تبدو هذه القصة أقرب إلى سيناريوهات أحد الأفلام السينمائية: امرأتان أمريكيتان من ولاية كاليفورنيا، تسافران إلى دولة ما، سعياً للكتابة عن قهر النساء والإساءة إلى حقوقهن. ولكن ينتهي الأمر بنواياهما الصادقة والأخلاقية إلى الكبت والاختفاء التامين. والسبب: اعتقال صاحبتيها من قبل قوات الأمن الحكومية، وحبسهما في زنازين السجون الكئيبة الباردة، ثم تقديمهما إلى محاكمات صورية تحت تهمة الخيانة العظمى! غير أن هذه ليست مجرد فانتازيا سينمائية، إنما هي مأساة حقيقية تعيشها كل من المواطنتين الأميركيتين إيونا لي و لورا لينج المحتجزتين حالياً في سجون كوريا الشمالية. وخلال الأيام القليلة المقبلة، يرجح تقديمهما إلى المحاكمة في إحدى دول العالم الأشد ظلماً وظلاميةً. فقبل عدة شهور بدأت هاتان الصحفيتان -اللتان تعملان من مقرهما في سان فرانسيسكو- إجراء تحقيق صحفي لصالح شبكة Current TV المملوكة لنائب الرئيس السابق آل جور، حول جرائم الاتجار بالشابات الكوريات الشماليات، اللائي تجرأت مجموعة منهن على الهرب سيراً على أقدامهن عبر الحدود المشتركة بين كوريا الشمالية والصين، بحثاً عن حياة أفضل هناك. وبينما كانت الصحفيتان تحاولان عبور الخط الحدودي نفسه، ألقت قوات الشرطة الأمنية الكورية الشمالية القبض عليهما، وجردتهما من أي حقوق تتمتعان بها، ثم زجت بهما إلى السجن تحت اتهامات بالخيانة العظمى. وربما تصل محاكمة هاتين المواطنتين الأميركيتين إلى الحكم عليهما بأداء الأعمال الشاقة في معسكرات، تعيد إلى الذاكرة أيام الجولاج سيئة الصيت في عهد الزعيم السوفييتي السابق جوزيف ستالين. وبذلك سوف تكونان أول امرأتين أميركيتين تواجهان مصيراً مأساوياً كهذا. يذكر أنه سبق لبيونج أن اعتقلت مواطنين أميركيين من قبل، من بينهم طاقم سفينة الأبحاث العلمية الأميركية USS Pueblo في عام 1968، ثم كابتن إحدى طائرات الهليكوبتر في عقد التسعينيات. غير أن الحكومة الأميركية استطاعت تأمين إطلاق سراح مواطنيها المعتقلين في نهاية الأمر. وفي عقد التسعينيات نفسه، تمكنت واشنطن من الإفراج عن اثنتين من مواطنيها من أصل كوري، كان قد تم اعتقالهما أثناء عبورهما للحدود الصينية باتجاه كوريا الشمالية. وفي حين أن على رأس واجبات أي رئيس أميركي، حماية مواطنيه، فإنه لا يبدو أن إدارة أوباما فعلت شيئاً يذكر حتى الآن، من أجل إنقاذ هاتين الصحفيتين. وللحقيقة فليست لواشنطن مكتب تمثيل دبلوماسي في بيونج يانج. غير أنه لا يزال ممكناً العمل عبر قنوات أخرى، مثل التنسيق مع البعثتين الصينية أو السويدية الموجودتين هناك، حتى وإن كانت هذه القنوات ليست الخيار الأمثل بالطبع. وفي ظل هذا الغياب الدبلوماسي، فإنه ليس مقبولا كل ما صدر عن بيونج يانج من خطوات وأفعال مؤخراً -بما فيها اختبارها لصاروخها الباليستي في الشهر الماضي، ومقاطعتها للمحادثات السداسية الجارية بشأن برامجها النووية، ثم تهديدها بإجراء اختبار نووي ثان- خاصة وأن هذه الأفعال صبت ماء بارداً على كل مبادرات حسن النوايا التي أبداها الرئيس أوباما لنظيره الكوري الشمالي المراوغ. فليس لأوباما يد في ما تشهده بيونج من انتكاسات في سلوكها وعلاقاتها الخارجية مع بقية الدول الأخرى، بقدر ما أن له علاقة كبيرة بعملية الانتقال السياسي الجارية بشأن استبدال الزعيم الكوري الشمالي المعتل الصحة كيم جونج إيل ، بزعيم آخر يخلفه. لتفادي الخطر الذي تواجهه الصحفيتان الأميركيتان المعتقلتان، يتعين على واشنطن إرسال مبعوث رفيع المستوى إلى بيونج يانج، تناط به مهمة إطلاق سراحهما وإعادتهما إلى أميركا. وليس من مرشح أكثر ملاءمة لهذه المهمة، من نائب الرئيس الأسبق آل جور. فالمرجح أن يحظى آل جور بالاحترام اللائق به في بيونج يانج، إلى جانب ما سوف تتمتع به المهمة نفسها من مصداقية حين يكون القائم عليها شخصية بوزن آل جور. ومن دون المساس بأي أعراف وتقاليد دبلوماسية، يمكن له إصدار أي اعتذارات ربما تطالب بها بيونج لإطلاق سراح الصحفيتين، لا سيما وأن اعتذارات رمزية مشابهة كان قد تم إصدارها في مواقف مماثلة في الماضي. ولما كنت قد شاركت ضمن وفد بعثة أميركية لاستعادة رفات ستة من الجنود الأميركيين الذين لقوا مصرعهم إبان الحرب الكورية، فإني أدرك جيداً أن من شأن هذه الجهود الإنسانية، إتاحة فرص كبيرة للدفع بالموقف الدبلوماسي المتعثر كله للأمام. هناك من يقول اليوم إن آخر رسالة حسن نية وجهها أوباما إلى الزعيم الكوري الشمالي، قد تبخرت وذهبت هباء مع اختبار بيونج يانج لصاروخها الباليستي، وبما تلاه من إعلان الأممالمتحدة فرضها المزيد من العقوبات عليها. بيد أن في وسع آل جور إعادة توجيه تلك الرسالة السلمية التي بعث بها أوباما مجدداً إلى بيونج يانج، بما يؤكد عزم الإدارة الجديدة على التعاون مع بيونج يانج بغية تجنيبها الانزلاق إلى حافة الخطر النووي. ومن رأي البعض أنه لا ينبغي لنا الاستجابة لابتزازات بيونج يانج. وهذا رأي صحيح من حيث المبدأ. غير أنه لا يسعنا التزام مقاعد الفرجة بينما نرى سلطات بيونج يانج تزج باثنتين من مواطنينا إلى جحيم معسكرات تعذيبها وأعمالها الشاقة، دون أن نفعل شيئاً لإنقاذهما من ذلك المصير المأساوي. فليس لنا أن نأتي بما لا يليق بأميركا ولا بمسؤوليتها عن حماية مواطنيها، وهي أوجب مسؤولياتها على الإطلاق. (*) أستاذ بجامعة جورج تاون، ومدير شعبة الدراسات الآسيوية في كلية الخدمات الخارجية بالجامعة عن «لوس أنجلوس تايمز»