1 بماذا يمكنك أن تحدثنا عن صباح مدينتك؟ هكذا سألني أصدقاء ينتمون إلى فعاليات ثقافية جمعوية، يحركهم دافع اكتشاف تفاعل الشعر مع الزمن، من وجهة نظر أجيال تترى، فات اللاحق منها أن يعرف رأي السابق عليه، وكيف تصور حركة الزمان ، وتعاقب الأوقات والساعات، وكر الليالي والأيام ، ومن منطلق الحرص على تسجيل دقائق وجهات النظر، قولا وعملا، لدى فاعلين من رواد الفكر بينها وأصحاب القلم، وما يجتمعون حوله، وما يختلفون عليه. فهل يمكن أن يكون للصباح مفهوم آخر غير زمني، حتى في إيحاءاته المجازية ودلالاته الرمزية؟ وهل يمكن ان نفهم ما هو الزمان في انفصال عن المكان؟ لو كان ذلك ممكنا، لجاءت صيغة هذا السؤال مثلا،بدون تعريف للصباح المطلوب بإضافته إلى مدينة معينة، والتعريف بالإضافة أقوى التعريفات ، واسمحوا لي أن أقول إن ما تملكه كلمة الصباح من سحر لا يكاد يشبهه إلا سحر البيان المجلوب بشعرية تراسل الحواس وأنسنة الكائنات عامة، وفعله في النفوس المتعطشة فعل الماء في التربة التي تستجيب لكل غيث وإرواء،والنفس تضعف أمام كل ما يشتدّ ويقوى: نورا كان أم ظلاما؟ وضعفها أمام النور أشد، إذ تستكين بسبب من ذلك إذا انتهى ليل الغموض بها إلى صباح الكشف ، أو انجلت ظلمات التيه والجهل عنها بأضواء المعرفة في جمال الحرف .ولي مع صباح مدينتي شفشاون مواقف وحالات ، فليس صباحها نفس الصباح، باختلاف الفصول والسنوات، وباختلاف نظر الطفل واليافع، ورؤية الطالب الشاب الذي كنته، أو الأستاذ الشيخ الذي أنا عليه، فليس صحيحا أن للمكان نفس التأثير النفسي والاجتماعي والثقافي، في كل الأحوال، ذلك أن المدينة ليست إلا شبكة من العلاقات قد تتقوى، حتى لا يستطيع المرء أن بتصور نفسه بعيدا عنها، وقد تسوء ضغوط تلك العلاقات، فلا يجد في غير الفرار منجاة له من أعبائها على الروح والبدن . الصباح في الذاكرة دائما أجمل، وإن كانت ذاكرتي أنا خريفية، وقد أعجبتني دائما جموع صغار التلاميذ في صباحات أكتوبر وهي تحث الخطى، في ثياب بيض إلى رحاب المعرفة ، كأسراب طيور ، تندفع لتكرع في نهم من عيون تقية، و وينابيع دافقة أحيانا، ووفي خوف من العقوبة أحيانا أخرى، ليصبح الهروب من صفوف الدرس متعة ، بسبب ما يوفره الانزياح القصير أو المؤقت، من إمكان تأمل حركات البشر والأشياء، بعيدا عن أجواء الأقسام الدراسية، التي تحولها ممارسات بعض المعلمين إلى مجرد (أقفاص) تضج رتابة، وتضيق سأما، فتحد من انطلاق الأجساد الصغيرة في حرية عبر فضاءات المدينة، لاكتشاف معالمها في أضواء أول الضحى الباهرة، وهي مشاهد تفقد سحر ألوانها إذا حان وقت الخروج عند الزوال، بل وتتغير حتى سحنات الناس وتغْبرُّ ألوان الأشجار، وتختفي من ثم أصوات الأطيار ، ويعلو غبار وصياحٌ وصخب، يختلط ما تهدر به جميعا، مع اشتداد جوع الصغار، الذين تفقد الأشياء جاذبيتها بالنسبة إليهم، فيُهرعون صوب بيوتهم ، مذكرين آباءهم بأحد أهم واجبات منتصف اليوم، فتخلو الطرقات أو تكاد، وينسى ما كان من ميلاد الضوء في ساح النهار، في كل زاوية ودار. وفد تفتننا المدينة: وعندئذ فإن جميع أوقاتها تصبح ساحرة آسرة، وقد تضيق بنا أخلاق أهلها، فلا نعود نهتم لروعة ربوعها، مهما كانت مزهرة ناضرة. وإذا كان هذا صحيحا، فإن علاقتنا بالزمان والمكان تحسُن أو تسوء، بحسب ما تحسن وتنفرج علاقاتنا الاجتماعية والإنسانية، أو تتوتر وتسوء. ولذلك كان أهم مرحلة تتقوى فيها علاقتنا بمدننا، فنقبل على اكتشاف جمالها والامتلاء بمصادر فتنتها، هي مرحلة الطفولة واليفاعة، حيث يمكن اعتبار الشوارع والساحات، امتدادا فيزيائيا لكينونة الذات، ومصدر عنفوان الأحلام حينا، وراحة وطمأنينة الروح، حينا آخر.فتتلون الأوقات بألوان نفسية ،وتعبق الأماكن بأنسام الرغبات، وتصبح وجوه الأحبة والأصدقاء علامات ، إذا نحن فقدناها نضل السبيل ، وتقلق الأنفس والأرواح، وتجدّ ُ في طلب من تشتاق إليه،فلا تكاد ترتاح. وقد كان لي حديث مع مدينتي في إصباحها ومُسيها، ولأن أول النهار كأول العمر، هو الجمال والازدهاء ، فالنفس تتطلع إليه منبهرة ، تطلعها إلى كل شئ في أول نشأته بدهشة ، وتقابله كما تتلقى كل مولود بفرحة، وقد صدق الشابي وهو يرى الصباح كالوليد الجديد، وإذا أردنا أن نسمو على الرومانسية، ونقترب من المدينة في رؤية واقعية ، فيجب أن ننتصر للمدينة على الطبيعة ، وأن نبتعد قليلا عن العفوية ، لندنو من الثقافة التي تعيننا على اتخاذ البعد المطلوب للعثور على معادل موضوعي لكل من هذا الثنائي، عنيت: الزمان والمكان، اللذين يصنعان وجودنا الفعلي في كل آن،. شفشاون في الصباح ، مارة قليلون ، وعابرون أقل ، يمضون في بطء إلى مقرات عملهم، وأطفال مدارس يصدرون أشتاتا نحو فصولهم الدراسية، في سرعة لا تستمر وقتا طويلا، إلى أن تبتلعهم أبنية تداعى بعضها أو كاد، وبعضها الآخر حديث الإنشاء. بعض الأزقة تسكنها روائح الرطوبة كل ساعات النهار، وأزقة أخرى تأخذ من ضوء الشمس وحرارتها نصيبا أكثر مما تستحق أو تحتاج ، بل وحتى ما يجعلها تضيق به أحيانا، فسبحان خالق الأشياء ،ومقدر هذه العلاقات، فبمثل ذلك تتراكم في جيوب وجهات ، من هذا العالم عند أقوام أغراض وأموال ، وفي الأرض من يحيى معيشة ضنكا،وشدة حال. وعلى الجانب الآخر بساتينُ تزدهي نباتاتٍ وأشجاراَ، تتألق تحت الضوء اخضراراً وإزهاراً، لا يعود على الإنسان من جدواها إلا القليل، فلا تغتني من ذلك حتى فئة المالكين، فما أرأف هذا الجبل وهو من صخر صلد شامخ إذن، في مدينتي بالناس، فقد تفجر عيونا وأنهاراً، بينا ضاقت مساحات تربتها عن الوفاء بما تمس إليه الحاجة. وللصخر الكريم في شفشاون تجليات من الجمال، إذ يتخذ في كل ساعة لوناً خاصاً: فلونه لدى الصباح بين البنفسجيِّ واللازورديِّ، حتى إذا شرقت الشمس، وصارت قصار قاماتنا طوالا، ابيضَّت الأشياء بعد انسحاب آخر فلول الظلام، فإذا أشرقت الأرض بنور ربها، غرق الجميع في بحار من الفتنة والبهاء، تشهد بهما كل ورقة مخضرة، وتنطق بآياتهما كل الينابيع الدافقة والعيون المفترة، ليحدث بنعمة ربك صباح مدينة كل نصيبها من الموجود: هذا الجمال الطبيعي الخلاب، الذي كانت شخصيته أشد فعلا في نفوس الناس هنا، حينما كانوا قلة ،حتى قال شاعرهم القديم: (أشفشاون ُ إن كانت على الأرض جنة ٌ* فأنتِ هي الفردوس ذاتُ النمارق ِ/ وإن كان في أعلى السماواتِ رسمُها* فبينكما في الحُسن ِ بَعض ُالتوافق ِ) وقد أخرس هذا الوصف الجميل لسان كل شكاك في إيمان الشاعر، الذي يبدو أنه كان على يقين نسبي نطق به إلحاحه على أسلوب الشرط الذي ربما دل على ألا وجود للفردوس في اعتقاده في أي مكان آخر غير هذه المدينة شبيه بيقين الشاعر (غوتة) القائل ( لا تعتقد بوجود جنة فوق السحاب، إذا كان الورد يتفتح تحت نافذتك). أما وقد ضاق بالناس المكان بما رحب مؤخرا، فقد تراجع منسوب هذه الفتنة الجمالية، من خارج الإنسان، ومن أعماقه ودواخله على السواء.وأصبحوا يسارعون في الشك حماية للجهل، وطعنا في الفن،وليس للتحريض على المعرفة والإبداع. 2: و الشعر، هذا الصديق الذي يقارب عمر ارتباطي به الخمسين عاما ، لا أستطيع أن أشهد أن علاقتي معه كانت ودية دائما، بل كانت في أحسن الحالات علاقة مد وجزر، وهجر ووصال ، وإنني أقول دائما لأصدقائي : إن الشعر أشبه شيء بالمرأة ، لا تعطيك القليل إلا بعد أن تأخذ منك كل شيء،أوقد لا تعطيك شيئا، وكفاء هذه المكابدة والعذاب، لا تكون نتيجة المخاض الذي يمتد الأيام الطويلة والشهور ذوات العدد ، إلا قصائد تشير إلى ما بذل فيها من جهدٍ، لكن ما أقسى ألا يجد الشاعر من يقدر جهده حق قدره، فهناك اليوم صراعات في الميدان، الذي امتلأ بالكثيرين من أنصاف الموهوبين ، بل وبالكثرة الكاثرة من الأدعياء الذين لا غريزة شعرية لهم،بتعبير أبي العلاء المعري، فساهم وجودهم في الإخلال بالكثير من المعايير الفنية، والضوابط الشعرية، والمقاييس النقدية، فأصبح الإنتاج الشعري في المغرب ، والوطن العربي عامة ، أكثر من الهم على القلب وهو الذي كان في الأصل كالكبريت الأحمر لا يطلب إلا لتخفيف المعاناة . والعثور على ما يدرك الفرد به بين الناس قدرا من التوازن النفسي والاجتماعي. ولقد قلت لأصدقائي أيضا : إن الإبداع اللغوي أصعب مما يظن، وإن كانت اللغة أقرب إلى الفرد من حبل الوريد حقاً ، وهذه هي المفارقة ، ذلك أن الجميع يتوهم أن امتلاك اللغة أمر سهل، وإذا كان هناك شيء يقبل أن نشبهه بالسراب فهو اللغة، التي هي أساس الإبداع في الشعر ، وعذاب الشاعر أنه يَستعمِل وسيلة تعبيرية مخادعة، فالشعر الحقيقي يفرض على الشاعر أن يتكلم بلغة خاصة ، دون أن تفقد اتصالها بما هو عام ، وهذا وجه آخر للمعاناة التي يعيشها الشاعر في هذا العصر. حين لم يعد على الشعر أن يخاطب الناس بالمشترك العام، وهذا يجعل منه وسيلة غير تواصلية إلا في حدود، فعلى من يختار أن يقارب النص الشعري الاشتراك مع الشاعر في ثقافته. والاصطبار على الغوص معه، في بحار الفكر واللغة، إذا هو شاء أن يعود في آخر رحلة القراءة، بالكسب الوفير. 3 لقد كان لكل الأزمنة حضورها الواقعي والرمزي في شعري: مسرحا وغناءً واستغراقا في التأمل، وأكثر ما استعملتُ من معاني الزمن، للدلالة على محنة الإنسان، كلمة الليل، وإذا قرأت معظم شعري، وجدت أنني قليلا ما اتخذت من أجواء التفاؤل المشرقة موضوعا لي، بمثل ما ضاق واقعنا الموضوعي عن مناسبات الفرح الواعدة، فقد قلّت أوقات السعادة ، أمام كثرة مواجد النكبات، وفواجع الانتكاسات السياسية، وكثرة الهموم الاجتماعية ، فنحن نعيش في مجتمع لم يخلَّ بينه وبين تحديد مستقبله، فمنع من تحقيق نهضاته، وتحسين أحوال أفراده وفئاته، لذلك حضرت في شعري معاني القتامة و الجهامة، و الظلمة والحلكة، والسواد والاكفهرار ، وغابت ألوان الفرح ، ولم يحضر منها إلا ما أدعوه على سبيل والتفاؤل والاستبشار، في أحوال تقِلُّ ، حتى لا أكون بشعري مروِّجا لقيم العدمية التي لا تتفق مع الصدق الفني، على مذهب من يسارع إلى إلباس الحق بالباطل، فخير الشعر في كل العصور ، والفن أيضا، ما أعان الإنسان على معرفة ذاته، وكان وسيلة لتحقيق التوازن بينه وبين ما يعيش في ظله من أوضاع متوترة صعبة، يطلب الإنسان المتحضر في خضمها الإشباع الفني أحيانا ، عبر المتوفر من وسائل التعبير الجمالي ، ليقوى على مقاومتها، وتحقيق القدر الممكن من السعادة ، في هذه الفترة الوجيزة التي يقضيها على الأرض. قبل انتقاله إلى جهة ٍ ما سفلى أو عليا. فهل يمكن أن أكون قد وجدتُ مهلة للامتلاء بهواء الصباح ذات يوم وتجاوزتُها ؟ أم هل أكون قد قابلتُ وجه هذا الصباح الذي تسألونني عنه في إحدى محطات حياتي دون أن يسترعي انتباهي إشراق طلعته البهية؟ لقد قابلت صباحات لها جهامة الليالي الحالكة، كما عشت ليالي لها بهجة الصباحات الضاحكة، وحتى حينما سميت مجموعتي الشعرية الأخيرة ب(مباهج ممكنة) كانت تسمية طباقية مضللة ، ذلك أن صباح الإنسان المغربي لا يزال بعيدا، ولا يزال ليله طويلا، فلنا أن نجتهد في التعرف على خرائط ليلنا وتخطيطاتها ، لفضح ما يتواطأ به علينا أعوانه وقواه وفئاتها، ومن أهم ما يجب أن ندعو إليه، هو انخراط كل طبقات مجتمعنا في مهمة التمهيد، لشروق صباح بلادنا الآتي. (شفشاون في 19- 05- 2009)