نصوص أنيس الرافعي، التي سماها «قصصاً صوتيةً»، والمتضمنة في هذا الكتاب «اعتقال الغابة في زجاجة»، قد لا تنسجم أو تتوافق - هذه النصوص - مع ذائقة القارئ الذي تآلف مع أنماط معينة من القصص، التقليدية غالباً، ذات البنى السردية والعناصر الفنية الواضحة والمألوفة، وقد لا تستميل أو تستدرج، هذه النصوص، ناقداً يحمل مفاهيم ومعايير محافظة أو راسخة. القصة عند الرافعي تتخذ شكلاً آخر لم نتعود عليه بعد. الشكل الذي يشعرنا للوهلة الأولى أنه داجن وأليف يتضح بعد قليل أنه مراوغ ومتملّص. أشياء الواقع التي تبدو ظاهرة، جلية، ملموسة هي مجرد بوابات للعبور من خلالها إلى الداخل، العميق، الغامض، والذي يصعب الإمساك به. الصور التي تتداعى من مصدر ما، سرعان ما تجد لنفسها فضاءً تنفلت فيه وتتفكك وتتشظى لتعيد ترتيب عناصرها وفق هواها.. أو هكذا يتراءى لنا. والرافعي لا يقدم لنا رؤيته لعالمه الخاص بلغة مكشوفة، مباشرة، منظمة، مصقولة.. بل بلغة متوترة، مرتبكة، متعثرة، متشظية.. تتسم بالتكرار، لكنها بالتأكيد مدروسة بعناية من أجل خلخلة الطرائق التي بها نتلقى وندرك ونفهم الأشياء. ثمة شرَك آخر يضعه الكاتب في دربنا: كل نص، في المجموعة، مذيّل بإشارة إلى مرجع بصري هو عبارة عن فيلم سينمائي عالمي. يقع في الشرَك ذاك القارئ الذي يحسب أن القصة ترجمة لفظية لمضمون الفيلم/المرجع، أو يحسب أن هناك علاقة مباشرة، وعضوية أو جدلية، بين القصة والفيلم فيباشر بالبحث عن هذه العلاقات والروابط.. في حين أن المراجع البصرية محض منارات تضيء المسالك إلى كتابة خاصة يريد الكاتب من خلالها أن يسبر ذاتاً تعاني من أزمة خاصة بها ولا تتصل بذوات الفيلم. أنيس الرافعي ليس حامل معول يرغب في تغيير واقعه كي يجعل منه مكاناً آمناً للبشر، بل هو شاهد على عالم خارجي في حالة تصدّع. إنه يقف خلف نافذته راصداً ذلك التفكك، التحلل، الانهيار التدريجي. ثمة كارثة وشيكة في الخارج. لكن أليس هذا التصدّع انعكاسا لتصدّع أعمق، وأكثر خطورة، في الداخل.. في النفس التي هي مسكن غير آمن.. حيث الصدأ يعلو كل شيء، حيث الزوبعة تنتظر هبوبها العظيم، حيث الأشباح التي تحمل وجوهاً كانت في الأصل أقنعة، حيث الزمن الذي لا يكترث، حيث الانفصام المحتوم، حيث الكوابيس الزائرة وقتما تشاء. والراوي/ الكاتب إزاء المشهد الماثل، الآيل للتشظي، يتأرجح بين الغياب والحضور، بين الفراغ والامتلاء، بين الضوء والظلام، بين الرؤية والعماء، بين الوعي واللاوعي.. أنيس الرافعي صوت قادم من المغرب كي يرجّ، بجدّته وجرأته، ما ترسّخ وما استقرّ فينا.. فاصغوا إليه جيداً. (٭) كاتب من البحرين (٭٭) أنيس الرافعي .. اعتقال الغابة في زجاجة .. قصص صوتية . دار أزمنة ، ط1، عمان ،2009.