منذ أن انتُخِب باراك أوباما رئيسا للولايات المتحدةالأمريكية وفكرةُ كتابة مقال عنه تراودني من حين لآخر. وكلما حاولت اتخاذ قرار في الموضوع تحضر في ذهني مقالاتٌ كنت كتبتها عن الرئيس السابق بوش الابن في مطلع سنة 2003، منذ العدد الأول من ظهور هذه الصفحات المميزة "وجهات نظر". وكانت المقالات الأولى، التي نشرت ابتداء من 21-02-2003 تربط بين ثلاثة أحداث: الأول: الحدث المرعب الذي فاجأ العالم قبل ذلك بسنة وخمسة أشهر، أعني 11 شتنبر 2001 . الثاني: إعلان الرئيس بوش على إثر ذلك الحدث عن قراره بشن حرب على الإرهاب. أما الحدث الثالث فهو دخول القرن الحادي والعشرين وما خصص له من تعليقات وتوقعات وتنبؤات. وهذه الأحداث التي استمرت تتزاحم في ذهني كلما خطر ببالي أن أكتب مقالا عن انتخاب أوباما رئيساً للولايات المتحدة جعلتني أؤجل تنفيذ الفكرة إلى أن يغتني الموضوع بما يسمح بإبداء رأي لا يتحدد ببعد واحد... وأعتقد الآن أن خطابه في القاهرة وما سبقه وتلاه من إشارات ومواقف تمدنا بأبعاد أخرى للموضوع تمكن من تجاوز ردود الفعل السياسية إلى رصد ملامح "الفعل التاريخي" الذي يؤطر هذا الخطاب، وبالتالي وضع ما أسميه الآن ب"ظاهرة أوباما" في سياقها التاريخي. وأنا هنا، لا أريد أن أسقط "ردود الفعل السياسية من الحساب" ولكنني أريد أن أتعامل معها من منظور تاريخي. ولتوضيح هذا المنظور ، أستسمح القارئ باستعادة فقرات من المقال الثالث في سلسلة المقالات المشار إليها أعلاه وكان بتاريخ 16/12/2003 وعنوانه "الفجر الكاذب...". قلت آنذاك: «يبدو لي أن وضعنا نحن اليوم أشبه شيء بموقف الإنسان مع "الفجر الكاذب". ذلك أن كثيراً من الناس قد هللوا لهذا القرن -الحادي والعشرين- بمجرد ما "صاح" بوش الأب مناديا ب"النظام العالمي الجديد"، معلناً عن "نهاية الحرب الباردة". وقد تلت ذلك "أصوات -هناك- تبشر ب"نهاية التاريخ" وب"الحرب الاجتماعية الحضارية مع الإسلام" وب"صدام الحضارات"... الخ، بينما رددت أصوات هنا شعار العولمة منادية بضرورة "ركوب قطارها"... وفي وسط هذه وتلك برز صوت بوش الابن الذي "صاح"، مبشراً ومنذراً، ب"الحرب ضد الإرهاب"! وفي مقابل هذه الأصوات كانت هناك أصوات أخرى تعلن أن "الصحوة الإسلامية " -التي بلغ التبشير بها أوجه مع طرد الروس من أفغانستان- قد بلغت قصدها، وأن إعلان "الجهاد" قد آن أوانه، فألقت بأيديها فيما يشبه "التهلكة". وبما أن "الفجر الكاذب"، كاذب في الجهتين معاً، فقد اعتقد الطرف الأول، المنادي بضرورة خوض "الحرب على الإرهاب"، بأن الفرصة قد حانت ل"إهلاك" هذا الخصم الوليد "المتنكر"، "المتمرد"، فألقى بنفسه هو الآخر في مستنقع "التهلكة"، في أفغانستان. وكنت قد أضفت قائلا: "وأمام هذه الحماقة المزدوجة ألا يحق لنا أن نتساءل: كيف حصل أن سقط الطرفان في وهم "الفجر الكاذب"؟ موضحاً أن "أهمية هذا السؤال، بل ضرورته، ترجع ليس فقط إلى أن الأمر جدير بالتدبر فعلا، بل أيضاً لأن العرب والمسلمين وكثيرين غيرهم، واقعون إزاء هذا الذي جرى ويجري، في نوع من التناقض الوجداني، خفيف أو حاد! ذلك أنهم لم يكونوا قادرين على رؤية الحق، رؤية واضحة، وبالتالي بقوا عاجزين عن إدانة هذا الطرف أو ذاك إدانة كاملة. والسبب في هذه الحيرة، هو أن غياب البحث عن الأسباب يجعل اللامعقول وحده سيد الموقف" ! كان ذلك عام 2003، والسؤال الآن: ماذا حدث بعد ذلك؟ يمكننا، بادئ ذي بدء، تسجيل الملاحظات التالية: 1 - كانت السنوات الثماني التي قضاها بوش الابن حاكماً بأمره - أو بأمر جماعته لا فرق- تكرر مسيرة "السنين السبع العجاف" على الولاياتالمتحدةالأمريكية: تدهور في الاقتصاد انتهى بأزمة بنيوية طالت العالم الرأسمالي العولمي كله، وما زال جل الخبراء الاقتصاديين يتمسكون ب"الشك" في إمكانية تجاوزها على المدى القريب والمتوسط، ويبقى المدى البعيد في عالم الغيب. 2 - تيه الجيش الأمريكي وحلفائه في جبال أفغانستان وحدودها مع باكستان، وإضرار كبير وخطير بباكستان، إلى الدرجة التي أصبح السلاح النووي فيها مهدَّداً بالسقوط في أيدي الطرف الذي تخوض ضده أمريكا، والغرب كله، "الحرب على الإرهاب". 3 - فضيحة عالمية، تاريخية، تمثلت - وما تزال- في انكشاف ذلك الكذب/ البهتان الذي برر به بوش وعصابته غزو العراق، الغزو الذي سرعان ما انكشف أنه لا يهدف إلى التأكد من وجود أو عدم وجود أسلحة الدمار الشامل، ولا حتى إلى مجرد الإطاحة بالحكم الفردي، بل هدفه كان كما أثبت ذلك غزوه: تدمير العراق كشعب ودولة وبنيات تحتية وفوقية، بهدف السيطرة والتحكم في النفط الذي في جوفه، الشيء الذي "سيضمن" الحياة للولايات المتحدة، أعني لشركاتها البترولية، وغير البترولية، التي لبوش وزمرته فيها نصيب. وكان حلماً أدت ميزانية الولاياتالمتحدة ثمنه باهظاً، لينتهي الأمر بها إلى تراكم العجز في ميزانيتها بصورة تهدد بالإفلاس. 4 - وقد ترتب عن ذلك كله نزول سمعة الولاياتالمتحدة دولياً إلى الحضيض، وانكشاف "حلم مجتمع الرفاه" فيها عن كابوس يجثم على الأغلبية من الشعب الأمريكي الذي أخذ يعي أنه "مسحوق" يعاني ليس على مستوى المسكن بل وعلى مستوى الخبز أيضاً... هذه النتائج التي أخذت تبرز بشكل واضح منذ ابتداء ولاية بوش الثانية هي الأسباب الموضوعية التي تقف وراء انتخاب أوباما، رئيساً للولايات المتحدة، رئيساً بديلا لبوش وما صار يرمز إليه في وعي الشعب الأمريكي. لكنّ هناك عاملا خامساً، يقع بين الذاتي والموضوعي، لابد من أخذه في الحسبان. 5 - كان أول ما أثار اندهاش العالم عند انتخاب أوباما هو كون الشعب الأمريكي انتخب رجلا أسود رئيساً له. والسود كانوا كغيرهم من العرقيات غير الأوروبية أقرب إلى وضعية "المواطن الثاني". والحق أنني، شخصياً، لم أفاجأ بهذا التحول. لقد قرأت فيه إحدى النتائج الجدلية للعلاقة بين "السيد والتابع" . ذلك أن الناس عادة لا يرون ما يثوي تحت هذه العلاقة، بل يرون، في الأعم الغالب، إما السيد ( كمنزلة يتحقق فيها الطموح) وإما التابع (كوضعية يشكل الخنوع كل مقوماتها). أما العلاقة الجدلية التي تجعل التابع ضرورياً للسيد، والسيد ضرورياً للتابع فنادراً ما تحظى بالاهتمام ( السيد يحتاج إلى التابع إذ بدونه لا يكون سيداً، والتابع يحتاج إلى السيد لأنه بدونه يفقد مقومات الوجود أو يتصور ذلك). في المجتمع الأمريكي حيث تحول التابعون إلى أحرار يشكلون قوة انتخابية لجأ "الجمهوريون" على عهد بوش إلى استعمال هذه الورقة، فكان تعيين كولن باول وزيراً للدفاع - وهو منصب يجعل صاحبه أقرب إلى أن يكون الشخصية الثانية بعد الرئيس. وعندما اكتشف كولن باول أنه استعمل في الحرب على العراق، استعمالا مشوباً للسيد، اعتزل إدارة بوش، فكان أن عوضه هذا الأخير بكوندوليزا رايس في منصب وزير الخارجية الذي يوازن منصب وزير الدفاع. لقد فتح الباب إذن -باب المنصب الثاني بعد الرئيس- أمام السود، لا لسواد عيونهم، بل لكسب أصواتهم ( ويجب أن نتذكر أن فوز بوش بالرئاسة كان بحفنة من الأصوات مشكوك فيها). وهنا لعب مفهوم "مكر التاريخ" دوره التاريخي. إن "السيد" الذي أراد أن يصعد على كتفي "التابع" قد هوى لأن هذا الأخير حرك كتفيه. وهكذا فإذا كان السيد قد قبل - قبولا انتهازياً- أن يكون التابع حاضراً في قمة الدولة بمنصب وزير الدفاع ووزير الخارجية، فكيف يجوز له أن يمتنع عن قبوله رئيساً محوطاً ب"أسياد" يكونون تحت تصرفه أو يكون هو تحت تصرفهم، وذلك حسب قدرته على ممارسة "السيادة". هنا، مع مسألة "القدرة على ممارسة السيادة"، نطرق باب العوامل الذاتية في "ظاهرة أوباما" . عن «الاتحاد» الإماراتية وثمة قراءة في الخطاب النجادي تريد أن ترى فيه عمقاً واستراتيجية بعيدة المدى، وهو أمر مشكوك في وجوده مسبقاً، وعلى أكثر تقدير يكون قد ألحق تالياً بعد أن تكرس ذلك الخطاب لفظياً. وتقول هذه القراءة إن رفع السقف مع إسرائيل ولو لفظياً يعني موقفاً تفاوضياً أقوى عندما تأتي اللحظة الحقيقية، وهي، للمفارقة، لحظة تفاوضية مع الغرب ومن ورائه إسرائيل، وليست لحظة حربية! وفي قلب التفاوض الغربي- الإيراني تكمن مجموعة من المصالح القومية الإيرانية التي لها علاقة بنفوذ إيران الإقليمي، وموقعها، وعدم التحرّش الغربي بنظامها. ومن حق إيران بطبيعة الحال أن تحاول، كأي دولة أخرى، أن تعزز موقعها وتدافع عن مصالحها. وأن تستخدم في ذلك ما تريد أن تستخدمه من مسوغات وشعارات. لكن هذا ليس مسوغاً لأي انجراف فلسطيني وعربي وراء تسيس إقليمي تقوده إيران يستهدف تحقيق مصالح إيرانية قومية. بيد أن سياسة رفع السقف الشعاراتي والبلاغي النجادية قادت إلى كوارث سياسية، وربما ستقود إلى كوارث حربية أيضاً. وأولى هذه الكوارث أن إسرائيل التقطت الخطاب النجادي وبرْوزته كخطر وجودي عليها يريد تنفيذ هولوكوست آخر ضد اليهود وهذه المرة في المنطقة. والاستخدام الإسرائيلي لفزاعة الخطر الإيراني مُبالغ فيه بشكل جارف، والقصد الاستراتيجي والأهم من استخدامه هو تحويل الاهتمام عن عنصرية وبشاعة الاحتلال الإسرائيلي، وتهميش القضية الفلسطينية. وعلى رغم اتساع الإدراك العام لأهداف إسرائيل الحقيقية من وراء تضخيم الخطر الإيراني، إلا أن تواصل التهديدات النجادية، والتصريحات الجوفاء، بمناسبة أو بدونها حول محو إسرائيل وإنكار المحرقة كان يشبع نهم السياسة الإسرائيلية الباحثة دوماً عن "تهديدات وجودية" لتتذرع بها لمواصلة احتلالاتها وعنصرياتها. وبعد عدة سنوات من النجادية الإقليمية، فإن الخلاصة التي نراها الآن هي نجاح إسرائيلي في فرض "قضية إيران" على رأس الأجندة الإقليمية والدولية، عوضاً عن فلسطين. ومقابل الشعار المرتفع الذي يريد تحقيق مصالح استراتيجية تفاوضية فإن جوهر الموقف الإيراني إزاء الصراع الإسرائيلي/ الفلسطيني لا يتعدى ما أعلنه أكثر من مسؤول إيراني من أن طهران "تقبل ما يقبل به الفلسطينيون". وبمعنى آخر، براغماتي وصريح، فإن السياسة القومية الإيرانية التي بوصلتها مصلحة إيران، ليس في مصلحتها على الإطلاق خوض صراع حقيقي أو عسكري مع إسرائيل. ولن تغلي طهران غضباً إذا ما تم التوصل إلى تسوية إسرائيلية- فلسطينية أخفض من سقف "محو إسرائيل من الخريطة". بل ستقبل ما يقبل به الفلسطينيون. فإذا كان الأمر كذلك فلماذا إذا مواصلة دفع الشعار إلى الحافة، وإغواء جانب كبير من الفلسطينيين للحاق به، جرياً على عادة اللحاق بخطابات شعاراتية سابقة من دول وزعماء استخدموا قضية فلسطين لغايات تعزيز ديكتاتورياتهم وقمع شعوبهم أكثر من أي شيء آخر. والأثر الذي تركه ويتركه الخطاب النجادي على الفلسطينيين هو ثاني كوارث هذا الخطاب. فعلى خلفية الإحباطات المتفاقمة، والفشل الممتد عدة عقود، والتخاذل العربي والإسلامي في إيقاف المشروع الصهيوني، وكذا فشل مشروع التسوية "الأوسلوي"، يتم التعلق بأي بصيص أمل والتشبث به. والمشكلة هنا أن التعلق بسقف الشعار الإيراني ينتقل بمناصريه والمعجبين به إلى ذرى تحليقية عالية لا علاقة لها بالواقع الذي يسير حثيثاً في اتجاه آخر مدمر. وبلغة أخرى، يتواصل الخطاب الإيراني النجادي في إنتاج من يشبع الرغبات والأحلام ويحشد خلفه الحشود، وفي الوقت نفسه تتواصل جوانب الاحتلال الإسرائيلي العنصرية والاستيطانية في الترسخ سنة إثر سنة. ومرة أخرى، يوفر ذلك الخطاب لإسرائيل المظلة السياسية الذهبية كي تستمر في استراتيجيات الضم والاحتلال على أرض الواقع، بينما تستعطف العالم دبلوماسياً ودولياً لمساندتها خشية "الخطر الإيراني الماحق" على وجودها. وفي سنوات النجادية تواصل الاستيطان الإسرائيلي بوتائر مخيفة، وتضاعف تهويد القدس ومحاولات القضاء على هويتها العربية والإسلامية، وترسخ وامتد جدار الفصل العنصري، وتدهورت أوضاع الفلسطينيين داخلياً وحدث انشقاق رأسي في السياسة والجغرافيا لم يحدث في أي مرحلة سابقة في تاريخ الفلسطينيين، وتفاقمت مستويات الفقر والبطالة والاقتصاد، وسوى ذلك كثير. وهذه بعض الجوانب العملية التي حدثت ولاتزال تحدث على الأرض في الوقت نفسه الذي تعلو فيه نبرة النجادية تهدد وتتوعد. فماذا فعلت النجادية عملياً وعلى أرض الواقع لتوقف التدهور، أو على الأقل لتقلل من وتيرته؟ لإيران القومية أن تقول إنها لن تكون فلسطينية أكثر من الفلسطينيين، أو أن تقبل مسؤولية أكثر من المسؤولية المنخفضة المستوى التي تقبل بها أي دولة عربية أو مسلمة أخرى تجاه فلسطين والفلسطينيين. ولهذا فليس من المشروع والمنطقي مطالبتها بسياسات عملية توقف ترسخ الاحتلال الإسرائيلي وتدهور الوضع الفلسطيني. لكن إيران هي التي تتصدى، شعاراتياً، لما هو أعلى بكثير من هذه المطالب العملية، فتصبح إيران النجادية، لفظياً ورطانة، أكثر فلسطينية من الفلسطينيين. ولا ينعكس هذا الادعاء إلا بالضرر وليس بالفائدة لهم. سيقول قائل هنا، لكن فوز نجاد سيكون في صالح "قوى الممانعة والمقاومة" وأنه من حق "حماس" و"حزب الله" أن يرحبا بفوزه بكونه هكذا. بيد أننا نعلم أن إيران خاتمي كانت داعمة أيضاً ل"حماس" و"حزب الله"، وأن إيران موسوي كانت ستكون داعمة لهما أيضاً. وما هو مهم في ذلك كله كان ومازال التخلي عن الخطابات الجوفاء التي توفر عتاداً جاهزاً لماكينة الاحتلال الإسرائيلي. وبقاء هذا العتاد بفوز نجاد استقبلته أصوات إسرائيلية بغبطة وفرك الأيادي، كما نقلت الصحافة الإسرائيلية. (*) دكتوراه في العلاقات الدولية من جامعة كامبردج, ومدير مشروع الإعلام العربي في مركز الدراسات الشرق أوسطية والإسلامية فيها * مؤلف كتاب "حماس: الفكر والممارسة السياسية". يكتب في دوريات عالمية عن الشؤون الراهنة مثل العرب والعولمة، الديموقراطية، الإسلام السياسي، والصراع العربي الإسرائيلي.