1 أوّل الغيث ! خَبِرَ الجنرال شارل دوغول أهمية الإعلام، والتواصل مع الجمهور، من تجربته في مخاطبة الفرنسيين إبّان الاحتلال الألماني لبلاده (1)، عبر إذاعة بي بي سي BBC، وكان الجنرال من كبار المدافعين عن حرية الرأي والتعبير وحين سئل مرة عما سيفعل، بصحافي هاجمه هجوماً عنيفاً، أجاب: هل يعتقل فولتير ؟! وكان الجنرال يدرك جيداً أن الإعلام سلاحٌ فعّال وضروري للدول الكبرى ! دوغول العسكري، والسياسي العملاق، الذي أحب الشرق، واعتبره مضماراً حيوياً واستراتيجياً لمصالح بلاده، وعرفه بدقة، وزار دوله قبل أن تحقق الاستقلال عن الانتداب الفرنسي، أيقن أن لحرب يونيو 1967 والتي تسمى بحرب الأيام الستة، بعداً سياسياً، ستكون له تداعيات في منطقة الشرق الأوسط، المرشحة للمزيد من الفوضى، وعدم الاستقرار، فأوعز بتأسيس إذاعة فرنسية القلب عربية اللسان تكون جسراً للتواصل بين فرنسا والعرب (2) ومن اجل إسماع صوت مختلف في الشرقين الأوسط والأدنى وكلف حينها «بيير لو فرون» مدير شركة «سوفيراد للبث الإذاعي» بالمهمة وتم اختيار قبرص كمحطة انطلاق للبث نحو الشرق، ولتحقيق حزمة أكبر من البث الإذاعي تم الاتفاق مع الحكومة القبرصية على إنشاء محطات تقوية للبث، ولكن لرفع الحرج عن قبرص مع بريطانيا، تملكت شركة سوفيراد مجموعة أسهم في راديو مونت كارلو الواقع في إمارة موناكو، وتم إطلاق الإذاعة الجديدة عام 1972 بنفس الاسم، ولكن بإضافة تميزها عن الأخرى ليصبح الوليد الإعلامي الفرنسي الجديد راديو مونت كارلو الشرق الأوسط، و فيما أسرة الأخبار في باريس، برئاسة الزميل أنطوان نوفل كانت أسرة البرامج تقيم في موناكو. 2 الصّعود نحو القمّة ! وجد المولود الإذاعي صدى، ونجاحاً جماهيرياً واسعاً، واحتلت مونت كارلو الشرق الأوسط مكانة مرموقة، إلى جانب محطة إذاعية مرموقة و احترافية عالية المستوى هي BBC (بي بي سي) العربية تأسست في يناير 1938 ودخلت معها حيز التنافس، لأن الأسلوب، والموضوعية، والاستقلالية التي انطلقت بها الإذاعة، لم يعتدها المستمع العربي سوى من BBC ، ووجد نفسه أمام وسيلة إعلامية جذابة في برامج منوعاتها ،ولا تنطق باللغة الخشبية التي يستخدمها الإعلام الرسمي العربي . كان فريق عمل الإذاعة، من مذيعي الأخبار، ومقدمي البرامج نجوماً لدى المستمع العربي، يتمتعون بقدر عال من المهنية، والإحساس بالمسؤولية الملقاة عاتقهم، ونحتت في ذاكرة، وعقول الملايين، من المستمعين العرب أسماء لامعة براقة منهم :( الراحل حكمت وهبي، رواد طربيه، وأنطوان بارود، وحنا مرقص، وهيام حموي، وسناء منصور، وجورج قرداحي). كان للمهنية العالية، والاستقلالية الدور الأساس في نجاح الإذاعة، وتحقيق نسبة فلكية في نسبة المستمعين، وحتى في نسبة الإعلانات، حيث تشير المعطيات الرسميّة إلى مبلغ 4 ملايين دولار عام 1985 كأرباح صافية من الإعلانات، مما حقق للإذاعة الاكتفاء المالي الذاتي، لتأكيد استمرارها كمؤسسة إعلامية، ومستقلة ورابحة أيضاً. لكن سرعان ما تدهور سعر النفط والدولار، مما أثر سلباً على نسبة الإعلانات، وبدأت مرحلة الضائقة المالية، وفي عام 1996 كانت المحطة الفاصلة في تاريخ الإذاعة، إذ أصبحت مملوكة بالكامل للدّولة الفرنسية، لتكون بذلك مونت كارلو الشرق الأوسط بمثابة القسم العربي لإذاعة فرنسا الدولية، أي « صوت الدبلوماسية الفرنسية في العالم العربي « و بعد أن أصبحت الإذاعة لا تمت للمحطة الأساسية في موناكو بصلة سوى الاسم ، تقول الزميلة الإعلامية القديرة إنعام كجه جي في مقال لها «كان لا بد من الخروج من معطف مونت كارلو، بعد أن تقطع الحبل السرّي مع المحطة الأم منذ سنوات، والبحث عن تسمية جديدة لا تشكل قطيعة مع الاسم السابق والمألوف. و تمّ الاتفاق على إضافة صفة «الدولية» إليه، بضم الدال وفتح الواو، نسبة إلى الدول، رغم آراء علماء اللغة في عدم جواز النسب إلى الجمع، بل إلى المفرد. وعليه يكون أنطوان نوفل قد سجل نقطة في مرمى إذاعته السابقة عندما سمّى مجلته «الدولية» بفتح الدال وتسكين الواو، نسبة إلى الدولة، محترماً آراء النحاة الذين ما عادت لهم سوق رائجة في الإعلام العربي عموماً «. ويمكن القول إن الأوائل من مذيعي ومقدمي برامج وأخبارمونت كارلو الشرق الأوسط منذ السبعينات وحتى التسعينات الفضل في تطوير الفن الإذاعي لكن بالتأكيد إلى جانب إذاعة بي بي سيBBC العربية بيد أن مونت كارلو الشرق الأوسط تعتبر الأم الحنون التي ولدت من رحمها إذاعات الأغاني ومهدت الطريق والتربة الخصبة لإذاعات موجة FM الصعود نحو القمة ليس أمراً صعباً إن توفرت له العناصر الأساسية، إلا أنه ليس بالأمر السهل، بيد أن ما هو أصعب و بالتأكيد البقاء في القمة. 3 رمالٌ متحرّكة منذ حقبة التسعينات بدأت مونت كارلو الشرق الأوسط تعيش عصرا لرمال المتحركة نتيجة الخلل في الموازنة المالية، وصولاً إلى تملكها من الدولة الفرنسية تحت جناح إذاعة فرنسا الدولية وشهدت تلك الحقبة والتي مازالت مستمرة مراحل مضطربة لها العديد من الأسباب والنتائج، ساهمت إلى جانب العديد من العوامل الخارجية في تراجع مونت كارلو الدولية عن عرش المنافسة مع BBC وخسارة نسبة لا بأس بها من المستمعين العرب لصالح وسائل إعلامية أخرى.