ليس هناك من يملك الحقيقة المطلقة، فأحرى ان يزعم احتكارها في مجالات الممارسة البشرية. اذ ليس يوجد أصلا أي حقيقة مطلقة في الواقع يمكن التنازع عليها قصد تملكها واحتكارها ومنعها كليا على الخصم الحقيقي او الافتراضي. هذه هي الحقيقة الوحيدة القادرة على تأسيس ثقافة الحوار والديمقراطية داخل المجتمعات الانسانية. وهي ذاتها المؤسسة للنسبية في مختلف المجالات، بما في ذلك مجالات الثقافة والأيديولوجيا. وتجاهل هذه الحقيقة او رفضها هو مدخل حتمي الى مختلف اشكال الدوغمائية والاقصاء والتطرف والاستبداد الفكري والسياسي. غاية هذا القول: التأكيد على ان التعدد والتنوع هو الأصل في الأشياء. وهو ما يضفي عليها طابعها المركب وغير القابل للاختزال وبعدها المعقد المستعصي على التصورات التبسيطية بمختلف تجلياتها. ان غياب الحقيقة الايديولوجية والسياسية الواحدة هو بالذات ما يفتح المجال امام الاجتهاد في مقاربة قضايا هذين المجالين وغيرهما من مجالات الفعل والتفاعل بين البشر. وهي بذلك مقاربة غير معزولة عن بيئتها الاجتماعية والثقافية والسياسية باعتبارها مقاربة تاريخية. وبدهي ان كل مقاربة من هذا المنظور مشروطة بمحددات تلك البيئة في المكان كما في الزمان. ان الانطلاق من هذه المقدمة المبدئية في التعامل مع معطيات الواقع ومع القوى التي تحاول التأثير على مسارات الممارسة في مختلف المجالات يحول دون سيطرة الذاتي على الموضوعي، او اعلاء شأن الأفكار المسبقة وأحكام القيمة عندما يكون بحث تلك المعطيات وطبيعة تفاعل مختلف القوى معها والعوامل النظرية والثقافية والسياسية المرتبطة بها هو ما ينبغي ان يحظى بالسبق والأولوية المبدئية والعملية على ما عداه. ويبدو ان عدم استيعاب أي مفهوم، مهما كانت شموليته ودقته، مختلف أبعاد الواقع هو ما يضفي عليه طابعه النسبي الإجرائي باعتبارهما شرط حياته وفاعليته في المجال الذي يتم توسله فيه للمساءلة والاختبار والتحليل. وإذا كان هذا واضحا بالنسبة لمفهوم الديمقراطية والاشتراكية ومفاهيم حقوق الانسان والعدالة والحرية بمختلف ابعادها، فإنه واضح أيضا بالنسبة للقوى التي تعتبر نفسها حاملة لرسالة تلك المفاهيم وتعمل من اجل تجسيدها على أرض الواقع داخل المجتمع او ذاك. وبهذا المعنى يمكن القول ان اصطفاف القوى داخل مجتمع من المجتمعات لا يقارب من زاوية امتلاك او عدم امتلاك الحقيقة، وانما من زاويا مرتبطة بمعطيات المرحلة التي يمر منها المجتمع على مستوى بناء ذاته في مجالات الاجتماع والاقتصاد والسياسة وطبيعة التحديات التي يفرضها إنجاز التقدم في هذه الحقول. وهذا ما يمكن الاصطلاح عليه بطبيعة البرنامج العام الذي لتلك القوى تجاه ما تعتبره متطلبات المرحلة والحقبة التي يعيشها المجتمع بما في ذلك أساليب تذليل العقبات امام تحقيق ذلك البرنامج على أرض الواقع. وعندما ننظر الى واقعنا المغربي انطلاقا من هذا المنظور للحقائق الواقعية واصطفافات القوى على قاعدة طبيعة المرحلة وتحدياتها، فإننا يمكن رصد تعدد وتنوع لا يمكن تفسيره الا بمستويات النمو الاجتماعي والثقافي ومستويات الفرز بين التصورات القائدة للممارسة في مختلف مجالاتها. وهو ما يفسر طبيعة التحولات في المواقع لتلك القوى بشكل يبدو مفاجئا، أو غير منطقي بالنسبة لكل من ينطلق من تصور يقوم على ان الحقيقة المطلقة جبلة هذه القوى دون أخرى، في كل زمان ومكان، دون اخذ الواقع المتحرك بعين الاعتبار، بما هو أساس كل منظور ومقاربة مهما زعم أصحابهما كونهم ينطلقون من مباديء مطلقة وثابتة لا تشوبها لوثة المصالح المادية والسياسية الملموسة. والواقع غير القابل للارتفاع هو ان المصلحة ركن من أركان الممارسة السياسية يعتبر التنكر لها إخلالا بها واستحالة لها. وهذا يدخل في باب العبث او التضليل. وضررهما على المجتمع ليس بحاجة الى برهان، لأن المواطن قادر، مع مرور الزمن، واختبار الشعارات اعتمادا على معطيات الممارسة، كشف هذين البعدين في السلوك السياسي للقوى المتنافسة والمتصارعة في المجتمع. ولعل مرد جزء من العزوف السياسي الذي نراه اليوم الى وعي المواطن بهذا الامر، وان لم يكن كافيا لتفسيره لارتباطه بعوامل اخرى كثيرة قد تلعب فيها الثقافة السياسية السائدة في المجتمع أدوارا حيوية بصورة مباشرة او غير مباشرة مرئيّة او غير مرئية. ان طبيعة المرحلة الوطنية الديمقراطية التي يعيشها المغرب منذ معاركه الأولى في مواجهة الاستعمار وانطلاق معركة بناء الديمقراطية المرتبطة بها تفسر، الى حد بعيد، طبيعة اصطفافات القوى في المشهد السياسي حيث يطغى البعد الوطني ذو المنحى التوافقي بل والاجماعي في تحديد مواقع انطلاق الممارسة السياسية لمختلف القوى تارة وحيث تلعب الملكية الدور الريادي الواضح، وحيث يؤول للبعد الديمقراطي التأثير الأكبر في تحديد تلك المواقع حيث تسود التجاذبات عملية تشكيل التحالفات التي تأتي في بعض الأحيان مغايرة للتحالفات التي تحددها غلبة ما هو وطني كما تجلى ذلك في المعارك السياسية الاخيرة على مستوى تشكيل الحكومة وتفعيل المؤسسة التشريعية للحسم في قضية تعبيد الطريق امام انطلاق عمل المغرب داخل مؤسسة الاتحاد الأفريقي. ولأن تداخل ابعاد المرحلة الوطنية الديمقراطية من صميم واقع المغرب الراهن فإن عدم استحضاره لا يساعد على التعرف على طبيعة المواقف وانتقالها من حقل دلالي الى آخر بحسب طبيعة القضايا المطروحة على جدول الاعمال. ولعل الإدانة المنهجية والمطلقة لأي تقارب بين عدد من قوى اليسار وبين بعض القوى الليبرالية التي تصنف عادة ضمن خانة اليمين السياسي من بين تجليات عدم استحضار مجمل معطيات المرحلة الوطنية الديمقراطية ومتطلباتها في تقدير طبيعة مصالح الوطن في التقدم على طريق بنائه وحمايته من جهة، وعلى طريق تكريس الأسلوب الديمقراطي في مقاربة قضاياه السياسية العامة من جهة اخرى. ان هذا ما يفسر في رأيي التقاطعات بين مواقف الاتحاد الاشتراكي وبين قوى سياسية اخرى من بينها التجمع الوطني للأحرار والأصالة والمعاصرة في عدد من القضايا السياسية الراهنة، وبالتالي فان كل احكام القيمة ليست منتجة في عملية فهم الواقع علاوة على كون قاموسها محدودا في كلمات تعد على رؤوس أصابع اليد الواحدة على شاكلة « الانبطاح» او «الخيانة» لمباديء معلقة في الهواء. وهي بذلك اقرب الى التعويذات التي يرى البعض انها تنوب لوحدها عن تحليل الواقع وطبيعة السلوك السياسي للقوى الاجتماعية والسياسية المختلفة. والا ما معنى ان توافق بعض قوى اليسار الاشتراكي مع احزاب التجمع والحركة الشعبية والعدالة والتنمية لا يحاكم بالمقاربة إياها، مقاربة الانبطاح والخيانة وما يدور في فلك هذا القاموس المدقع في فقره؟. ان النظر الى التوافقات والتحالفات من منظور التقديرات المختلفة لطبيعة المرحلة وضرورات الفعل السياسي الإيجابي انطلاقا من تصور معين للمصالح الوطنية، هو وحده الكفيل باعادة النقاش والحوار السياسي الى مواطنه الحقيقية وتحريره من المسبقات والحقائق المطلقة الوهمية الذي تدمر الممارسة السياسية وترهن تقدم البلاد بمجاهيل العبث السياسي.