تقوم فرقة الراب «غزة تيم» خلال الفترة من 6 فبراير إلى 2 مارس 2009 بجولة تهم مجموعة من المدن المغربية، وذلك بدعم من السفارة الفرنسية. الفرقة تتكون من فرنسيين من أصول جزائرية وثلاثة فلسطينيين، وأصدرت أول ألبوم غنائي لها. وما يميزها أن أعضاءها الذين اكتشفهم فنان الراب الفرنسي من أصول جزائرية، «نايلي» يقاومون الاحتلال بالموسيقى والكلام والكتابة، إذا أثبتوا أنهم استطاعوا أن يمتزجوا بالقضية الفلسطينية بالاستماع إلى نبض الشارع الفلسطيني، وأن يغنوا الراب الذي بإمكانه أن ينقل القضية، كما يعيشها الشعب، لا كما يتداولها السياسيون.. وهم رغم الهندام الذي لا يميزهم عن فناني «الهوب في كل مكان (سراويل «الجينز» الفضفاضة وقبعات «البتلز» وقمصان «جوردان» وأحذيته الرياضية والعسكرية الباذخة)، فإنه استطاعوا أن يصنعوا التميز بالكلام.. لعل أفضل شيء يفعله شباب غزة الذي يؤمن بانتمائه إلى شجرة المقاومة هو أن يرتفع، في زمن الحرب، إلى سماء أخرى؛ هذا على الأقل ما تترجمه أحلام ثلاثة شبان فلسطينيين أدركوا أن الكلام يمكنه أن يتحول إلى حجارة، وأن موسيقى «الراب» قد تصعد بالانتفاضة إلى فوق، خاصة إذا كانت قامة الكلام أعلى قليلا من وابل المقنبلات وفوهات المدافع. «خالد أبو حميد» و«محمد النجار» و«نور أبو عيد»، ثلاثة فلسطينيين من غزة، من تلك الأرض التي يزدهر فيها الموت بجثث تضخ دماءً نقية. كلهم كانوا يقرؤون- قبل أن يوحد بينهم الراب- بضعة صفحات كل يوم من كتاب الناس المتلهفين للصدق والحرية، قرأوا لمحمود درويش وسميح القاسم ومظفر النواب وغسان كنفاني، وعقدوا العزم على الاستنجاد بأفضل ما فيهم، لمواجهة الاحتلال بيقظة وصمود وأمل. فلسطينيو«غزة تيم» لايسيرون مترنحين من الحلم، بل يحملون خطابا نقديا جارحا بالفعل، يعضدون به «القضية» التي تولد وتكبر مع كل فلسطيني. ولأنهم أدركوا أن القضية أكبر من أن تُعلَّب في «انتماء» سياسي أو إيديولوجي، اعتنقوا موسيقى «الراب»، موسيقى الغضب والهامش والشباب.. فإذا كان الكل، في زمن «الستربتيز العربي» (الرقص العاري)، يلهث نحو لاشيء، أو نحو قطعة لحم حية بأقل من نصف ثياب، أو أشياء صغيرة وتافهة، فإن فرقة «غزة تيم»، ترفض أن تنزل إلى المستنقعات الفاحشة للرداءة، والسلاح الذي تسدده إلى تجار «الحرب والسلام» هو الكلام كفعل وليس كثرثرة، كرصاصة وليس كمروحة. أصل الحكاية من كشف الحجاب عن هذا الباطن الفلسطيني الغني بالمعنى والثري بالغضب؟ إنه الشاب الجزائري «نايلي» (نسبة إلى قبيلة بني نائل الجزائرية)، الممتلئ حتى الأخامص بفلسطين، وبغضب لا يعرف كيف وجد الطريق إلى قلبه وهو يعيش سقوط بغداد، وهو يعاين كيف يتلقى العرب هزيمة تلو هزيمة بصدور مشرعة وأرواح مطمئنة وابتسامة يعلوها عقال على كوفية. كان «نايلي»، حينما كتب قصيدة «غضبة الثائرين»، يصد هجوما شرسا على عروبته المستباحة.. في أول الغضب، تمنى أن يلتحق بمقاتلي المقاومة، رأى نفسه يحمل بندقية «منتصب القامة يمشي، مرفوع الهامة يمشى، في كفه قصفة زيتون، وعلى كتفه نعشه».. وفي أوج الغضب، اقترب من ضوء الكتابة، أحس به يتسلل إلى داخله.. ويفيض ويفيض ويفيض حتى غمر كل كيانه كأحلام جديدة تمتد إلى كل جرح عربي. منذ ذلك الحين، بدأ يصاحب أعمق ما في الإنسان: (الوطن، الكرامة، الفرح، الألم، الكبرياء، الحب، الأرض..إلخ)، وهي المعاني التي تعود لزمن الفرسان، وتبتعد سنوات ضوئية عن ممالك الخصيان وأتباع القنوات الفضائية العارية أو الممجدة للآخرة. لما أكمل تعليمه الثانوي بالجزائر، رحل إلى فرنسا التي ولد بها وغادرها في السادسة رفقة والديه. وكأي شاب مزود باختلافه، انحاز إلى موسيقى «الراب»، وأسس فرقة «نايلي كلان» التي لم تراهن، كغيرها من أغلب المجموعات العربية، على تقليد «الأمريكيين» ومزاحمتهم في ثقافتهم وأساليبهم اللغوية وهندامهم وحركاتهم الراقصة، بل راهنت على «جودة الكلام» ومرونة الأنغام. أما تأسيس فرقة «غزة تيم»، فتلك قصة أخرى! قد يتساءل سائل عن إمكان إنبات أرض تسيطر عليها حكومة ملتحية (حماس) لفرقة «هيب هوب»، لكن الشاب الفلسطيني «خالد أبو حميد» يوضح: «غزة ليست هي حماس، وأنا لا أنتمي لا إلى حماس ولا إلى فتح، وكثيرون مثلي يريدون أن يكون لهم دور في بلادهم، وأن يناضلوا بالسلاح الذي يرونه مناسبا، وأن يقاوموا بالموسيقى والكلام والكتابة، وأن يمتزجوا بالقضية الفلسطينية بالاستماع إلى نبض الشارع الفلسطيني، وأن يغنوا الراب الذي بإمكانه أن ينقل القضية، كما يعيشها الشعب، لا كما يتداولها السياسيون. صحيح أننا في غزة لا نتوفر على استوديوهات حرفية، لكن «نايلي» ساعدنا كثيرا». قصة «نايلي» مع «غزة تيم» بدأت في العام 2005 حينما شارك كلفه «المركز الثقافي الفرنسي» بتأطير ورشة عمل فنية وغنائية في الأراضي الفلسطينية. كان «نايلي» مسؤولاً عن المهارات الكتابية وتقنيات كتابة نصوص الراب حينما فوجئ بأن ثلاثة شبان فلسطينيين عرفوا كيف يتسلقوا المدارج، وكيف يحافظ على ألق «الاستعارة»، وعلى درجة حرارة الدم الفلسطيني المستباح. كان هذا الثلاثي يدرك أن « موسيقى الهيب هوب- كما يقول لورانس باركر- تتجاوز الترفيه والمتعة، وأنها سلوك ووعي ومنظور لرؤية العالم». ولذلك، استمروا في التقدم بثبات إليها حتى قبل أن يداهمهم «نايلي» بإعجابه. كانوا يدركون أن موسيقى الراب تتقدَّم في أشكال ولهجات مختلفة في كافة أنحاء العالم، من ضواحي مدينة كانساس سيتي إلى أزقة بيروت والأردن و القاهرة وتونس ووهران والدارالبيضاء وفاس ومراكش. وكان هذا سببا كافيا لإقناع الشاب الجزائري «نايلي» بأهمية رعاية تلك الطاقات الفلسطينيةالشابة ، حيث تعهد رفقة فرقته الموسيقية «نايلي كلان» برعايتها إلى أن انتهى به المطاف إلى تأسيس فرقة «غزة تيم». وهكذا تكونت الفرقة من خمسة أعضاء فرنسيين من أصل جزائري (نايلي ومراد) و ثلاثة فلسطينيين (محمد ونور وخالد). يقول «نايلي» الذي كان يرتدي مثل رفاقه قبعة رياضية وكوفية فلسطينية: «تطورت بيننا علاقة صداقة وقررنا تشكيل فرقة إلى جانب ثلاثة آخرين محبين لغزة من مدينة دينوك الفرنسية، حيث تجمع المدينة مع غزة علاقة توأمة. وبالفعل سارت الأمور سريعاً لنعرض في فرنسا في العام 2007، حيث سجلنا أول ألبوم «فلسطين لا تقلقي». ويجب التنبيه هنا أن ميلاد فرقة «غزة تيم» لا علاقة له بأحداث غزة الأخيرة، لأن الشعب «الغزاوي» يعيش الحرب كل يوم، وشهداء الحصار يسقطون كل يوم بدون رصاص». كيف عاشوا الحرب «إذا عاش طفل في ثقافة يلقى فيها المجرم تأييدا فإنه سيشعر بارتياح أكبر لعدم التعاون مع المجرم. وسيحاول، كلما سنحت الفرصة، الوشاية به وفضحه»، هذا على الأقل ما يؤمن به فنانو الراب في كل مكان. أما فرقة «غزة تيم» التي لم تكن تطمح أبدا إلى أن تنظر بهلع إلى جثث الأطفال التي تفترش الخرائب، ولم تكن في عيون أعضائها أي نظرة وداع لأرض الشهداء. كانوا يريدون أن يتحولوا إلى «رسل سلام»، وأن يغنوا لفلسطين، لما اندلعت النيران وتساقط وابل الرصاص من سماء داكنة. كانت المقنبلات تقصف المدنيين بجنون، وكانت «غزة تيم» تحتمي بالجدران، وبأغاني شعراء فلسطين، وأحلام المناضلين.. «أحداث غزة الأخيرة- يقول خالد أبو حميد- أربكت عملنا، حيث كان في انتظارنا برنامج مزدحم في أوربا، كانت التأشيرات من غزة جاهزة ولفترة طويلة، ولم نتمكن من الخروج سوى مع هدم الجدار الفاصل مع مصر، حيث وصلنا إلى القاهرة فيما يشبه فيلم إثارة. لم يسمحوا لنا بالمرور من معبر رفح، وفضلنا أن نعبر على طريقتنا، وأن نتحدى الجدران. هناك في غزة، رغم أننا نتوفر على شوارع ومنازل وإدارات، لكننا نشعر أننا في سجن كبير مطوق بالحراس المتحفزين لإردائنا قتلى. في أول محاولة، تم توقيفنا وإعادتنا إلى القطاع، وفي المحاولة الثانية سلمت الجرة.. ولقينا تجاوبا كبيرا خلال الجولة الفنية التي قمنا بها داخل فرنسا وبلجيكا، والسر أن «الكلمة تهمنا»، لأنها تعبير عن جوهر هويتنا المتعددة المشارب. إننا في الفرقة نركز أصلاً على تقديم رؤية شبابية وواقعية بعيداً عن البكائيات وبعيداً عن الابتذال أيضاً..». ضد الابتذال اللافت للانتباه في كلمات «غزة تيم» أنها تشتغل على النهر الفلسطيني الحي (درويش وسميح القاسم.. وآخرون). فأن يختاروا السباحة في الحمامات البركانية الساخنة، وأن يقتربوا من الخطر، وأن يروضوا عروبتهم بالتناوب على تلك الصرخة الدائمة، فهذا معناه الراب كأداة إيديولوجية هجومية قادم: «سجِّل! أنا عربي ورقمُ بطاقتي خمسونَ ألفْ وأطفالي ثمانيةٌ وتاسعهُم.. سيأتي بعدَ صيفْ! فهلْ تغضبْ؟ سجِّلْ! أنا عربي وأعملُ مع رفاقِ الكدحِ في محجرْ وأطفالي ثمانيةٌ أسلُّ لهمْ رغيفَ الخبزِ، والأثوابَ والدفترْ من الصخرِ ولا أتوسَّلُ الصدقاتِ من بابِكْ ولا أصغرْ أمامَ بلاطِ أعتابكْ فهل تغضب؟ سجل أنا عربي أنا اسم بلا لقبِ صبورٌ في بلادٍ كلُّ ما فيها يعيشُ بفورةِ الغضبِ جذوري... قبلَ ميلادِ الزمانِ رستْ وقبلَ تفتّحِ الحقبِ وقبلَ السّروِ والزيتونِ .. وقبلَ ترعرعِ العشبِ أبي.. من أسرةِ المحراثِ لا من سادةٍ نجبِ وجدّي كانَ فلاحاً بلا حسبٍ.. ولا نسبِ! يعلّمني شموخَ الشمسِ قبلَ قراءةِ الكتبِ وبيتي كوخُ ناطورٍ منَ الأعوادِ والقصبِ فهل ترضيكَ منزلتي؟ أنا اسم بلا لقبِ سجل أنا عربي ولونُ الشعرِ.. فحميٌّ ولونُ العينِ.. بنيٌّ وميزاتي: على رأسي عقالٌ فوقَ كوفيّه وكفّي صلبةٌ كالصخرِ تخمشُ من يلامسَها وعنواني: أنا من قريةٍ عزلاءَ منسيّهْ شوارعُها بلا أسماء وكلُّ رجالها في الحقلِ والمحجرْ فهل تغضبْ؟ سجِّل أنا عربي سلبتَ كرومَ أجدادي وأرضاً كنتُ أفلحُها أنا وجميعُ أولادي ولم تتركْ لنا.. ولكلِّ أحفادي سوى هذي الصخورِ.. فهل ستأخذُها حكومتكمْ.. كما قيلا؟ إذن سجِّل.. برأسِ الصفحةِ الأولى أنا لا أكرهُ الناسَ ولا أسطو على أحدٍ ولكنّي.. إذا ما جعتُ آكلُ لحمَ مغتصبي حذارِ.. حذارِ.. من جوعي ومن غضبي» بالكلمة تحاول «غزة تيم» أن تهدم الجدار. وب «القلوب التي تحكي» تحاول أن تفضح الرياء العربي من الماء إلى الماء. وب « الراقصة والسياسي» تحاول أن تمتطي باروديا ساخرة لتسجل المفارقات العربية الطاعنة في الرقص ومطاردة الشهوات. فإذا كانت الراقصة- يقول نور أبو عيد- تعري جزءا من جسدها، فإن السياسي يعري جسد الشعب. وب«سقط القناع عن القناع» يحاصرون حصارهم ويضربون عدوهم: سقطت ذراعك فإلتقطها وسقطت قربك فإلتقطني وإضرب عدوك بي فأنت الآن، حرٌ وحرٌ وحرٌ قتلاك أو جرحاك فيك ذخيرة فإضرب بها عدوك فأنت الآن، حرٌ وحرٌ وحرٌ حاصر حصارك بالجنون... بالجنون ذهب الذين تحبهم... آه ذهبوا فإما أن تكون أو لا تكون فأنت الآن، حرٌ وحرٌ وحرٌ وب«غضبة الثائرين» يسددون خراطيم مياههم نحو أمراء التخلف والظلام، ونحو مصاصي الدماء والمتاجرين في آلام البشر ومهربي الشباب ومحرضيهم على الارتماء في البحر ليصيروا وليمة للأسماك، ونحو الغربة وأحزان الحنين إلى الوطن، ونحو العنصرية.. «الهيب هوب» المغربي لم يخف «نايلي» احترامه لتجربة «الهيب هوب» المغربية وإعجابه بها، حيث يعتبرها تجربة رائدة في الوطن العربي، نظرا للدعم الذي تلاقيه من طرف السلطات. فمع مجموعات مثل «الفناير» و«هوبا هوبا سبيريت» و«دركة» و«كازا كرو»، وهي المجموعات التي لم يلتق أعضاءها، صارت التجربة المغربية أكثر تنظيما مقارنة مع التجارب العربية الأخرى. غير أنه لم يتردد رفقة أغلب أعضاء «غزة تيم» في إعلان اختلافه مع مغني الراب «بيغ الخاسر» الذي قال إنه قدم أغاني بكلمات عارية. ف «لا قيمة إيجابية- يقول «نايلي»- لكلام لا يحترم الخصوصية الثقافية لبلاد لها تقاليدها. قد يقول «لكم لغتكم ولي لغتي»، لكن بالنسبة لنا الفن الذي لا يقتحم البيوت لا يستحق أن يحمل هذا الاسم». ورغم ذلك- يقول الفلسطيني خالد أبوحميد- نحن نحترم تجربة «البيغ»، وما يهمنا نحن هو أن نقدم تجربة تتميز بالجودة والاختلاف. نريد، كجيل فلسطيني جديد قدره أن يحمل قضية مصيرية بالنسبة للعرب والمسلمين، أن نقدم قيما وأفكارا مغايرة، نريد أن تتضمن أغانينا شيئا من الإبداع والبحث والاجتهاد وتطويرالذات والبحث لها عن منافذ إبداعية جديدة. مهرجان «البولفار» الذي يقام في الدارالبيضاء وصل صداه الطيب إلى «غزة تيم» التي تتمنى أن تشارك فيه، لمعاينة ذلك المزيج الرائع من تجارب الهيب هوب المغربية والدولية، وليقدموا وصلات يعبرون فيها عن سعيهم للسلام عبر هذا «الفن المتمرد الذي أقامه شباب لمقاومة العنف عن طريق الفن».