حسنا فعل الصديق عبد الواحد الراضي وطاقمه في وزارة العدل، بطرح مسألة إصلاح القضاء على السياسيين والحقوقيين والإعلاميين والمهتمين بغية الإنصات لآرائهم واقتراحاتهم، ومن تم إشراكهم في بلورة مشروع إصلاح قطاع يهم الشعب ويهتم بالشعب. فإن كان القضاء جهازا، فالعدل هو الأساس ، فهو المنطلق وهو الوسيلة وهو الهدف .والأصل أن العدل وجد لكي يفصل ويسوي النزاعات بين الناس المتعايشين داخل كيان واحد، أكانت قبيلة أو مجموع قبائل، أو شعبا أو مجموع شعوب. وتأسيسا عليه، فإن العدل هو حكم يراد به إرجاع الحق لصاحبه من كل غاصب - سواء استعمل التزوير أو الكذب أو السلطة أو المال- طمعا في استتباب الاستقرار الداخلي داخل الكيان الواحد. وتأتي بعدها العقوبة في حق المُغتصب للحق،لإعطاء المثال ، لكي لا تكرر نفس الممارسات والتي تذهب بحق فرد آخر، سواء كان حقه في الحياة أوحقه في الحرية أو حقه في ماله وممتلكاته. وأصبحت العقوبة هي الصفة التي يُنعت ظلما بها العدل في البلدان المتخلفة، والتي غالبا ما تكون بلدانا يحكمها الاستبداد والتسلط السياسيين. وبذلك أصبح الجهاز القضائي سلطة مرادفة للسجن والقمع. ومعه أصبح العدل حلما بعيد المنال في تلك البلدان. المواطن في المغرب، كما في مجمل الدول العربية والإسلامية ،إذا أراد أن يتذكر العدل في فترة من فترات تاريخه الطويل والعريض، عليه أن يرجع إلى فترة حكم القاضي عمر بن عبد العزيز وقبله إلى فترة حكم الخليفة عمر بن الخطاب ...فمنذ قرون وقرون لم يذكر التاريخ في عالمنا العربي الإسلامي قاضيا عادلا أو حاكما عادلا إلى يومنا هذا.واكتفى العرب والمسلمون لعل وعسى ...! يرددون دوما : قاضيان في النار وقاض في الجنة؟ ولأن العدل هو المنطلق والمبتغى لفئة من الناس قررت العيش فيما بينها وداخل حدود معروفة وبقوانين مكتوبة أو غير مكتوبة، لكن متفق عليها من أجل إنصاف المظلوم من الظالم ،فإن العدل وإصلاح منظومة القضاء أمر يهم الناس جميعا ولا بد من أخذ رأيهم بصفتهم المعنيين بكل إصلاح. لنرجع إلى واقعنا المغربي .سنترك للمهتمين من أبناء شعبنا وهم كُثر و أكفاء أن ينظروا في مسالة إصلاح القضاء في جانبه الشمولي، وسنحاول التركيز على الجانب الذي يهم المواطن المغربي أكثر ،خصوصا من قذفه حظه التعس للجوء إلى الجهاز القضائي في بلادنا ، مختصرين ذلك الجانب في مسألتين اثنتين: المسألة الأولى وتتعلق بالمرحلة السابقة لتدخل القضاء: وهي مرحلة حساسة وحاسمة على أكثر من صعيد، ولأن الشعب المغربي شعب ذكي لا جدال في ذلك ، سريع التأقلم مع الواقع ، فهمَ ومنذ زمان أن تسوية نزاع ما أمام قضاء بلاده وربح قضيته يمر وجوبا في نجاحه إتقان» غرزة» النزاع في مراحل التحقيق ، والأمثلة كثيرة وعديدة في هذا المجال، نكتفي بذكر ما عرفه أبناء شعبنا في الأشهر الأخيرة عن طريق الصحافة حيث لجأ البعض، من جهة، إلى موضة جديدة تتجلى في تقديم الجاني ومنذ بداية التحقيق على أنه مختل عقليا أو إنسانا مستلبا بفعل تناول المخدرات ، وإلى موضة قديمة في بلادنا مؤسسة على تقديم رشاوى للجهاز الباحث، لتغيير وتزوير معالم الجريمة ، من جهة ثانية ، وثالثا إلى استعمال النفوذ والعلاقات مع أصحاب الحال والقرار للضغط في اتجاه قلب الحقائق يصبح بها ومعها الظالم مظلوما والمظلوم ظالما. ولا بأس أن يكون المرء الظالم «معززا» بما يلزم من طاقم شاهدي الزور و»عبقرية « بعض المحامين المسيئين للمهنة وقبلها للحق والعدل. سيكون من باب الظلم، ونحن نتكلم عن العدل وعن إنصاف الناس من الناس، أن نتهم جميع القضاة المغاربة بالفساد . لكن قاضيا ما ، في محكمة ما ، وقد تراكمت أمامه آلاف من الملفات طوال أشهر وسنين، يصعب عليه أن يبحث في كل ملف ملف بترو و بجد وعناية وعقلانية ، وكلما تأخر النظر في ملف ما وإلا سنح الظرف أكثر للراشين والمتدخلين والعابثين من الناس الظالمين لغيرهم . فيلجأ القاضي في غالب الأحيان لاستعمال سلطته التقديرية والاكتفاء بمحاضر الشرطة حول القضايا المعروضة عليه ، شرطة وإن كانت تعمل تحت وصايته، فإنها تنتسب لجهاز وزارة الداخلية أوامرَ وأجورا . هكذا إذن، ومن البداية ، تُرهن قرارات القاضي ،إن لم تكن قراراته قد هيأت بعيدا عنه وتملى عليه فيما بعد، خصيصا في القضايا السياسية ، ولو بشكل غير مباشر، من طرف هذا الجهاز التنفيذي القوي ، والنتيجة يصبح الجهاز القضائي تابع بالمطلق للجهاز التنفيذي و أحكامه تبنى عن حكم سابق لبعض موظفي وزارة الداخلية في المخافر ومقاطعات رجال الأمن. المواطن المكتوي، لا يطلب أكثر من أن يقوم طرف تابع للجهاز القضائي ومرتبط به أمرا وأجرا بالتحقيق أول الأمر في الملفات المعروضة عليه من قبل الشرطة، وذلك قبل عرض الملف أمام أنظار القاضي.إن الأمر يستدعي أن يكون لكل هيئة محكمة فريق تابع لوزارة العدل مكون من محققين ومساعدين لقضاة التحقيق بتلك الهيئة، مكلفين بمراجعة الملفات المعروضة عليها للمزيد من التمحيص والتدقيق، وإن اقتضى الأمر فتح تحقيق جديد توخيا لتوفير رواية متكاملة أو منقحة بجانب التي صيغت في مكاتب أجهزة الشرطة القضائية ، رواية تمكن القاضي من تجنب «توظيفه» ووضعه موضع الخطأ في فهم ثنايا قضية ما أولا ، وتجنيبه ثانيا إصدار حكم ظالم في حق إنسان مظلوم. إن فرَقَ بحث وتحقيق منفصلة عن محققي وزارة الداخلية من شأنه أن ينصف العديد من المتقاضين المظلومين من جهة ويضمن استقلال سلطة القضاء عن سلطة الجهاز التنفيذي ، بل ويصبح جهاز القضاء مراقبا لجهاز تنفيذي قوي ووحيد في بلادنا،شكل منذ قرون وقرون أداة تسلط وحكم دار المخزن في المغرب. إن العدل يبدأ من مرحلة البحث والتحري ومصداقية القضاء والجهاز القضائي تبدأ كذلك من مرحلة البحث والتحري ،بل إن معرفة الحقيقة في النزاعات تبدأ من مرحلة البحث والتحري . المسألة الثانية وتتعلق بتنفيذ الأحكام : وهي مسألة تقض مضجع أبناء شعبنا الذين استطاعوا الإفلات من شباك المرحلة الأولى السالف ذكرها، صادف وأن وجدوا قاضيا نزيها، مُحترما للقانون، ذا ضمير حي ويخاف الله. وكما في مرحلة التحقيق، يلجأ الظالمون في هذه المرحلة لنفس الأساليب السابق ذكرها لعرقلة تنفيذ الأحكام، مستعملين التدخلات والسلطة والنفوذ والمال. والأمثلة كثيرة يمكن معاينتها يوميا، سواء تعلق بأرض نهبت أو عقار استولي عليه أو حق عامل أو أجير طرد تعسفا أو طليقة حرمت وأطفالها من نفقة واجبة أوحق ضحية صدمته سيارة لسائق متهور طائش.....