في مستهل ستينيات القرن الماضي، عرفت الكتابة في مجال القصة القصيرة ازدهارا لافتا، حيث تم اعتمادها كأسلوب في الحكي المركز والدقيق، لنقل الوقائع والأحداث بتفاصيل تبرز ملامح الحكي وتحصر المعنى أو ما يبرز دواعي السرد ومجاله. وقد تألق في الساحة المغربية أعلام ساهموا باستحقاق كبير، في إغناء هذا الصنف من التعبير الأدبي بمختلف أحجامه وصيغه. فكان القراء على موعد أسبوعي مع الملاحق الأسبوعية لكل من جريدة "العلم" وصحيفة "الاتحاد الاشتراكي"، التي واظبت على نشر جديد كل من ادريس الخوري، محمد زفزاف أحمد بوزفور، إلى بعض المنابر الثقافية التي واكبت تلك المرحلة بكثير من الاهتمام. استعدت ملامح هذه المرحلة بكل صخبها وتعدد عطاءاتها، وأنا أقرأ المجموعة القصصية " خواطر حمودة في رصد وقائع فريدة" للأستاذ محمد يسين. استعدت أبهج اللحظات ونحن نتداول في زمن الصحوة الشبابية، حول مجمل ما كان ينشر على صفحات الجرائد من قصص ونقاش نقدي، ساهم في تطوير مفاهيمنا ووسع مدارك جيل من الشباب الطواق إلى عالم أفضل، تسود فيه المساواة وضمان كل مستلزمات الحياة. مجموع قصص الأستاذ محمد يسين، تفتح النوافذ على واقع متعدد المظاهر،كثير مجالات التأمل والاستقصاء. ينطلق في كشف كل ذلك من الخاص لينتقل إلى ما هو عام، يؤطر السلوك المجتمعي ويكشف عن خلفيات التفاعل المشترك مع المحيط وكيفية الفعل فيه. يعود في جميل سرده إلى جوانب من الماضي ومعتقداته، الطفولة وملابسات تأثير المحيط المجتمعي في تقويم السلوك، بما يتلاءم والتدبير العام في تفسير والتفاعل مع مختلف القضايا الماورائية، وكل ما يحصر التجليات في سلوك يومي موشوم بالامتثال والانصياع. هي تجربة في الكتابة تستحضر الواقع المعاش وكل ما يستقيم والعيش المشترك، بكل سماته الأخلاقية والعقائدية، كحرص العائلة على تلقين منهجية الفعل التلقائي ، وما يقوي الروابط ويفسح مجالات التفاهم وتحقيق التواصل. تقاليد القبيلة ومعتقداتها في تحديد معالم الهوية المحلية وأولويات الساكنة. مجالات متباينة يترصد القاص مختلف التحولات فيها وما يميز مراحل تطورها، وتأثيرها في السلوك العام وما يقوي الروابط ويرسخ العلاقات بسماتها المحلية. يعتمد ياسين في استعادة مختلف اللحظات على فيض الذاكرة التي يستحضرها وهو يرتشف قهوته الصباحية أو يتأمل عالم عصافيره، ومآثر من ماضي طفولته. جولات تحيله على تفاصيل واقع شابه تحول عميق في تجليات بنيته ومظاهر تواصله، وبتأثيرات تعدد مجالات فعله ونوعية تفاعل محيطه القبلي والعائلي. في كل استقراء لما آلت إليه أحوال الناس وسلوك تدبير أمورهم، يسند خلاصات تقديراته بسور قرآنية وتصورات لمبدعين كان لهم في تقديره بعد نظر وأحكام تميزهم وتبرز نبوغهم. وهو بذلك يتجاوز مجال الحكي بما يهدف إليه من غاية في لفت الانتباه إلى ما آلت إليه العلاقات الاجتماعية في كل مظاهرها الأسرية والمجتمعية، سلبا وإيجابا، إلى الإقرار بأزلية التحول على كل المستويات الحياتية لتجاوز النمطية وتقعيد نوعية سلوك الكائن البشري والمحيط الطبيعي، ويؤكد قاعدة الاختلاف والتنوع. هكذا تحمل كل حكاية عبرة وإثارة الانتباه إلى ما آلت إليه الأمور، هي تأملات واستقراءات يتداولها الناس بعد أن يتقدم بهم العمر وتطفح السنين بجميل الذكريات وتوالي النوائب والإخفاقات.