أن جميعهم كانوا أقطابًا رئيسين في نظام ولاية الفقيه ولهم ولاء تام للمرشد العام وإلا لما تم السماح لهم بترشيح أنفسهم من البداية. فنجاد قبل أن يكون رئيسًا شارك كمقاتل بالحرب العراقية الإيرانية في الثمانينيات، وقاد اللواء الخاص بالحرس الثوري الإيراني كمهندس عسكري. ومير موسوي تولى رئاسة الحكومة منذ عام 1981 حتى 1989، وعمل مستشارًا رئاسيًا منذ 1989 حتى 2005، كما أنه كان عضوًا في مجلس تشخيص مصلحة النظام. أما محسن رضائي: فكان قائدًا سابقًا للحرس الثوري. ومهدي كروبي كان رئيسًا للبرلمان الإيراني كما أنه رجل دين تتلمذ في دراسته الدينية على يدي الخميني مباشرة. فالمرشحون الأربعة هم أعضاء سابقون في النظام الإيراني والنظام هو من سمح لهم فقط دون غيرهم بالترشح بناء على ولائهم التام. فاختيار أي من المرشحين الأربعة لرئاسة الجمهورية الإسلامية لن يترتب عنه أي تغير في شكل الدولة أو قضاياها الأساسية، والسؤال الذي يطرح نفسه أنه مدام الأمر كذلك فما الذي فجر المظاهرات والاحتجاجات في الشوارع بهذه الطريقة؟ أولاً: الاحتقان الشعبي، فالشعب الإيراني يتعرض لقدر كبير من الكبت السياسي، ففي نظام الجمهورية الإسلامية تعد شخصية مرشد الثورة أو الولي الفقيه وهو شخصية غير منتخبة شعبيًا الشخصية المحورية، فهو يملك صلاحيات تفوق صلاحيات أي ديكتاتور أو متسلط فاشي، فمن صلاحياته وفقًا للمادة 110 من الدستور كافة المسائل الرئيسة الخاصة برسم وتعيين السياسات العامة للنظام وقيادة القوات المسلحة وعزل وتنصيب أغلب رؤساء المؤسسات والمجالس الرئيسة من قبيل مجلس فقهاء ،صيانة الدستور، ورئيس السلطة القضائية، ورئيس مؤسسة الإذاعة والتلفزيون، ورئيس أركان القيادة المشتركة للجيش والقوات المسلحة، والقائد العام لقوات حرس الثورة، والقيادات العليا للقوات المسلحة وقوى الأمن الداخلي وكذلك عزل رئيس الجمهورية، وغيرها من الصلاحيات. ثانيًا الأقليات الدينية: فبحسب تقديرات المراقبين لا تتعدى نسبة الفرس في إيران ال51 في المائة من عدد السكان. ويتوزع بقية السكان الإيرانيون على عدد من الأقليات منها: أذريون (أتراك( 24 في المائة، وجيلاك ومازندرانيون 8 في المائة، وأكراد 7 في المائة إضافة إلى العرب في الغرب، والبلوش في الشرق. فعلى الرغم من كبر حجم القوميات والأقليات في إيران، فإنها تعاني من تهميش سياسي واضح، فلا يسمح لها بإنشاء أحزاب سياسية، أو مؤسسات للمجتمع المدني، أو إصدار صحف ومجلات ناطقة بلغاتها، ولا تمتع بالمساواة في الحقوق والواجبات، وتعاني من التمييز، وهو ما يدل عليه أحداث العنف التي تشهدها البلاد بين الحين والآخر في الأقاليم التي تقطنها هذه الأقليات، كمظهر من مظاهر الاعتراض على ما تواجهه من سياسات تمييزية تصل في بعض الأحيان إلى حد الاضطهاد. بجانب التفاوت الواضح في الوضع الاقتصادي والاجتماعي للأقاليم التي تضم القوميات والأقليات الدينية الإيرانية المختلفة، إضافة إلى عدم توائم نسبة وجودهم في النظام السياسي مع حجمهم في المجتمع، لاسيما فيما يتعلق بالأقلية السنية التي يقتصر وجودها في هيكل النظام السياسي الإيراني على منصب مستشار الرئيس لأهل السنة، حيث قرر الرئيس الإيراني أحمدي نجاد مواصلة الاستعانة بعالم الدين السني "محمد إسحاق مدني" في المنصب ذاته الذي شغله خلال فترة حكم الرئيس السابق محمد خاتمي، وفق قرار رئاسي أصدره في 3 يناير 2006. ولأن الشعب الإيراني مأزوم وفي حالة احتقان حقيقي، فقد خرجت الألوف إلى شوارع طهران معربة عما في صدورها، رغم أن ما يحدث لن يشكل حتى في حالة نجاحه تغييرًا جذريًا، إلا أنه لم يكن أمام الشباب الإيراني إلا هذا المتنفس ليعبر عن غضبه، ولنا أن نعلم أنه لم يمر على الثورة الإيرانية غير ثلاثين عامًا فقط، وها هو الشعب الإيراني قد بدأ في التململ. لقد أظهرت أزمة الانتخابات الرئاسية الإيرانية مدى عمق تطلعات الشعب الإيراني للتغيير، فالشعب الذي صوت بكثافة ثم خرج إلى الشوارع دفاعا عن أصواته حري بوصفه بالشعب النابض بالحيوية والأمل، غير أنه من المهم أن يحافظ الشعب الإيراني الشقيق على وحدته واستقرار بلده، لأن التعبير السياسي المشروع لا يتناقض مع الإيمان العميق بأمن البلاد ووحدتها. ما من شك أن الانتخابات الأخيرة اعترتها بعض الأخطاء وكشفت عن أمور قد تسيء إلى ديمقراطية النظام في طهران، حيث يمكن للمراقب أن يتساءل كيف للنتائج النهائية أن تعلن من وسائل الإعلام الرسمية بعد فرز نسبة بسيطة لا تتعدى20% وبعيد 4 ساعات فقط من إغلاق الصناديق، حيث تعود المراقبون ألا تظهر نتائج الانتخابات الإيرانية إلا بعد يوم أو يومين من إجرائها، لأن عدد المقترعين يتعدى 45 مليون ناخب في بلد مترامي الأطراف. وهذا التصرف من السلطات أعطى الانطباع ليس للمراقبين بل للناخبين أن ثمة تزويراً أو تدليساً اعترى العملية برمتها، وأن الفائز محمود أحمدي نجاد تم اختياره من المرجعية العليا في إيران اختيارا وليس انتخابا شعبيا. وهذا الشيء دفع الشعب الإيراني للاحتجاج على ما أصابه وما ارتكب باسمه. وهو أمر يقرره الشعب الإيراني ولا يحق لأية جهة خارجية التدخل فيه. غير أن استقرار الدولة الإيرانية أمر لا يخص النظام السياسي في إيران وحده. بل يهم جميع الدول المحيطة والإقليم بصفة عامة. وبرغم القناعة بتماسك الدولة الإيرانية، إلا أن انقسام الأمة الإيرانية أمر لا يبعث على الارتياح للمستقبل. فالأمور التي شابت الانتخابات وما نتج عنها من شكوك قد أساءت بالفعل إلى صورة إيران في العالم، كما تسببت في إحباطات لقطاعات عريضة من الشعب الإيراني، خاصة في ظل أزمة اقتصادية طاحنة يعاني منها المجتمع الإيراني، وكذلك عزلة دولية ومقاطعة عالمية بسبب قرارات مجلس الأمن وإجراءات الحكومة الأمريكية. يضاف إلى ذلك ما شاب علاقات طهران مع جيرانها من مشكلات بسبب تصريحات ومواقف وتدخلات في الأمور الداخلية لبعض الدول والاعتداء اللفظي على سيادة دول أخرى مثل البحرين والإمارات، والتدخل المباشر في أمن دول مجاورة وغير مجاورة مثل العراق وأفغانستان ولبنان، حيث تحرك طهران أحزابها التي أنشأتها وصرفت عليها من قوت الشعب الإيراني لحاجاتها ومصالحها السياسية. وكل ذلك أضعف الجبهة الداخلية الإيرانية التي ترى أن اهتمام حكومتها بالسياسة الخارجية يفوق اهتمامها بالمشكلات الحياتية للشعب، وهو ما دفع الإيرانيين للخروج إلى الشوارع أملا في التغيير بعد أن باءت بالفشل محاولات التغيير بالصناديق. باحث في العلاقات الدولية والقانون الدولي- جامعة محمد الخامس-أكدال-الرباط