أموال طائلة خصصت لإخراج المبادرة الوطنية للتنمية البشرية إلى حيز الوجود، بعد اختناق الوضع الاجتماعي والسياسي، في محاولة من الدولة لإعطاء المفهوم الجديد للسلطة دلالة ومعنى جديد، يقطع مع الماضي القريب ، حيث تحكمت في كل ما هو اجتماعي مقاربة أمنية، وبوليسية وانتخابية، وضمنيا هو تهيئ المجتمع المدني والمجتمع المحلي لشيء جديد نسميه الجهات الموسعة، وحكم ذاتي، فهل الهدف من المبادرة كان سياسي، و مرتبط بإعادة هيكلة المشهد الجمعوي ؟ أم هل كان تنموي أي تحسين الظروف السوسيوقتصادية للفقراء وما أكثرهم وإخراجهم من دائرة الحرمان والجهل والتهميش الذي يتخبطون في براثينه؟ أم ثقافي يكرس ظاهريا مبدأ التضامن الاجتماعي وضمنيا ينشر ثقافة التبعية والتكاسل والنصب والاحتيال باسم المؤسسة الجمعوية، والعمل الاحترافي ؟ لقد أجبر المغرب على تطبيق مجموعة من البرامج الدولية ذات الطابع التنموي والاجتماعي والقانوني والاقتصادي ، ومع ذلك ظل يصنف في المراتب المتأخرة دوليا في ما يتعلق بالتعليم، والصحة ، الفقر، البطالة، المساواة بين الرجل والمرأة، حرية الصحافة، الفساد الإداري..... ثم مشروع دمقرطة الحياة السياسية والمؤسساتية، أي نهج مقاربة تشاركية لتفعيل المجتمع المدني والدفع به للعب دوره بالشكل المطلوب ، وتم التركيز بدرجة أقوى على العمل الجمعوي والتنظيمات غير الحكومية، لتحريك الركوض الاجتماعي وتسريع وتيرة الحراك الاجتماعي ، فجاءت المبادرة الوطنية للتنمية البشرية في شكل إجابة عن الأزمة الاجتماعية، التي تفاقمت بعد الاتفاق على شروط الانتقال الديمقراطي المرتبط بالدخول في تجربة الإنصاف والمصالحة، وتحسين ظروف عيش المعتقلين السياسيين والمنفيين وتعويض العائلات وجبر الضرر الفردي والجماعي لكل الذين عاشوا الظلم في سنوات الجمر والرصاص، وعوض التصالح مع فئة سياسية واجتماعية محددة ، استبشرنا خيرا أن المبادرة الوطنية سترفع الجور عن كل الذين كانوا ضحية المقاربة الأمنية في التعاطي مع الشأن الاجتماعي ، أي تدارك الأمر والوقوف على مكامن الخلل والتصالح مع الشعب المغربي وفق مقاربة تستجيب لحاجياته، دون استغلال ذلك بشكل سياسي وانتهازي وتصريفها في اللحظات الحرجة من أجل انتزاع مواقف سياسية وانتخابية ، تتعارض مع كرامته وكبريائه وحريته في التقرير والاختيار، غير أن المبادرة الوطنية تحولت عن الأهداف التي رسمت لها في بداية انطلاق المشروع، وأثرت سلبا على العمل الجمعوي كما العمل السياسي، ولم تستطع ولو جزئيا رفع الحيف والحرمان عن الفئات الاجتماعية المهمشة والمبعدة من دائرة الخدمات العامة، وكأننا بالمبادرة الوطنية تسعى الدولة إلى توسيع رقعة الاستفادة العامة، وإدماج بعض الفاعلين الجمعويين في خانة من يستثمر باسم التنموي في قضايا المواطنين ومستقبل الأجيال القادمة، وهكذا وبالعكس تماما عوض تأهيل العمل الجمعوي ليقوم بأدواره التنموية والتكوينية والثقافية، تم تمييع هذا الحقل ، بإنتاج مجموعة من الجمعيات اعتبرت تنموية وسميت بأسماء المبادرة، وتكاثرت كالفطريات في زمن قياسي، وبعدد محدود من الأفراد وخارج حتى الفهم والعمل الجماعي الذي يميز كل ما هو جمعوي ، وتم التضييق على الجمعيات الوطنية التقدمية الثقافية، بدعوى أنها تشتغل بدون احترافية وغير متخصصة، و أنها تعتمد على مبدأ إنساني ووطني نبيل هو التطوع، لأنه غير ملزم للأفراد والجماعات، وبالتالي فهو غير منتج وهذا ضد ما تروج له المقاولة الجمعوية، والذي اعتقدنا أن المبادرة الوطنية هي الضامن لتكريسه، فالمشاريع المدرة للدخل وتلك التي تحارب الهشاشة الاجتماعية، والتي تعمل على إدماج الفئات الاجتماعية المهمشة( أطفال في وضعية صعبة، عجزة، نساء ضحايا العنف،...) لم تخرج منها إلى الوجود إلا بعض مشاريع الواجهة والتي خدمت بشكل مباشر تجار الانتخابات، وبعض المستشارين ورؤساء الجماعات والجمعيات المحيطين بدائرة المخزن على مستوى القيادة، والداخلية في باقي المستويات، فالمواطن لازال يتمنى لو أن الملايير من أموال المبادرة وزعت عليهم بالتساوي وبشكل عادل عوض توزيعها بطريقة عشوائية على مشاريع لاتخضع لا للمراقبة ولا للمتابعة والمحاسبة، و أحسن هذه المشاريع المدرة للدخل و التي تعتقد الدولة أنها ناجحة، تربية بعض رؤوس الأغنام أو تربية النحل أو الدجاج....، فكيف يعقل أن المواطنين هاجروا البوادي واستغنوا عن قطعانهم وأراضيهم بحثا عن حياة تستجيب لمتطلبات العصر ، وتقوم المبادرة بالعكس تماما بدعم هذه المشاريع التي تعرف مسبقا أنها لن تعمل إلا على تزكية الحرمان والتهميش، وحتى وإن كتب لها النجاح فإنها تضل حبيسة سوء الترويج والتسويق، وبمعنى أصح هي غير قادرة على المنافسة أمام المحتكرين الجدد للسوق و للبشر، وقس على هذه المشاريع الكثير من الأفكار التي تعمل على توريط المواطنين في دوامة من التبعية، التي يمارسها عليه بعض حاملي المشاريع، فالمجتمع المدني بفضل المبادرة ازداد تأزما وتمزقا ، والعمل الجمعوي الذي بشرت به باعتباره منتجا وينبني على مشاريع مدرة للدخل ، تحول إلى عمل جمعوي مربح للفاعلين الجمعويين، وليس للفئة المستهدفة، و أصبحت الجمعية ومنذ تأسيسها مقاولة عائلية، وليس كما في الدول المتقدمة مقاولة جمعوية، واكتشف بالملموس أن اللجان والمسؤولين والجمعيات التي تأخذ الدعم والساهرين على التدبير اليومي للمبادرة ولمشاريعها ، لا تربطهم وفي كثير من المواقع، بالعمل الجمعوي إلا فرص عمل واستثمار مباشر لا أقل ولا أكثر، وأما الجمعيات الجادة فاستطاعت تقوية قدراتها الذاتية والمالية وخلقت شراكات بدعم دولي بعيد عن الحسابات الضيقة للعراقيل التي تضعها شروط المبادرة ، التي تمنينا لو أنها طبقت ، على العموم، كانت ستجنبنا الدخول في فخ شرعنة جمعيات «الكوكوت مينيت» التي تعزم مجموعة من الجمعيات الجادة مقاضاتها بتهمة تبذير المال العام بافتراض حسن النية وأنه ليس نهب للمال العام، هذه الأجوبة الترقيعية لحل إشكالات الأزمة الاجتماعية، هو من بين أهم العوامل التي ساعدت على عدم الاكتراث باستحقاقات 7 شتنبر2007 التي عزف المواطن عن المشاركة فيها بكثافة، أي أن العمل الجمعوي والجمعيات غير الحكومية، ساهمت في إضعاف مسلسل الانتقال الديمقراطي وتمييع العمل التطوعي سواء كان سياسيا أو جمعويا أو نقابيا، كما أن المفهوم الجديد للسلطة اتخذ منحى سلبيا ونحن نتتبع أن الممثلين المحلين لرجال ونساء السلطة، في العديد من المواقع تحولوا إلى حكام غير نزيهين حسب طبيعة العلاقة التي تربطهم بالمجالس المنتخبة وببعض المريدين والمخبرين، ولعل أهم نتائج المبادرة نحدد ارتفاع نسبة الجريمة ، غلاء المعيشة ، العزوف الانتخابي، ارتفاع نسبة الدعارة، ارتفاع البطالة، ضعف التمدرس وارتفاع الهدر المدرسي، .... لهذا على الدولة أن تحرك كل أجهزتها الرقابية والقضائية ، لاسترجاع أموال المبادرة التي هي أموال الشعب المغربي، وإذا كانت تريد إعادة توزيع الثروات على الشعب فلتكن بطريقة واضحة وشفافة، ولما لا الاستعانة ببرامج الأحزاب وتطبيق رؤيتها في الإصلاحات الاجتماعية، وإذا كان لابد من إعادة هيكلة المشهد الجمعوي، فيجب أن يكون بطريقة مؤسساتية ديمقراطية عقلانية، وليس بنفس الطريقة التي دبر بها إعادة هيكلة المشهد الحزبي، فتطبيق مشاريع ترقيعية وغير كاملة ومنسجمة مع الخصوصية المحلية ومع متطلبات الساكنة، ستبعد المواطن عن المشاركة في تدبير مصالحه، وتدفعه لكي يكون ضدها، ومعرقل لكل مشروع تنموي وإن كان مرتبط بمستقبله.