ارتضت أجيال من الرجال والنساء لأنفسهم تكريس حياتهم للاشتراكية، بل تعريض حياتهم للأهوال والمشاق من أجلها. بعد أن عرفت انطلاقتها في القرن التاسع عشر، أصبحت الاشتراكية هي الفكرة العظيمة للقرن العشرين، سيكون الطموح السخي الذي حرك الاشتراكيين دائما وتحليل المجتمع الذي هو مجتمعهم، سيكون ذلك الطموح دائما بلاشك حدث الساعة. وستولد الفكرة - ان لم يكن المصطلح - من جديد، لأنه في غيابها «قد تصاب الإنسانية باللعنة». هذا بعض مما جاء في التمهيد الذي كتبه جاك فلوري لمؤلفه عن الاشتراكية (1) وتجربته الطويلة كمناضل اشتراكي منذ 1959. تعريب: محمد خير الدين الاشتراكية فكرة جديدة دائما كم من معاصرينا اليوم يحملون فكرة صحيحة ودقيقة في نفس الآن عن هذا المصطلح وماذا يعنيه؟ الاشتراكية ما هي إذن؟ كانت هذه الكلمة حاملة للأمل منذ قرنين تقريبا قبل اليوم، لقد استعملت الكلمة وماتزال من طرف عدد كبير من الغشاشين والمزورين الذين شوهوا طبيعتها ومدلولها. مع ذلك فإن فكرة الاشتراكية الديمقراطية ظلت شعبية بما يكفي يسارا، ثم لتستعاد في بداية القرن الواحد والعشرين وتستعمل كلون يغري يسارا باتجاه الطبقات الشعبية. تغير العالم ولم يتغير استغلال الإنسان للإنسان، فهذا الاستغلال لم يتراجع، بل تدعم بوسائل حديثة أكثر فعالية، لم يعد الاستغلال مقبولا علي الإطلاق اليوم مثل البارحة. لذلك يجب أن يظل هدف الاشتراكيين هو الدفع به الى الوراء، الاشتراكية فكرة جديدة دائما وفكرة أكثر فتوة من الفكرة الديمقراطية. يجب أن يكون هدف الاشتراكيين هو تحرير الإنسان من التبعية وكل اشكال الخضوع. من تم ينبغي أن يكون طموح كل مناضل سياسي إن لم يعتبر السياسة كفن للحكم وقيادة الناس،بل كطموح لاحداث تحول في المجتمع. أليست السلطة السياسية هي قبل كل شيء ماتمكن من توطيد السلطة الاقتصادية؟ لكن السلطة السياسية والسلطة الاقتصادية أصبحتا تشكلان نفس السلطة في وقت أسرع. ذلك أن مالك السلطة السياسية يمارسها بالأساس للاستفادة هو نفسه - و بالتبعية هؤلاء الذين هو مسؤول عنهم - من الامتياز الاقتصادي. لقد استعاضت المجتمعات الحديثة عن الرق والقنانة بالإجارة. إذ أصبح ينظر الى نظام الإجارة (طبقة الأجراء) كتقدم اجتماعي لكونه يقوم على عقد عمل بين المشغل والأجير. وقد بينت التجربة أن هذا العقد لم يعد في الغالب غير عقد المغبون. فالأجير يخسر حريته ما أن يلج المصنع أو المكتب. لقد كان العبد والقن «شيئا» للمالك أو السيد. فهل يوجد الاجير في موقف مختلف؟ ليس للأجير إلا حق الامتثال ما أن يتم توظيفه. بالطبع تبقى له حرية ترك عمله، وهو ما يشكل اختلافا جوهريا عن حالة الرق أو القنانة. فمالكو الرأسمال، السلطة المالية، فرضوا قانونهم على هؤلاء الذين لا يملكون من الثروة غير قوة عملهم. كمالك للشغل من شأنه أن يساعد العامل على العيش، يكون المشغل في وضعية قوة عندما يكون الشغل قليلا، بحيث أن الأجرة تكون وفقا لقانون العرض والطلب. وإذا كانت مناصب الشغل المتوفرة أقل من عدد الأجراء الراغبين في العمل، فإن مبلغ الأجرة ينخفض. ومهما يكن مستوى التعويض، فإن العامل في كل الأحوال خاضع للاستغلال، فهو لا يجني من العمل الذي يقدمه للمقاولة كل القيمة التي يخلقها. فالأصل في الاخضاع أو التبعية الناتجة عن الرق، عن القنانة أو عن الاجارة تكون ذات طبيعة اقتصادية: استغلال الإنسان من طرف الإنسان. تتطلب سلطة استغلال الانسان وسائل لفرض نفسها، فالسلطة السياسية مرتبطة بعمق بالسلطة السياسية، فكل سلطة تغذي الأخرى، وبالتبادل. فامتلاك السلطة السياسية يمكن من فرض قانون الاستغلال، والثروة المكتسبة تمكن من تعزيز السلطة السياسية. من ثم تزيد مراكمة الثروة من السلطة السياسية التي تمكن من استغلال حاد للعمل الذي ينجزه العاملون. ومع الوقت وصلت السلطة السياسية الى قوة مستقلة، بحيث لم تعد بحاجة الى اللجوء الى سلطة المؤسسات السياسية. لقد أصبحت في وضعية لأن تفرض على هذه الأخيرة أمرها المفروض. لقد حلت السلطة الاقتصادية محل السلطة السياسية في المعنى الدقيق للكلمة. الاشتراكية، توزيع أفضل للثروات بالنسبة لي، يعتبر تقديس العمل وتقديس المال وسيلتان لتسخير الانسان بمهارة، فالعمل مفيد ومنتج ويجب ان يشجع،فى الوقت الذي جعله البعض كمذهب لاستغلال افضل لعمل الآخرين. فالمال الذي يجسد الثروة التي انتجها عمل الانسان يكون قيمة محايدة لأمد طويل مادام يوزع بصفة سليمة وعادلة بين هؤلاء الذين هم بحاجة اليه. لكنه يمكن ان يصبح اداة للسلطة لاستغلال الآخرين، ويمكنه ان يصبح - وهذا خطيرا جدا - نوعا من المخدر الذي من اجله تقبل ان نخضع للاستغلال. تفضي تركيبة العمل والمال، داخل المجتمع الرأسمالي الى استغلال الانسان من طرف الانسان. ومنذ الوهلة التي يصبح فيها تملك المال هدفا في حد ذاته ويصبح العمل مقدس، فإن المال والعمل يشكلان وجهين لنفس الارتهان. انني لا أدين العمل ولا القدرة الشرائية، فالمعركتان السياسيتان الاساسيتان منذ عدة عقود هما الشغل والقدرة الشرائية. عرف أن الرجال والنساء بحاجة للعمل لكسب عيشهم، انني أتأسف انهم يريدون في بداية هذا القرن الجديد اجبارهم على العمل اكثر لكسب عيشهم بصعوبة كبيرة، لكنني لا أدافع على مجتمع الكسل والخمول ولا على مجتمع التقشف والكفاف. كسب المال لفعل ماذا؟ احد الاجوبة الممكنة، الاكثر سهولة من دون شك والاكثر شيوعا قد يكون هو: «من أجل الاستهلاك». يتضمن هذا الجواب البديهي تقريبا، يتضمن مصيدة مع ذلك، مصيدة يقوم عليها اليوم المجتمع الرأسمالي برمته، انني هنا لا أقصد ادانة الاستهلاك في حد ذاته. يجب ان تكون لكل فرد امكانية اكتساب ممتلكات وخدمات لسكن افضل، لتغذية افضل، لتطبيب افضل، لكي لايكون لديه تخوف في الغد، لضمان مستقبل ابنائه، اقول كل فرد، لان الفقر بل البؤس في البلدان الغنية لا فقط انهما مستمران، بل يتطوران، وهو امر غير مقبول ويدين نمط المجتمع الذي يسمح بهذا اللاتكافؤ . يجب ان يكون المجتمع منظما حتى لايبقى اي كان على قارعة الطريق، اقول كل واحد، ذلك ان اللاتوازن بين أمم غنية وامم فقيرة ليس فقط انه غير مقبول اخلاقيا، بل انه مصدر نزاعات من كل نوع. يجب اذن ان يتمكن كل واحد من الوصول الى ماهو ضروري، وعندما يتم تحقيق الضروري من طرف الجميع، يمكن التطلع الى تحقيق مايزيد عن الحاجة، علما ان ما يزيد عن الحاجة اليوم يصبح احيانا هو الضروري اليوم، وانه ما ان نضع الاصبع داخل ماهو زائد عن الحاجة حتى نصبح في ورطة ، ذلك انه يمكن ان تصبح الرغبة في الاستهلاك الذي يبرر تماما بالامل في مواجهة الضروري، بل مواجهة الحاجة المشروعة لشيء زائد عن الحاجة يزين الوجود - ترفيه، ديكور، ثقافة، الخ. ان تصبح تلك الرغبة اذن مصدر انصياغ وخضوع ، مادام انها ليست البثة نتيجة رغبة تلقائية، بل رغبة سببها وآثارها الغير، من البديهي انه يجب ان نستهلك لمواجهة الاحتياجات الحيوية - سكن، تكوين، صحة، غداء، ثقافة، الخ. الا انه عندما نلبي تلك الحاجيات الاساسية التي يمكن ان يتطور تحديدها مع الوقت، في السابق كنا نفكر بشكل اقل في التربية مما نفكرفيه اليوم، يتوجب التساؤل حول جدوى الشراء التكميلي او الاضافي. ليست الاشتراكية نهبا ولا حلا خارقا لجميع مشاكل مستوى العيش، فالاشتراكيون مع توزيع افضل لثروات بلد. بالمقابل يجب ان تتطور القدرة الشرائية للطبقة المستضعفة من الساكنة بسرعة. لكن ان يكون الانسان اشتراكيا للحصول للتو على تحسين قدرته الشرائية، فهذا أمر قد يصيب بالخيبة. ذلك ان الثروة الفردية تتوقف على الثروة الجماعية، تتوقف على ثروة البلاد، على ثرواته الطبيعية، تتوقف على حجم ونوعية العمل المقدم، تتوقف على قدرات البلاد على تصدير المواد الاولية التي هي بحاجة اليها وتصدير ما يمكن ان يعوض ثمن الواردات. هل الاشتراكية مخصصة للفقراء؟ اخمن تساؤلا للقراء، في التاريخ كان الفقراء والبؤساء هم المطالبون بالاشتراكية للخروج من وضعيتهم . واذن لماذا قد يكون اناس ميسورون، بورجوازيون ممثلون للطبقة «المتوسطة». قد يكونون اشتراكيين؟ سؤال جيد. بدون شك يجب اولا تحديد مفاهيم الفقر والبؤس، يتعارض مع مفهوم الغنى. ليس الفقر غير مفهوم نسبي، نكون فقراء لأن آخرين أكثر غنى. يختلف الفقر عن البؤس. البؤس حالة ليست بحاجة الى مقارنة لكي تكون مستساغة. البئيس أو المقدم هو الذي لا يمكنه مواجهة احتياجاته الاساسية: ان يأكل، أن يحمي نفسه من البرد والمرض على العكس من ذلك، الفقر لا يستساغ إلا مقارنة مع وضعية شخص اغنى. يكون الانسان دائما فقيرا من شخص وغنيا من شخص آخر. بامكاننا تلبية كل الحاجيات الاساسية. بل حاجيات زائدة عن الحاجة، نحس اننا فقراء عندما لا نتمكن من الوصول الى منافع لدينا رغبة فيها والتي بامكان اخرين الحصول عليها. بناء الاشتراكية بناء متواصل ليست الاشتراكية ابتكارا لهؤلاء الذين كانوا غارقين في البؤس. فنادرا ما يكون لهؤلاء الوقت للتفكير في تغيير العالم. فالاشتراكيون يتشبثون بالمسار الديمقراطي كهدف وكوسيلة. كهدف لأن هدفهم هو الغاء التبعيات التي قد يكون بامكانها ان تثقل كاهل الانسان وجعل حرية ممارسة جميع حقوقه وجميع قدراته ممكنة بالنسبة له. فالاشتراكية بدون الحريات الديمقراطية قد تكون لغوا. كوسيلة لأن الحريات الديمقراطية يجب ان تسمح بالنقاش السياسي، بتقدم الافكار الاشتراكية. اعترف ان المعركة الاشتراكية معركة صعبة. او لأن الاشتراكية هي البحث عن توازن في عالم يسير بالطبع باتجاه الافراطات. لأن الفكرة الاشتراكية نفسها فكرة معقدة. ولكن ايضا لأن الشروط التي يفرضها الاشتراكيون على انفسهم تجعلها اكثر صعوبة في الارتقاء بها. بحيث ان بعض الاشتراكيين المناضلين او القياديين نفد صبرهم و اصابهم الاحباط. لذلك حاولوا التخلي عن المعركة الاشتراكية او تشويه صورتها. اعتقدت دائما ان الاشتراكية كانت الرؤية السياسية للعالم الاكثر صعوبة تفسيرها. فهي تسير في تعاكس لجميع الغرائز، لجميع ردود الفعل، لجميع الثقافات، لجميع اشكال التربية السائدة. الرأسمالية هي قانون الغاب. انها قانون الاقوى. اننا في مجتمع حيث لا ينبغي الحصول على شيء دون عمل، دون تعب ودون تضحية.. لا تحصل على شيء من دون شيء، فأنت لا تتوفر إلا على ما تستحق. أما عكس ذلك فقد يكون من قبيل اللاأخلاق. أجل من الصعب ان يكون الانسان اشتراكيا. لأن الناس يقبلون بصعوبة ماهو تفرد، تسامح، توازن، لانهم يريدون دائما فرض وجهة نظرهم، نمط عيشهم، لأن التسامح، احترام التوازنات هي العلامة عن حضارة حقيقية. الاشتراكية هي رفض التجاوزات، لأن الناس ينتهون دائما الى المعاناة من الافراطات، لان التطرفات والتجاوزات تفضي الى الديكتاتورية. اننا مع المبادرة الفردية، لكننا نرفض ان نمارس على حساب الآخرين، لسنا معادين لروح المنافسة، لكننا لا نرغب ان نمارس الا في مجالات محدودة ومقننة. وان لا نضر بهؤلاء الذين لا يساهمون فيها. هذا ما يدفعنا الي البحث عن التوازن بين ضرورة تقديم اجابات مباشرة لحاجيات الناس. من هنا رفضنا «للتياسر» ولسياسة الفظاعة والتخوف من افساد جودة رسالتنا. نبحث عن التوازن بين الامل والفعل الملموس، بين المثالي والواقعي، علينا ايجاد التوازن المعقول بين المشاركة الضرورية في السلطة التي ترتقي بوضعية العاملين وبين ما قد يدمرهم. تأتي احدى الصعوبات من كون الاشتراكيين لا يقترحون نموذجا مجتمعيا جاهزا. لعله قد يكون «واعدا» تؤكد اننا نقترح منتوجا جاهزا، متضمنا لكل الاجابات، حاملا لجميع الاستجابات المطلوبة والمنتظرة، ليس هذا هو الحال، ولن يكون هو الحال. بالاضافة الى ذلك ليست للاشتراكيين النية على الاطلاق في فرض نموذج كيفما كان ضدا على إرادة الشعب. الهدف الوحيد للاشتراكيين هو - وهو هدف لا محيد عنه - هو جعل الاقتصاد في خدمة الانسان - وإلغاء كل أشكال التبعيات. يمكننا أن نعتبر أن الاشتراكيين يتوفرون على رؤية شاملة للمجتمع بمعنى انهم يمتلكون مفتاحا لفهم هذا المجتمع ومشاكله أو الاسئلة التي يطرحها، لكن هذا المفتاح هي البحث عن أكبر حرية ممكنة. يكون اشتراكياً كل عمل يقلص من الصعوبات والمشاكل، ولا يكون اشتراكيا كل عمل يفاقم الصعوبات. لن يكون هناك يوم ثان ونقول فيه: «آه، ها نحن في مجتمع اشتراكي». البناء الاشتراكي وبناء الاشتراكية بناء دائم. الاشتراكية أفق. فأن تكون اشتراكياً ليس بالطبع أن تدير ظهرك لهذا الأفق. سيكون هذا هو الحال لو تخلى الاشتراكيون عن الأهداف المؤسسة للاشتراكية. من الصعب إفهام الآخرين أن الاشتراكية معركة دائمة، وان الوصول الى السلطة لا يتجسد في البناء الفردوسي الذي ينتظر كل فرد. ذلك أن الاشتراكية لا تقترح المجتمع المثالي، بل حركة دائمة تهدف الى تحرير الإنسان من جميع التبعيات والخضوعات التي تضطهده أو تتربص به. فالمعركة السياسية معركة مخيبة في الغالب ودائماً صعبة. والنقاش الديمقراطي يفتح الباب أمام مناقشات، بحيث يمكنه أن يرهق عديمي الصبر. تستلزم الحياة الديمقراطية نقاشاً حقيقياً، وبالتالي اختياراً حقيقياً. تفرد الاشتراكيين هو منح اختيار بين المجتمع الرأسمالي الذي يقوم على قاعدة قديمة قدم العالم، ومجتمع يقدم الوسائل لاستمرار القيم التي تحلم بها البشرية على الدوام. على الرغم من الصعوبات، على الرغم من هيمنة الإيديولوجية الليبرالية التي اعتبرها عابرة، فإن دورنا نحن الاشتراكيين هو الإفصاح عن الطريق، وأن لا نتخلى أبداً على إقامة كل الاجراءات التي تسفه السلطة الرأسمالية بالفعل وبقوة. هامش: 1) كتاب؟le socialisme c,est quoi لمؤلفه جاك فلوري، 204 صفحة.