ولذلك فقبل أن نتساءل عن درجة الحس المدني والوعي الحضري والحضاري بمدننا، علينا أن نتساءل عما أنتجته سياساتنا العمومية والمحلية، على صعيد الأحياء السكنية الإجتماعية بمواصفات تقنية وهندسية وجمالية تليق بساكنة مدننا، وعما أقامته من مؤسسات إنتاجية وصناعية وخدماتية توفر فرص الشغل والعمل لشبابنا، وعما وفرته على صعيد ولوج الساكنة للخدمات العمومية، من نظافة ونقل وصحة وتربية وترفيه وثقافة ورياضة...وعما بلورته منظماتنا السياسية والمدنية والحقوقية، من قيم مواطناتية وإنسانية ومبادرات تضامنية، على صعيد نظمنا الأسرية وأنساقنا التربوية والمهنية والثقافية والإعلامية والعلمية. فقبل أن نتساءل عن درجة الوعي الإجتماعي المدني والسياسي عند ساكنة ضواحينا الحضرية، ينبغي أن نعترف بأن للغالبية العظمى من هذه الساكنة، الوافدة والجديدة، تجارب مشتركة، قاسية أحيانا ومؤلمة ومؤثرة، في العيش والوجود والتطلع والطموح والإرتقاء الإجتماعي، وأن لهم مشاكل تتعلق بالإقصاء الإقتصادي، والإستبعاد الإجتماعي والإجتثات الثقافي، وعدم التأهيل المادي والمعرفي والمهني..وهو ما يضاعف من وضعياتهم المتأزمة والقلقة، ويؤجج أحيانا من درجة التصعيد ضد كل نظم الضبط والتقنين و الشرعنة والتقليد داخل المجتمع، مما أصبح ينتج في الكثير من الأحيان والأماكن، ردود أفعال احتجاجية، كامنة أوظاهرة، تريد إبراز حقوق إقتصادية أو إجتماعية أو مدنية معينة، والمطالبة بالمساواة المجالية والترابية والإجتماعية والثقافية، والتنديد باختلاسات مالية أو بخروقات وسلوكات تسلطية بائدة، أو بإرتفاعات صاروخية في فواتير إستهلاك الماء والكهرباء وفي أثمنة المواد الغذائية الأساسية...إلخ، وكل ذلك في وضعية تأزم إقتصادي داخلي ودولي، وشبه فراغ بنيوي على صعيد مؤسسات وفعاليات التاطير السياسي والنقابي والتعبئة الإجتماعية، للدفاع عن الحقوق المهضومة والمطالب المشروعة...مما قد يغذي الفوضى والإنحراف، ويسقطنا في قيم مضادة للإجتماعي أو متعارضة مع المجتمع، وينذر بحدوث قطيعات إجتماعية وثقافية، تهدد التضامن الأفقي والعمودي للبنيان أو العمران المجتمعي برمته. وهكذا، فإذا كانت السوسيولوجيا الحضرية، وخاصة منها سوسيولوجيا الضواحي والهوامش، تثير مثل هذه القضايا وتخرجها من صمتها الصادم والمدوي، فإنها لا تفعل ذلك إلا من أجل المساهمة في إنتاج معرفة قريبة من/ وعن المجتمع الحضري، معرفة من شأنها أن تساهم بدورها في تخصيب وترشيد السياسات الإبتكارية والخلاقة في مجال التدبير الحضري المندمج، تلك السياسات التي تعمل جاهدة على تعديل وتجديد قدرات الكيانات الترابية الحضرية على الإستمرار في الوجود، بما يضمن وضع الحلول الملائمة والممكنة للمشاكل والإنشغالات المتعلقة بشؤون الحياة وبعمليات إتخاذ القرارات، الإدارية والسياسية والإقتصادية والإجتماعية، سواء فيما يتعلق بالقطاع العمومي أو القطاع الخاص؛ ذلك أن المدن ومحيطات المدن التي ننشأها ونجددها اليوم، ينبغي لها أن تستجيب لحاجيات ساكنتها في غضون الثلاثين أو الخمسين أو المائة سنة المقبلة. وما دامت الشروط المرتبطة بالإستهلاك وبالإنتاج وبالبيئة أيضا، ستكون مختلفة ومتنوعة، ينبغي علينا أن ندرك ضرورة حماية ما هو كائن وتعديل أو تغيير ما يريد أن يكون. إن بناء وإعمار المدن اليوم وغدا، ليس من مهام السلطات العمومية لوحدها، بل من مهام هذه الأخيرة تحديد الإطارات التنظيمية والمؤشرات والمخططات الإستراتيجية، التي يمكن لها أن تعمل دورا إيجابيا في تقريب وتفعيل وجهات النظر بين الإدارات العمومية والمصالح الدولتية، والمقاولات الإنتاجية والخدماتية، والجماعات المحلية والجمعيات المدنية، والفعاليات المعرفية والعلمية، والتي تصب في إطار إعداد وتأهيل مجالات حضرية راقية، تقيم رابطة وثقى بين السياسة الحضرية والسياسة الإقتصادية. ولذلك فإن صياغة ودعم التعاقدات والشراكات في مجالات التخطيطات المتوسطة أو الطويلة المدى، لتنمية البنيات التحتية والولوج إلى الخدمات الأساسية بالمدن، تبدو ضرورة ومكونا أساسيا للمدن التي تريد الإنخراط في إستراتيجيات تنموية وبيئية مستدامة. وبالتالي فقد آن الأوان للتنسيق والتشاور والتعاون، بين المؤسسات الإدارية والترابية والجماعات المحلية، والمؤسسات العلمية والجمعيات المدنية، في مجال وضع سياسات مندمجة وشمولية في الشأن الحضري، سياسات تحدد الأولويات وتحصي العوائق والإكراهات، من أجل وضع أحسن البرامج والمخططات الكفيلة بالنهوض بمستوى وحداتنا الترابية الحضرية. وفوق هذا وذاك، فقد حان الوقت، كي تفسر وتشرح الحكومات، بكل وضوح ودقة، الإجراءات الممكن إتخاذها على المستوى الوطني، من أجل مساعدة البلديات والجماعات الحضرية والجهات، على إحتواء وتجميع وتركيز هذه السياسات المعدلة والمكيفة بشكل أكثر فعالية، من خلال القيام بأبحاث حول الحاجيات المحلية ودعم وتطوير البنيات التربوية والتكوينية والعلمية، في مجال التخطيط الإستراتيجي، وتوسيع مجالات نشاط المنظمات والهيئات الجماعية التي توسع من حجم مشاركة السكان في صياغة وإتخاذ القرارات المناسبة في تنمية مدننا. (أنظرفي هذا الصدد:Politiques Novatrices pour un développement Urbain Durable.La ville écologique,OCDE,Paris,1996,P 13 ) 5 على سبيل الختم: لا بد في نهاية هذه المداخل الأساسية لإنتاج سوسيولوجيا حضرية تكون في خدمة الطلب الإجتماعي وسياسة المدينة، التأكيد على شيء أساسي لا ولن يكون به البحث في مجال العلم الإجتماعي قائما على أسس وأهداف ومنهجيات ووسائل بحثية متينة.ألا وهو ضرورة مأسسة مراكز ومراصد للبحث السوسيولوجي والأنثروبوجي ببلادنا، حتى تكون لدينا مؤسسات أو مراكز بحثية علمية مستقلة عن تأثيرات وإكراهات وتوجيهات أصحاب القرار السياسي، مما يحررها من سلطة الرقيب ومن خطر الإنسياق وراء مصالح فئوية للوبيات أو أطراف معينة، وبالتالي يضمن لها مصداقية ووجاهة وموضوعية ما تنتجه من معرفة إجتماعية عميقة، حول مجالاتنا الترابية الحضرية منها والقروية، وهي المعرفة التي لا يمكنها أن تنتج وتستخرج إلا من خلال البحوثات والدراسات الميدانية الوصفية والتحليلية والتركيبية والمقارنة، التي تتطلب من بين ما تتطلب برامج تكوينية، على المستويين النظري والتطبيقي، للإستئناس بأدوات ومناهج ومناطق ومجالات البحث، ووسائل لوجيستيكية للتحرك والتواصل والإشتغال في الميدان، الذي لا يمكنه أن يتم بصفة فردية، كما في البحوث أو الأطروحات الجامعية، بل بتجنيد وتعبئة فرق عمل متداخلة الإختصاصات أو مجموعات بحث متفاعلة، منسجمة ومتضامنة، لإنتاج دراسات ومونوغرافيات أومقاربات وإثنوغرافيات دقيقة ومتكاملة...