1- يبدو أن خصوصية التاريخ السياسي للمغرب، خلال العقود التي أعقبت الاستقلال، قد خلقت ظروفا ساعدت على بلورة فكرة ملتبسة في صفوف شرائح اجتماعية واسعة مفادها أن المعارضة تعني الانتماء إلى قوى اليسار حصرا. أما أن تتبلور قوى سياسية معارضة أخرى خارج هذا التصور، فليس سهل التقبل. فقد كان الصراع السياسي متبلورا بين ما كان يطلق عليه الحكم تارة، والمخزن تارة أخرى، وبين قوى الحركة الوطنية المغربية عموما بمختلف تياراتها الوازنة. وكان الجميع تقريبا ينظر إلى مختلف القوى التي تؤثث المشهد السياسي المغربي من هذه الزاوية الثنائية. إذ لم تكن القوى الوطنية والديمقراطية تعترف بأي حزب آخر خارجها، معتبرة عددا من الأحزاب إدارية من حيث المنشأ، وظلت تنظر إليها من زاوية النظر إياها دون أخذ بالاعتبار لأي من التطورات التي عرفتها القوى الحزبية تلك، وتأثير ذلك على مصالحها وعلى المواقع التي تمثلها ضمن شرائح المجتمع المغربي. ولم يتم إحداث نوع من التطبيع في الحياة السياسية إلا من خلال تشكيل حكومة التناوب برئاسة الاستاذ عبد الرحمن اليوسفي الكاتب الاول الأسبق للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية. غير أن التأمل في نوع من الخطاب السياسي المغربي الراهن يوحي بأننا أمام دعوات مضمرة، على الأقل، إلى العودة الى فكر الثنائيات الذي أتت حكومة التناوب أصلا للقطع معه، فأصبحنا نرى مفردات السياسة المعتمدة لدى البعض تنحو منحى حصر المعارضة في أحزاب دون غيرها مع أن التصنيف العادي لحالة المعارضة يسع كل القوى غير المشاركة في الحكومة في أي بلد من البلدان. صحيح انه يمكن التمييز بين قوى المعارضة انطلاقا من توجهاتها الفكرية الأيديولوجية والسياسية غير أن هذه مسألة أخرى تماما، كما لا يخفى على أحد . 2- يقولون: كم حاجة قضيناها بتركها. تبدو هذه القولة شكلا من أشكال الدعوة إلى اللامبالاة أو حتى الاستقالة الدالة على العجز، تجاه عدد من القضايا. غير أن التفكير فيها يدفع باتجاه آخر تماما، وهو الدعوة إلى عدم الزج بالنفس في محاولة معالجة ما ليس غير أشباه التحديات، لأنها مضيعة لوقت وجهد ينبغي اقتصادهما لمواجهة التحديات الحقيقية، عندما تفرض نفسها. ذلك أن المسألة التي يمكن الاستغناء عنها، طرحاً ومعالجةً وتحدياً، دون أن يتولد عنه نتائج تذكر، على واقع المرء، أو مستقبله، لا تستحق الرفع من قيمتها إلى مستوى التحدي أو اعتبارها أولوية على أي مستوى من المستويات. إن حتمية ولوج سباق التحدي، في سبيل رفعه أو محاولة رفعه، يمليه إعمال العقل في القضايا المطروحة على جدول الأعمال. وما لا يسوغه العقل ببعده الشمولي في مقاربة الأشياء، من حيث الإمكان ووسائل الإنجاز وشروطه، لا يستحق عناء المحاولة. إذ الترك هنا أولى. وبذلك يكون للقولة المذكورة معناها الإيجابي الديناميكي وليس السلبي الجامد الذي توحي به، لأول وهلة، وخاصة عند الاستعمال الدارج. 3- قد نختلف في تقدير الوضع السياسي القائم في بلادنا. وهذا أمر طبيعي، ما دامت زوايا النظر إليه ليست متماثلة، وما دامت المعطيات التي يتم الانطلاق منها غير متجانسة، في بعض الأحيان، ولا يتم إدراجها، أحيانًا أخرى، في إطار أفق موحد أو على قاعدة انطلاق مشتركة. غير أن هذا الاختلاف، في تقدير الوضع السياسي، المرتبط بمعطيات ملموسة وتشخيص محدد لها، لا ينبغي أن يحجب عنا طبيعة المرحلة، التي يجتازها المجتمع المغربي. ذلك أن ارتباط تقدير الوضع بما هو مباشر من معطيات، لا ينفي أن للمرحلة سماتها التي تبلور الرؤى نحو تلك المعطيات، ولا يمكن، بأي حال من الأحوال، قصرها عليها. وبما أن المرحلة أو الحقبة بمعنى ما، تاريخ وأفق، فإن سحب التباين على مستوى ما هو قائم ومباشر، على الحقبة والمرحلة التاريخية، يحول المباشر إلى قاعدة انطلاق، في حين أنه لا يتجاوز، في أحسن أحواله، مجرد نقطة ضمن مسار لا يرقى حتى إلى مستوى المحطة بمعناها التاريخي. إن هذا التصور يضحي، من حيث يدري أو لا يدري، بالحقبة، بما هي أفق ورؤيا، ليلهث وراء اللحظة التي تظل عمياء ما لم تستلهم إضاءات المرحلة وأنوارها الدالة على الأفق وواضعة الصُوى التي تحدد معالم الطريق نحو المستقبل . 4- ليس ممكنًا حصول الإجماع المطلق، بين بني البشر، حول أي قضية من القضايا الفكرية أو السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية، لأن التعدد الواقعي، في صفوف المجتمعات البشرية، باختلاف مواقعها وخلفياتها الفكرية والسياسية، يمنع حدوث مثل هذا الإجماع، وإن ظل التطلع إلى التماهي معه يراود الكثيرين، باعتباره قيمة مثلى تشكل حافزًا أساسيًا على تجاوز قضايا الخلاف والتنازع الأساسية، والتعود على الممارسة على أسس الأرضيات المشتركة، أو الوسطى، القادرة على جسر المسافة بين ما هو واقعي وما هو مأمول. أي بين ما تتيحه الرغبة، ويشمله الخيال، من جهة، وبين ما تفرضه معطيات الواقع، ويدخل ضمن مكنة واستطاعة الفاعل، في ذلك الواقع، من جهة أخرى. لكن يبدو أن معارك الإمساك على محددات الحلول الوسطى، أشرس وأعوص من معارك إعلان المواقف القصوى، حتى ولو كانت باسم نُشدان الإجماع المطلق. ذلك أن البحث عن التماهي في المواقف، قد يؤدي إلى إعدام ما لا يدفع باتجاهه، من مواقف وآراء، وهو ما يتولد عنه، بالأساس، منطق التخوين والتخوين المضاد. وهل هناك أسهل من الانزلاق إلى هذا المنطق، مقارنة بمعارك البحث عن الأرضيات المشتركة، القائمة على الحدود الدنيا، القابلة للتطوير، على الدوام، بما يضمن التقدم في التصورات كما في الممارسات؟ أعتبر نفسي من المنتصرين للحلول الوسطى، حتى ولو اعتبرها البعض "أنصاف الحلول" التي قد ينظر إليها بمنظر سلبي وشبه مدان، ولست مع الحلول القصوى، ولو تم النظر إليها، من قبل البعض، بأنها الحلول الجذرية، أو الراديكالية، ذات الحمولة الأيديولوجية المعروفة، وكال لها هذا البعض أطنان التقريظ والمديح. 5-التنظيم في الممارسة السياسية يتجاوز التقنيات الدالة عليه بكثير. قد يتم احترام دورية المؤتمرات الوطنية بدقة لا متناهية، كما قد يتم احترام اجتماعات الهيئات والمؤسسات الحزبية، وفق ما تنص عليه قوانين التنظيم، دون أن يؤدي ذلك إلى الجزم بأن الحزب السياسي حزب ديمقراطي. بل يمكن لذلك الاحترام الشكلي، أن يؤشر على غياب الديمقراطية في عدد من الحالات. لا جدال في أن احترام دورية الاجتماعات، قد يمكن الحزب من فرص متواصلة للتداول في شؤونه الداخلية والقضايا المرتبطة بالممارسة السياسة، إلا أن هذه الفرص قد تتحول في مناسبات بعينها إلى تكريس ما ليس ديمقراطيًا بالتعريف. فعندما يحظى بعضوية الهيئات التقريرية من ليست لهم الدراية المطلوبة بقضايا الشأن العام، على سبيل المثال، فإن عقد الاجتماعات أو عدم عقدها سيان، لأن القرار النهائي هو بيد النخبة الضيقة، التي تمتلك الأدوات الحاسمة، عند اتخاذ القرار. إذ تمتلك المعطيات. وتمتلك القدرة على التحليل. وتمتلك ربما الرؤية الفكرية والسياسية، كما تدرك طبيعة المصالح موضوع رهان القوى المنافسة. أتذكر هنا المجالس التي كانت دول شيوعية تنشئها، حيث تحدد للعمال والفلاحين نسبًا في التمثيلية تمكنها من عدد كبير من المقاعد، غير أن القرار هو دائما بيد المجموعة الممسكة بزمام الأداة الحزبية على اعتبار أن العمال والفلاحين ينتهون إلى تفويض القيادة الحزبية باتخاذ القرار. الشكل ديمقراطي، ما في ذلك شك، لكن المضمون هو حكم الأوليغارشية لا أقل ولا أكثر .