جميل هذا البوتريه الذي أنجزه الفنان التشكيلي الكبير الأستاذ عبد المجيد اللياوي ، فهو ليس مجرد صورة ثابتة ، بل إنه أكثر من ذلك ، إنه إبداع تشكيلي مفعم بالبوح المسترسل ، يجسد عمق إنسان يعيش بيننا ، فيه لمسة الفنان الهولندي الشهير فان جوخ ، وهو مستوحى من إحدى روائعه ، مما يعكس أفكار وثقافة الفنان ، وتمكنه من فنه ، ولكنه يختلف من حيث أسلوبه وبعده ، فإذا كان فان جوخ رسم طبيبه الخاص بول غاشيه ليرد له الجميل على ما أسداه من أجله ، ويشكره على الاعتناء به في لحظات عسيرة من عمره ، فإن الأستاذ اللياوي آثر الحديث عن هذا الرجل وسرد جزئ من سيرته ومساره النضالي وكفاحه من اجل الحياة أمامنا من خلال هذا العمل الفني الذي أهداه إياه بمناسبة الاحتفاء به أمام جمهور غفير ذات أمسية ، تم تنظيمها سابقا من طرف فرع بركان للمنظمة المغربية للكشافة والمرشدات ترسيخا لثقافة الاعتراف ، وكأنه بذلك أراد أن يتفادى الإحراج و يتجنب الارتباك في تلك اللحظة ، سيما وأن الفنان خجول بطبعه ، ونادرا ما تجده يتحدث أمام الجمع ، ولذلك فضل الكشف عن الباطن الذي لا يظهر للعيان بطريقة فنية معتبرة ، معتمدا في ذلك على أسلوب يتجنب الواقعية المفرطة التي تخلق الدهشة الآنية ، وتنتهي بانتهاء المشاهدة ، لينهج واقعية تعبيرية ، ووجدانية ترسخ الصورة في الأذهان وتمنحها الحركة و الحياة ، ولذلك تجده يقوم بإنشاء خلفية مبنية على طبقات لونية زيتية مشحونة بالرموز والدلالات ، تصنع اللمعان على القماش ، فيها شيء من المحاكاة ، تاخذ واقعيتها من سلسلة جبال جاءت متتالية ، و بتدرجات لونية محددة ، تتضارب بين الاحمر والرمادي والأسود تعبيرا عن توالي الحقب و الأحداث ، و لا تمثل فضاء معينا ، تعكس سمة رجل أبي شامخ ، شموخ جبال بني زناسن.رجل معروف بصدره الرحب الذي يستمد سعته من سماء أرادها الفنان أن تكون سريالية ، خارجة عن المألوف ، وباللون البرتقالي ، الحاضر بقوة من أجل تجسيد الهوية ، و ليس الإحالة على الزمن ، كما قد يظن البعض. فهذا اللون ملتصق بأبركان ، وهي المدينة التي رأى فيها النور ، وترعرع بين أحضانها بطل اللوحة ، وشرب من مائها وتذوق حلاوة برتقالها منذ الفطام. فالصورة تقدم لنا وجها مألوفا ، و لا يخفى على أحد ، كالقمر الذي أخذ حيزا مهما في الخلفية. ما أجمله قمر ! فهو مبعث الحركة ، وهو الذي يتحكم في المد و الجزر ، و بفعل ضيائه تأفل الوحشة ، ويبقى الطير على غير عادته في السماء محلقا ، مما يطبع الرسم بنوع من الخصوصية والتفرد ، ويجعله لايشبه البورتريهات الأخرى في شيء بما يختزله من تفاصيل دقيقة يفرضها المقام والمقيم. فالفنان لا يريد التوقف عند تسجيل اللحظة الواقعية ، بل يحرص على التعبير عن الحالة الفردية التي تخطّها القسمات والملامح ، وكذلك الحركات . فكل من يتابع أعمال هذا الفنان التشكيلي البركاني الذي يعتبر من بين أبرز فناني البورتريه على الصعيد الوطني المتميزبن بقدرة فائقة على تصوير الوجوه ، يعرف تجربته في هذا المجال تحديدا . فوجوه اللياوي لا تختلف من حيث الملامح فحسب ، بل أيضا من حيث الخطوط واللمسات التعبيرية والظل والضوء. نحن هنا أمام إنارة كاشفة ، يصنعها اللون بتدرجاته ، لا غموض فيها ، تسلط الضوء على رجل تم وضعه في مكان الرمز الشامل للهوية. الرجل هنا ليس فردا ، بل اختزال للأرض والتاريخ و التراث الخاص ، وسرد لمسار نضالي طويل بطول قامته. هذا الرجل يبدو في الصورة بشارب يغزوه شيب ، يذكر بتجاربه و عمره ، ولكنه يبدو في الصورة وكأنه مازال يحتفظ بشبابه و لم تأخذ االاعوام المتعاقبة من ذاكرته و تفكيره شيئا ، فقد بقي وفيا لهندامه منذ شبابه ، يرتديه كلما كان في لحظة انتشاء ، سترة و على رأسه قبعة لا تتزحزح ، تأخذ توازنها من هرم ، يقف على أضلع ثلاثة ، قوامها الإخلاص والصدق وحب الوطن ، وأما عنقه فمحاط بوشاح الكشفية بلونيه الأخضر واالأحمر ، وذلك للتعبير عن الوفاء للمنظمة المغربية للكشافة و المرشدات. حتى وإن تعددت العناصر واختلفت ، فإنها جاءت بلون واحد ، يستحضر الانتماء إلى مدينة لايرضى لها بديلا رغم أنه عاش بعيدا عنها نيفا من الزمن.ومن هنا تبدأ حكاية هذا الرجل الجميل الذي يحيينا على طريقة الكشاف. رأى النور الحاج محمد اسماعيلي داخل بيت عريق ، تغمره الألفة والمحبة ، و عاش طفولة هادئة ، بحي شعبي ، يتواجد في قلب مدينة أبركان ، يعج بالحركة ويطبعه التضامن بين الجيران ، مما انعكس على شخصيته و طبع مساره الفكري والسياسي ، وساهم في تكوين شخصيته النضالية.لقد أخذ عن والدته التلقائية وعزة النفس واللغة الريفية ، وورث عن أبيه التواضع و القناعة و حب الوطن .بعد نيل شهادة الباكالوريا بميزة ، تابع دراسته الجامعية ، وكان حريصا على استغلال وقته في المثابرة ، وكبر وكبر معه طموحه ، و أضحى مع الوقت سياسيا محنكا ، وخطيبا بليغا ، قل نظيره آنذاك و سط الحرم الجامعي ، سيما و أنه اكتسب تجربة منذ المراهقة واستأنس مع المداخلات ، و النقاشات الهادفة داخل المؤسسات التعليمية ، وترسخت عنده تلك الجرأة التي تصنع الفرق ، و قد ساعده في ذلك انخراطه مبكرا في الشبيبة الاتحادية وهو مازال في مرحلة الإعدادي ، و كان أكبر من سنه من ناحية الثقافة السياسية والعمل الجمعوي ، إذ أنه كان نشيطا وبنفس طويل ، لايأبه بالعواقب الوخيمة.حبه لبلده ، جعله يناضل من أجل الكرامة والعدالة الاجتماعية ، والسلم والأمان ، وترسخت عنده التضحية من أجل الآخرين وهو كشاف شاب . جرأته وعزيمته جعلتاه يرتقي بسرعة إلى قائد ومؤطر فذ ، واستطاع أن يوفق بين السياسة والدراسة والعمل الجمعوي بفعل عزيمته ، ولكن مساره الجامعي توقف فجأة بعد وفاة والده على إثر حادثة سير مروعة ، فكانت الصدمة بالنسبة إليه كبيرة ، حيث ضحى هذا الإبن البكر بدراسته الاقتصادية ، وقبل عن مضض بوظيفة في الخطوط الملكية الجوية لإعالة أسرته والاعتناء بوالدته و إخوته ، إناثا وذكورا ، فحل محل والده ، وأخذ مكانته فكان خير خلف ، وفي مستوى المسؤولية التي حملها على عاتقه ، وهو ما زال في عنفوانه ، حيث كان ابنا صالحا وبارا بوالدته. فالصورة تعكس صفاء قلبه الكبير الذي خصص فيه مساحة كبيرة تتسع للآخرين. إذا كان الفنان اليوناني ميشيل ديفاناكيس اشتهر في أعماله الفنية بالتركيز على الحركة والانعكاس بإبراز القدمين أو الرجلين أكثر من بقية الأعضاء ، فإن الأستاذ اللياوي اهتم بالجانب الإنساني لهذا الرجل وغاص في عمق شخصيته المتعددة الأبعاد من خلال الوقوف عند الجزء الأعلى من جسد يبدو بمنكبين عريضين يحملان رأسا شيئا ما ضخما ، مثقلا بالمعرفة والافكار و يشيران إلى أنه يمكن الاعتماد عليه حتما لسعة صدره و ا بتسامته العريضة اللازمة محياه و التي تبعث على الاستئناس ، و نظرته الفائضة التي يبقى تأثيرها قويا على المتلقي خاصة بدون نظارات طبية التي نادرا ما يتخلى عنها ، حيث تعمد الفنان إغفالها للدلالة على الحقيقة و صدق المشاعر.فهذه الأشياء ، من الطبيعي التعرف عليها من خلال العينين. فالرجل صادق مع نفسه ومع الآخرين ، وفي لرفيقة دربه و أم أطفاله التي يبادلها حبا وتقديرا ، مما جعل أسرته الصغيرة تعرف الطمأنينة والهناء. فالمبدع بدون شك يعرف ذلك ، فهو جاره و صديقه منذ الطفولة ولازال ، وكأن بهذا البورتريه يسرد قصته ولايقدم فقط مظهره ، إذ أنه صنع صورة تعطي الانطباع عن البيئة ، و انفعال وتفاعل الشخص ، و علاقته بالمكان ، فكل الأشياء الموجودة في الإطار تساعد على فهم ذلك ، و التعرف على هذه الشخصية النبيلة التي لم يستطع الإطار حجزها أو حصرها في مساحة معينة ، فهي تتحرك لتتجاوز مقاس اللوحة ، و تتحول إلى إيقونة ، و لا تبقى ثابتة في الزمان و المكان ، فهذا البورتريه بخصوصيته ، ليس قراءة حيادية لوجه ، أو صورة توثيقية ، وإنما هو رسم تم تشكيله بعناية لتجسيد سيماء الهيبة ، واختزال الماضي والحاضر لهذا الرجل.هندامه يسرد قصته مع الكشفية التي ابتدأت في أواخر السبعينيات من القرن الماضي ، حيث ساهم في تأسيس فرع بركان لمنظمة الكشافة المغربية الإسلامية وتربى على مبادئها منذ الصغر ، وكان عنصرا فعلا ونشيطا ، وسرعان ما أصبح بعد سنة من التأسيس قائد محلية بركان لمنظمة الكشافة بعد أن كان مكلفا بقسم الأشبال والزهرات. أما ابتسامته فهي تدل على طبعه المتفائل ، والحلم بغد جميل الذي ترسخ عنده منذ انخراطه في صفوف الشبيبة الاتحادية الذي ، كان كما باح به ، على إثر تنظيم فرع الحزب لمسيرة بشوارع بركان مؤيدة لمغربية الصحراء ، و ذلك في نوفمبر 1975 على الرغم من عمره الذي لم يصل آنذاك إلى السن القانوني المناسب لذلك ، ولكن بعد إصراره ، وإلحاحه ، تم قبوله ، فبدأت رحلته مع النضال ، ولم تتوقف مع تقدمه في السن ، و تقاعده من وظيفة أخذته أعواما عن بلده ، قضاها مسؤولا في وكالة سفر تابعة للخطوط الجوية الملكية بالعربية السعودية ، فهو لازال بنفس العزيمة والطموح ، والحيوية ، فهو كثير المطالعة ، و يمارس رياضة المشي ، ولم يتخل عن بعض من عاداته كالسفريات وأنشطته الجمعوية ، و لازال يواظب على حضور التظاهرات الثقافية التي يتم تنظيمها بين الفينة والأخرى ، سواء في مدينته أو مدن أخرى.فالعمر بالنسبة إليه ، لا يقاس بالسنين ، وإنما يالإحساس ، وقد تمكن المبدع في تجسيد ذلك من خلال وجه تعمد الفنان تقديمه بدون تجاعيد ، و بقسمات منفرجة تسر الناظرين بنضارته ، ويعكس حيوية رجل يقترب من السبعين ، وكذلك مرحه ، و قد تحول إلى أكثر من وجه ، نمعن فيه النظر و نتأمله ، فنكتشف أن هناك مسار آخر يقودنا إليه فنان بفضل مهارته و لمسة تركت خلفية مفتوحة ، فيها شيء من رمزية قوس قزح المرتبطة دوما في الحضارات القديمة بالتجدد والأمل والعبور نحو يوم مشرق ، ترخي سدولها على رجل يأبى أن ينظر إلى الوراء ، على الرغم من أن ماضيه حافل بأحداث تبقى متصلة بخيط رفيع ، يتمدد قي الحاضر ليصل إلى المستقبل من خلال مشاريعه الأدبية كقاص وشاعر ، فهو يفكر في التفرغ إلى الكتابة ، وإخراج إبداعاته للعلن لتكون تجربة أخرى في حياته ، و ذلك ما يفشيه ضوء ينبثق من قلب القماشة لينعكس على المشاهد ، ويجعل الشخصية تبدو وكأنها تتقدم إلى الأمام ، بلا تهدل ولا استرخاء. وتبقى هذه اللوحة ببعديها التعييني والتضميني و ما تشمله من عناصر تجمع بين الثابت والمتحول تنصب كلها حول البناء الكلي لبورتريه عبارة عن جزء من سيرة مناضل يعيش لخدمة بلده.