رياح تغيير أم حركة تصحيحيّة؟ نهاية الحرب الباردة ؟ "" تدثر رئيس الجمهوريّة الأسبق آية الله هاشمي رفسنجاني، بعباءة الإمام الخميني، ليطلق مافي جعبته من سهام ،ومكائد صوب عمامة الولي الفقيه ، و مرشد الثورة آية الله علي الخامنئي، لتضع خطبة صلاة الجمعة لرفسنجاني حداً لنهاية الحرب الباردة بين الرجلين، وإيذاناً بانطلاق مرحلة جديدة من الصراع ،ستكون الأكثر سخونة ، مع البدء بالعد التنازلي من عمر الثورة الخمينية . رفسنجاني تلميذ الخميني ،و رجل الدولة الثاني في إيران بعد منصب المرشد، و أحد أهم أركان الثورة الإسلامية في إيران، ورئيس مجمع تشخيص مصلحة النظام ،ومجلس الخبراء الذي يمتلك صلاحية عزل الخامنئي ،غاب عن مجريات الأزمة في إيران بالقول، وكان حاضراً بقوة بالفعل ،حتى وصلت المماحكات، والمكائد بينه وبين المرشد إلى درجة حفر الأفخاخ في قم ، لرفاق الدرب الأخوة الأعداء ،وعلى رأسهم المرشد . لكن ماذا جرى بين فعل "الانتخابات"، وخطبة الولي الفقيه ،و ردّة فعل الشارع ،ثم خطبة رفسنجاني ،وردود الأفعال ؟ في خانة ال ( يك ) في 19 حزيران/يونيو الماضي، وبعد أسبوع على انتفاضة الشارع الإيراني إثر إعلان فوز الرئيس المثير للجدل محمود أحمدي نجاد ،اعتلى الولي الفقيه، ومرشد الجمهورية الإسلامية في إيران آية الله علي خامنئي منبر صلاة الجمعة ليعلن : تثبيت ،ومبايعة ،ومباركة محمود أحمدي نجاد رئيسا للجمهورية رغم شكوك الشارع الكثيرة حول نتائج الانتخابات، وعدم شفافيتها. إذن قطع خامنئي الشك ،والطريق أمام المشككين ،والمنادين بإعادة الانتخابات ،أو بإعادة فرز صناديق الاقتراع كاملة، وليس 10 بالمئة من الصناديق بلا تعيين . أمر الناس عدم النزول إلى الشارع للتظاهر ،والامتثال لأوامره ،و إلا فإنهم يعصون الولي الفقيه ،وينفذون مؤامرة خارجية تستهدف الدولة ،والنظام وبذلك أعطى الضوء الأخضر للحرس الثوري والباسيج، لقمع أي تظاهرة أو تجمع احتجاجي دون أي رحمة أو شفقة ، واتهم دولاً ،وأطرافاً خارجية دولية ،بالتدخل في الشأن الإيراني ،وهنا يعود ليسمح لإقامة أحكام عرفية تطال رؤوس القادة ،والعامة من الناس تحت عباءة ،وراية الدفاع عن الثورة ،والنظام . غمز بإشارات مفهومة ،ومعلومة العناوين لمن تسول لهم نفوسهم بالتطاول على الولي الفقيه، وسلطاته ،ويكون بذلك قد استخدم صلاحياته كولي فقيه ،ولكنه تلقى في اليوم التالي من خطبته صفعة من عشرات الآلاف الذي نزلوا إلى الشوارع يهتفون بسقوط الديكتاتورية، وهنا تكون الديكتاتورية ليست ديكتاتورية محمود أحمدي نجاد فقط ، بل ديكتاتورية خامنئي الولي الفقيه المطلقة ،فقامت الأجهزة الأمنية من الباسيج ،وحرس الثورة ، و قوات وزارة المخابرات ،بأعمال العنف ،والقمع ،والاعتقالات، والإعدامات، والتصفيات الجسدية. وكل ذلك بحجة حماية الثورة، وبخرق واضح من تلك الأجهزة القمعية للدستور ،الذي لا يحظر التظاهر السلمي ،وبضرب لمبادئ الثورة الخمينية ،التي لبى دعوتها الناس، للتخلص من ديكتاتورية الشاه ،والسافاك. فما أقرب الأمس من اليوم ،فبالأمس السافاك يفتك بالناس ،واليوم الحرس الثوري، والباسيج يخرق الحرمات، ويمارس الموبقات، ويطعن مبادئ "الثورة الإسلامية" ، بدعوى حماية ،وصيانة حقوق وحريات الناس متى أستعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً ؟ من أين تؤكل الكتف ؟ اعتلى آية الله هاشمي رفسنجاني البراغماتي منبر خطبة الجمعة أكثر من أربعمائة مرة ،كانت أولاها بعد انتصار الثورة ،بإمامة آية الله طالقاني ،وكان لخطبه خلال فترة الحرب مع العراق ،صدى واسعاً واهتماماً كبيراً ،و خرج عن صمته بعد زوبعة إعلامية ،مفادها اعتزاله إمامة صلاة الجمعة ،ومن ثم العودة عن قراره قبل ثلاثة أيام من خطبته الأخيرة في 17 تموز الماضي ، والتي أصبحت مفصلاً في تاريخ الانتفاضة الشعبية في إيران، وضربة جديدة للمرشد ،وشرخاً جديداً ، لجدار النظام الزجاجي، بعد أن نفخ بكلماته على جمر الانتفاضةالشعبية ، ليؤجج سعيرها . ويمكن تلخيص خطبته ،ورؤيته للخروج من الأزمة التي تعصف بالبلاد ،والتي قدمها إلى مجلسي صيانة الدستور ،والخبراء ب : اعتمد على الرسول محمد (ص)عندما أوصى عليّاً بأن لا يقبل الولاية إلا إن بايعه الناس بالمطلق ،وذكر رفسنجاني بأن عليّاً انطوى في عزلته ،لأن استشعر عدم وجود إجماع عليه ،وصبر زمناً طويلاً وهنا بيت القصيد ،والإشارة الذكية ،ورسالته إلى خامنئي ذاته ، و صنيعته نجاد ،بأن إدارة شؤون البلاد تكون برضى الناس إن لم يكن بالمطلق، فبالنسبية وهذا كلام رجل دولة من طراز عال ،ولو كان يلبس عمامة ،وعباءة ،ويؤمن بولاية الفقيه . نوه إلى دور، وحنكة الخميني في إدارة الثورة ،ولم يشر إلى خامنئي لا من قريب أو من بعيد رغم أن سهامه كلها انصبت على صدر الولي الفقيه دون ذكره بالاسم . قال بمعادلة منطقية جداً بأن لا جمهورية بدون الشعب ،ولا ولاية فقيه، بدون الشعب، وأن كل مؤسسات السلطة الرئيسة ،تتم عبر الانتخابات فلا تغليب للجانب الديني على الجمهورية، ولا للجمهورية على الجانب الديني . اعترافه بانعدام ثقة الناس ،بالسلطة ،وبالأجهزة الأمنية . اعترافه بانعدام الثقة بين الجمهور ،ووسائل الإعلام الرسمية. شدد أكثر من مرة على ضرورات الوحدة {واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا}،واعتبر المتظاهرين ،والمحتجين أبناء الثورة ،وركّز على تضحياتهم ،وهنا استعمل لغة الجمع حيث قال نحن ضحيّنا من أجل الثورة . فكأنه بذلك أراد أن يقول للذين يتهمونه ،ويتهمون الإصلاحيين بالخروج عن الثورة ،والطاعة بأننا نحن من صناع الثورة ،وحقنا على الثورة الإنصاف، والعدل ،فطالب بإطلاق سراح المعتقلين، وتعويض المتضررين خاصة الذين قتلتهم الأذرع الأمنية، فالظلم ممنوع في ظل ثورة إسلامية تتغذى من فكر الإسلام السمح ،وتعتمد قاعدته الذهبية ،بأن لا فرق بين مسلم ،ومسلم إلا بالتقوى، وأن الناس كأسنان المشط ،وإن لم يطرح ذلك تماما لكنه عناه، وكأنه يعلن مجدداً بأن عمليات القمع مرفوضة بالمبدأ والأصل. أكد على ضرورة إعادة اللحمة، وإقامة الحوار ،وتنفيذ القانون وإعادة النظر في بعض القوانين لاحقاً أكد على حرية الإعلام ،ورفع القيود عنه ،وأشار إلى عدم نزاهة مؤسسة الإعلام الرسمي خلال الحملة الانتخابية. أشار إلى الممارسات القمعية ،والبعيدة عن منهج ،ومبادئ الثورة الخمينية ،ونص ،وروح الدستور، فمن هنا كانت رسالته أشمل من خطبة خامنئي ،ودلل على أنه رجل دين، ورجل دولة ،وأنه وطني ،وقومي بقدر ما هو سياسي ،هو رجل دين ،وبقدر ما هو رجل دين ،هو رجل سياسة ،محنك ،حاذق ،داهية ،ويعرف مفاصل النظام ،ورجالاته ،ويعرف أين نجحت الثورة ،وأين أخفقت ،وقال إن الثقة الشعبية بالثورة قد ضعفت ،واهتزت ،فلا ثورة ،ولا سلطة دون رضى الشعب. إذن رفسنجاني ،ومن خلال مديحه لخميني، وحقبته ،وإشاراته إلى السلبيات القائمة الآن ،حمل فيها المرشد الولي الفقيه ،وكيل الامام الغائب المهدي المنتظر، أمير المؤمنين ،الناطق بالحق ،الحاكم بالقسط ،الإمام المعصوم آية الله علي خامنئي المسؤولية الأولى عن انحراف الثورة عن مسارها الأول ،وهذا ما قاله بشكل واضح ،وصرح بأن الاستمرار بهذا النهج ،وضع الثورة في مأزق ،وفي اتجاه آخر لكنه قال لكل مشكلة هناك حل ،ولكن بالحوار ،وضمن الدستور، والقانون. نار وبارود صحيح أن عدد الحضور لم يكن كبيراً قياساً إلى ما عرف سابقا عن خطب الجمعة الرفسنجانية ، إلا أن ذلك نتج عن عدم تقديم السلطات الرسمية التسهيلات المتعارف عليها في خطب الجمعة، لتسهيل حضور المصلين من كل حدب وصوب، حيث تم تقليص عدد وسائط النقل العامة ، وكان هناك على ما يبدو منع وحظر مشاركة وحضور خطبة صلاة الجمعة هذه على أنصار خامنئي ،ونجاد ومن يسير في فلكهما . انتشار كثيف لقوات الأمن ،والباسيج ،وعناصر وزارة المخابرات منذ الصباح الباكر في الشوارع المحيطة، والمؤدية إلى جامعة طهران ،وفرض إجراءات أمنية صارمة. قيام النظام بمنح الجنود إجازة لمدة يومين ،وإحضارهم بحافلات ،لحضور خطبة الجمعة ،وملئ المكان بهم لملء الفراغ أمام الإصلاحيين، وكان ذلك ملحوظاً . ساعدت طائرات الهليكوبتر المنتشرة في أجواء طهران، في إطار الإجراءات الأمنية الاحترازية ،في تحديد أمكان ،ونقاط التجمعات، لتسهيل تطويقها ،وقمعها مما أسفر عن اشتباكات ،ووقوع عشرات الجرحى ،ومئات المعتقلين. تعطيل التغطية الشبكية للهواتف المحمولة. لم يخيب رفسنجاني ظن المتظاهرين به ، واستوعب تماما العبارات، التي رددها متظاهرون خلال وصوله الى جامعة طهران (هاشمي، هاشمي إذا صمت فانك خائن) و (الحرية للمعتقلين )و(الموت لخامنئي الغاصب). كان لدوي هتافات (الله أكبر الموت للديكتاتور ) من أسطح البيوت في طهران ، الأثر في تحريك جموع الشباب الغاضب، للنزول إلى الشوارع ،وبكثافة . المثير للاهتمام هو حضوراللواء محسن رضائي وناطق نوري . من الوجوه البارزة التي حضرت خطبة الجمعة (كروبي موسوي حسن روحاني إمامي كاشاني ) كان هذا الحضور يدل على قبول خطاب رفسنجاني، وترجيح كفته ،وإعلان صامت عن رفض خطبة خامنئي وتأييده المطلق لنجاد . حمل بعض المصلين صور خامنئي، والخميني ،وزرعت عناصر الباسيج، والمخابرات ،والحرس الثوري ، وهذه مظاهر غير متعارف عليها في صلاة الجمعة، فبدت واضحة، بأنها استفزاز وتحد واضحين للآخرين ،وفي صحن الجامع الذي له حرمته . لم يكتف أنصار خامنئي من الباسيج ،والمتشددين برفع الصور بل قاطعوا خطبة رفسنجاني مراراً وتكراراً، وكان الجواب من رفسنجاني ليس بالشعارات وحدها تحيا الثورة . الاعتداء على كروبي والإطاحة بعمامته ،وضرب أنصار موسوي ،والإصلاحيين في حرم الجامعة والشوارع المحيطة بها، واستخدام الرصاص ،والغاز المسيل للدموع ،والضرب ،والتحقير، والاعتقال كل ذلك ظهّر مشهد الصراع ،أن هناك طرفان في النزاع، علماً أنهم يرفعون شعار الثورة الإسلامية، ويتمثلون في مؤسسها وبانيها الخميني. التعتيم الإعلامي ،ومنع ممثلي وسائل الإعلام الخارجية، والأجنبية من تغطية الخطبة ،وتعامل الإعلام الرسمي مع الخطبة بالتهميش، حيث كانت كاميرات مؤسسة الإذاعة والتلفزيون موجودة ،وصوّرت مباشرة الخطبة إلى مقر مؤسسة الإذاعة والتلفزيون، لكن كان هناك توجّه رسمي بعدم بثها على القنوات التلفزيونية الرسمية ،وحصر البث عبر الإذاعة وتم التشويش عليه أيضاً. من يطفئ النار ؟ من خلال ما سبق ،ومن خلال الخطبتين المتباينتين، يتضح أن الأولى التي تمثل السلطة المتحكمة، والثانية تمثل الاحتجاج إن لم نقل الدعوة إلى التغيير ،وتبني حركة تصحيحية تعيد للثورة وهجها ،وتضع مبادئها حيز التطبيق . و لا يخفى على مراقب ومهتم بالوضع الإيراني ممارسة نجاد لسياسة عزل، و تهميش بعض الشخصيات ،وتعيين أخرى ، قبيل تسلمه رسمياً مهام منصبه كرئيس للبلاد. رفسنجاني لم يدع إلى ثورة ،بل إلى الحوار بين الأطراف السياسية المتنازعة ،وقد تكون دعوة الحوار هذه مفتوحة، و تشمل أكثر من الأطراف الداخلية ،ليتسع نطاقها لتشمل الحالة الوطنية بما فيها المعارضة، وربما يكون نداءه للحوار ،والتضامن ،والاحتكام إلى أخلاق الإسلام ،والخضوع لنصوص الدستور، وسائل إطفاء لنار متقدة، لا يعرف أحد حدودها وأبعادها . ومن مجمل كلامه يتبين أنه أراد سحب البساط من تحت أقدام نجاد ،وسياساته ،ويؤشّر بالقلم العريض على جنوح ،ووقوف الولي الفقيه ،لحساب طرف على حساب الشعب، الذي هو صاحب الثورة ،وحاميها وضامن مستقبلها، ويمكن القول أيضاً أن رفسنجاني بموقفه التاريخي هذا أراد ضرب عصفورين بحجر واحد الأول التمهيد لعزل المرشد ،والإطاحة بنجاد ،والثاني تزعم جبهة الانتفاضة عملاً بمبدأ (الثورة يفكر بها ،ويخطط لها المثقفون ،وينفذها الثوريون ،ويقطف ثمارها المحترفون). *إعلامي عربي سوري باريس [email protected]