عرضنا في المقال السابق ل"العوامل الموضوعية" في ما أسميناه "ظاهرة أوباما". وألمحنا في نهاية المقال إلى أن الحديث في المقال التالي -مقال اليوم- سيكون موضوعه "العوامل الذاتية" في الظاهرة نفسها. وهنا لابد أن نؤكد مرة أخرى أن الفصل بين ما هو ذاتي وما هو موضوعي في الظواهر الإنسانية هو فصل منهجي أكثر منه تعبيراً عن واقع. وإذا كان المحلل النفساني يركز على ما هو ذاتي في حال الشخص الذي يحلل حالته، فإنه لا يغفل، ولا ينبغي له أن يغفل، تاريخ الحالة التي هو بصددها ولا علاقتها بأحوال أخرى مزامنة أو متقدمة. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى إن القول الذي يتحرك على المستور الثقافي أساساً، لا يتقيد، ولا ينبغي له أن يتقيد، بالمستوى السياسي ويجعل من حدوده -وهل هناك حدود له بيّنة؟- خطوطاً حمراء. إن السياسي والثقافي في المجال الإنساني، متضايفان، متكاملان ومتدافعان في الوقت نفسه. والذي يصنع العلاقة بينهما ويجعلها على هذه الشاكلة أو تلك ليس الشخص موضوع الدراسة والتحليل، أعني رأيه في نفسه، بل رأي القارئ المحلل لتجربته. والقارئ لظاهرة ما لا يملك حصر رؤيته في "الحدود" التي تحوط بها: إن تداعي المعاني، وما يعبر عنه بالأشباه والنظائر وما أشبه، تعمل على توسيع تلك الحدود وتمطيطها، وتقدم نفسها كنماذج وأمثلة إذا أخذت على المستوى الصوري البحت، أعني دون مضامينها الأيديولوجية، وظهرت كنسخة مطابقة للظاهرة المدروسة، الشيء الذي يفقد هذه فرادتها ويخرجها من مجال "النفسي" إلى مجال "الاجتماعي"، من "الذاتي" إلى "الموضوعي". أقول هذا لأني وجدت نفسي عندما شرعت في التفكير في موضوع هذا المقال (قبل يومين من نشره) مشدوداً -تحت تأثير تداعي المعاني في التعامل مع أشياء الحاضر، وتداعي الذكريات في التعامل مع أشياء الماضي- مشدوداً إلى مقارنة ظاهرة بأخرى وخطاب بآخر، والمنطلق: "أوباما" الظاهرة و"أوباما" الخطاب، خطابه في القاهرة. قد تبدو هذه المقارنة المزدوجة، لبعض القراء، غير مشروعة، غير تاريخية، وهذا مفهوم إذا هم حبسوا رؤيتهم داخل "حدود" الجانب السياسي/ الأيديولوجي، أي حدود "المباشر"، لكننا عندما نتجاوز هذه "الحدود" وهي مؤقتة بطبيعتها، فإننا سنرى "الماضي أشبه بالآتي، من الماء بالماء"، كما يقول ابن خلدون. فعلا، نحن نرى هنا الماضي أي "انتخاب أوباما" أشبه ب"لآتي" -الذي أتى- وهو "انتخاب محمود أحمدي نجاد". ذلك لأننا إذا وضعنا بين "قوسين" الجانب المذهبي الأيديولوجي في شخصية كل منهما ووضعنا داخل "القوسين" أيضاً نفس الجانب فينا كقارئين، فإن ما سيبقى لدينا هو الجانب الموضوعي/ التاريخي في تجربة كل من الرجلين: الرجلان كلاهما من نتاج ظاهرة اجتماعية اقتصادية عامة أصبحت تقدم نفسها بوضوح في عصر العولمة: ظاهرة تتلخص في وجود هوة سحيقة عريضة بين فئتين في المجتمع: الفئة التي يتكون منها رأس الهرم الاجتماعي، والفئة التي تشكل قاعدته: الأولى قوامها أصحاب الثروة والمنزلة والكلمة والسلطة، والثانية مادتها أصناف من الذين يعانون من الفقر والتهميش وفقدان أي اعتبار. في الولاياتالمتحدة استطاع أوباما الذي ينتمي أصلا إلى الفئة الثانية، أن يتنقل بمجهوده الخاص ليصل إلى وضعية تمكنه من طرح نفسه كمرشح للحزب "الديمقراطي" للرئاسة، كما استطاع أن يجند لفائدته وسائل العولمة (الإنترنت)، كما تمارسها في بلد صناعي متقدم، جماهير واسعة من الفئة التي ينتمي إليها أصلا والتي ترى فيه صورتها على مرآة الأمل والطموح... وفي إيران حصل الشيء نفسه: محمود أحمدي نجاد الذي ينتمي إلى فئة الفقراء المهمشين استطاع بمجهوده الخاص أن يتنقل، في مجال التعليم، وفي قواعد الثورة الإيرانية، وفي مجال السلطة، إلى أن صار أمين العاصمة طهران، وبالتالي مؤهلا للترشيح لانتخابات رئاسة الجمهورية باسم "حزب" المحافظين الذين يرأسهم "رمزياً" إن لم يكن عملياً، المتوج بتاج "المرشد الأعلى". وكما استطاع أوباما أن يجند لفائدته وسائل اتصال العولمة كما تستعمل في بلده استطاع نجاد أن يعبئ الفئة التي ينتمي إليها، تعبئة وطنية (ضد الآخر الداخلي والخارجي)، ضارباً على الوترين الحساسين: وتر العزة القومية، ووتر الحقد على الأثرياء "الفاسدين الذين تخلوا عن الشعب وانضموا لعالم المترفين"، مستفيداً في ذلك من وسائل الإعلام العولمي كما توظف في بلد "غير متقدم"، ومن مظلة "المرشد الأعلى". والرجلان كلاهما محكومان بأمر خارج عن إرادتهما، وهو المحافظة على الوضع القائم، داخل حدوده الحمراء. من ذلك مثلا، ومثلا فقط، أن أوباما لا يستطيع محاكمة ولا مساءلة "المحافظين الجدد" على ما اقترفوه من أخطاء سواء في السياسة الداخلية أو الخارجية، كما أن "نجاد" لا يستطيع أن يحاكم زعماء "الإصلاحيين" الذين اتهمهم، على أمواج الإذاعة والتلفزة، بالفساد والتلاعب بأموال الدولة... الخ. هذا باختصار عن المقارنة بين "الظاهرتين": ظاهرة أوباما وظاهرة نجاد. نعم، أنا أعرف جيداً أن "المقارنة ليست حجة" كما يقول المثل الفرنسي "Comparaison n?est pas raison"، ولكن مع ذلك فهي ضرورية للخروج من شرنقة التفكير من خلال بُعد واحد، ومن داخل فكر وحيد! أما الخطاب الذي قرر أوباما إلقاءه في القاهرة تخصيصاً، لما لها من مكانة عالية في العالم الإسلامي، عملية أحياناً ورمزية أحياناً أخرى، مادّاً يد المصالحة مع الإسلام والمسلمين، واعداً بإنصافهم وتفهّم قضاياهم وعلى رأسها قضية فلسطين، وأيضاً متوعداً "المتطرفين" منهم... الخ، هذا الخطاب الذي سنعود لتحليله، سأكتفي الآن بالتذكير بخطاب آخر (على صورة منشور)، خطاب قديم يفرض عليّ نفسه كأحد "الأشباه والنظائر" التي تقدم نفسها للمقارنة معه، على الصعيد "الصوري" على الأقل. يقول الخطاب/ المنشور: "بسم الله الرحمن الرحيم. لا إله إلا الله، ولا ولداً له، ولا شريك بملكه... يا أيها المصريين: قد يقولون لكم إنني ما نزلت في هذا الطرف إلا بقصد إزالة دينكم فذلك كذب صريح... فلا تصدقوه وقولوا للمفترين إنني ما قدمت إليكم إلا لكيما أخلص حقكم من يد الظالمين وإنني أكثر، من المماليك، أعبد الله سبحانه وتعالى وأحترم نبيه محمدا والقرآن العظيم، وقولوا لهم أيضاً إن جميع الناس متساوون عند الله وأن الشيء الذي يفرقهم من بعضهم فهو العقل والفضائل والعلوم فقط... ولكن رب العالمين هو رؤوف وعادل على البشر. بعونه تعالى، من اليوم فصاعداً، لا يُستثنى أحد من أهالي مصر عن الدخول في المناصب السامية وعن اكتساب المراتب العالية...". تلك فقرات من "المنشور/ الخطاب الذي وزعه نابليون على المصريين عند حملته على مصر، الحملة التي كانت فريدة من نوعها: تضم العلم والعلماء وتبشر بالحرية والتقدم، كما تضم السلاح والعسكر وتدشن لمرحلة من الاستعمار لم يشهد التاريخ لها مثيلا. لقد ملأت هذه الحملة، العلمية العسكرية الاستعمارية، نفوس المصريين ومعظم العرب بنوع من التناقض الوجداني إزاء أوروبا. فريق رأى حقيقتها في علمها وحضارتها، وفريق رأى جوهرها في الاحتلال والاستعمار. وبينما وقف الفريق الأول مندهشاً، يتلمس أسباب التقدم والنهضة، هب الفريق الثاني للدفاع عن الوطن والهوية والتراث. موقفان من حملة نابليون نقرأ اليوم ونسمع، أمثالا لهما ونظائر في العالم العربي خاصة. فما أشبه اليوم بالأمس، ولكن "صورياً فقط"! وأحسب أن الناس عندنا أكثر استعداداً للتعامل مع الأحداث "صورياً"... أما التعامل "الموضوعي" فشأنه شأن آخر. عن «الاتحاد» الإماراتية