لم نكن في حاجة إلى أزيد من مئة وعشرين يوما لكي نعرف المجزرة، فقد انتمينا إليها، منذ اليوم الأول لما بعد سابع أكتوبر، ولكننا في حاجة إلى أن يعرف العالم طبيعة ودرجة التوحش الذي يحرك نفسية جندي الاحتلال في اغتيال شعب بكامله. وها نحن نستدرج التراجيدي مجددا إلى رفح، والعالم كما لم يسبق له أبدا في تاريخه منذ اكتشاف النار، يعرف توقيت الجريمة وتفاصيلها وضحاياها ولكنه يصر على تحرير القاتل من عقدة الإبادة. ليس هذا هو المظهر الواحد لازدواجية العالم إزاء مجزرة فلسطين، بل إن حقيقة الجريمة، تستظل بالعطالة الأخلاقية للعالم وبتناقضاته المخزية، ونقصد بالعالم هنا، أولئك الذين صنعوا سلم قيم ومنظومة قوانين وأخلاق دولية يقيدون بها الضعفاء ويحررون بها الأقوياء. لا نحاكم الضمير العالمي، نحن الشعوب المعنية بالقضية بناء على سلم قيم خاص بنا قام على الدين والتاريخ واللغة والانتماء فقط بل نقيم المحاكمة على أساس ما بناه الغرب من منظومة قيمية وقانونية متعارف عليها دوليا منذ الحرب العالمية الثانية بالأساس، وهي منظومة قائمة على الحق في الاستقلال … ولا يمكن أن نقيم المعادلة والميزان، في ازدواجية المعايير، إلا إذا انطلقنا من مبدأ مقدس دوليا، باسم القانون والحق في الحرية والحياة. وهذا المبدأ يفيد بأن الأصل في الأشياء رفض الاحتلال ومقاومته.. ولعل مصدر التناقض الحالي في النظام الدولي الرسمي، بقيادة العالم الغربي، هو الخلط بين الحق في الاستقلال وبين عقدة الذنب إزاء إسرائيل. فما يترتب عن الاحتلال الذي طال أزيد من 75 سنة، قرنا إلا ربع… هو أن يتحدد الموقف على أساس الحق المشروع في الصراع من أجل تحرير الأرض… لهذا يكون من باب السماء فوقنا والأرض تحتنا أن احتلال الأرض موجب قطعا للمقاومة والصراع… وهذا الثابت التاريخي والأخلاقي والشرعي، يستوجب منا أن نسمي الأشياء بمسمياتها، الاحتلال احتلال والمقاومة مقاومة، وكل يعرف حدود مسؤوليته. إلى هذا التناقض الأساسي ينضاف خلط إيديولوجي متعمد مفاده أن دعم إسرائيل هو دعم لحق الدفاع عن النفس، وهو ما لا يستقيم لأن الدفاع عن النفس لا يكون على قاعدة… الاحتلال. ونحن نقول: يا اشعيا اخرج من أرض غيرك لكي تصبح المعادلة مستقلة ويكون الميزان واحدا، أما أن تحتل الأرض وتقتلني ثم تبكي مثل كل الضحايا فهذا عجز كبير في الأخلاق والفروسية . كما أن الخلط واضح قد لا يحتاج إلى دليل، في تقدير الموقف العالمي القوي من الحرب في أوكرانيا والحرب على غزة. وأصله كالتالي : لقد كان العالم على حق عندما ساند أوكرانيا، لأنه يساند دولة وشعبا يتعرضان للاعتداء، وهو ليس على حق بتاتا، في حالة الحرب على غزة لكنه يساند الدولة المعتدية، وهذا هو حجر الزاوية الأساسي في فهم ما يجري من تناقض واختلال وكيل بمكيالين. وعنه يتفرع ما تبقى: 1 معاقبة روسيا في الحالة الأولى باستعمال كل الترسانة القانونية لذلك، العقوبات الاقتصادية والعسكرية والمالية والحصار الاقتصادي وما إلى ذلك، مقابل عجز واضح إزاء إسرائيل ومساندة لا مشروطة لها في حربها على غزة. 2 عجز أخلاقي كبير وصل إلى حد تعطيل الحرية في الدول الغربية -حالة فرنسا وألمانيا – بمنع التضامن مع الضحايا في غزة ، بالرغم من المتابعة اليومية لتوفر كل شروط الإبادة والجريمة ضد الإنسانية وجرائم الحرب. 3 الحديث عن حلول تؤبد الظلم ضد الفلسطينيين والسماح بكل أشكال التنكيل وعلى الهواء مباشرة، بدون أي وازع أخلاقي أو إنساني … 4-سقوط النخبة في الغرب القوي في تناقض جوهري بأن ترفض الدول الدينية في بلادها، وترفض التأثير المباشر للقوى المتطرفة الدينية في تحديد سياستها، وترفض الدولة الدينية في الجوار المتوسطي وفي الشرق الأوسط، ومحاربتها، في حين تقوم بالعمل على مساندتها ودعمها وشرعنتها عندما يتعلق الأمر بالقوى الفاشية الدينية في إسرائيل، التي تسعى إلى الحل القيامي الكارثي لتصفية شعب وقضية من الوجود البشري؟ إن ما نشاهده، لا يمكن فهمه بقواميس الغرب نفسه، القائمة على المساواة بين البشر وبين حقوقهم. إن ما يتأسس على هذا، على الأقل، أمران: الأول: هو إضعاف معسكر الديموقراطيين في الدول المعنية مباشرة بالقضية الفلسطينية، وهي الدول العربية والإسلامية، عندما تتابع الشعوب كيفية هدر حقوق العالم عندما تكون إسرائيل هي المستفيدة. وإضعاف معسكر السلام أيضا داخل إسرائيل وداخل المعسكر العربي وفتح الباب أمام كل المغامرات وكل أنواع الجنون الممكنة… ثانيا، رفع الموقف من دولة إسرائيل إلى درجة العصاب الحضاري، ونقصد بذلك أن تتحول عقدة «الهولوكست» الغربية المحضة إلى عقدة بشرية جمعاء يدفع ثمنها شعب لا يد له فيها. إن الذي يحصل اليوم هو التسويغ الملتبس لعقدة الضمير من المحرقة إلى درجة السماح لمحرقة أخرى ضد شعب آخر. ومن عناوين ذلك الموقف في فرنسا وألمانيا وغيرها من دول الغرب في الخلط بين العداء للسامية ومحاربة الصهيونية ووضعهما على قدم المساواة، وهو أمر لم يسمح به حتى مؤسسو الدولة الإسرائيلية الأوائل. تحول خطير للغاية يجعل من محاربة الاحتلال رديفا لمحاربة الاحتلال، والمجهود المطلوب أخلاقيا وفكريا وثقافيا يدفعنا إلى استشعار الحاجة للحديث إلى الشعوب والنخب المناضلة، وفي قلبها الشباب الاشتراكي، حامل المبادئ والقيم- قيم الأنوار التي تراجع عنها حاملو المشروع الليبرالي في الغرب- ومعركة الضمير والقانون، مع ذلك لا تقلّ شراستها أمام المحاكم عن معركة السلاح، ومعركة الضمير الأخلاقي. وتملك المقاومة والشعب الفلسطيني، الآن، وضعاً قانونياً أفضل بكثير من إسرائيل التي لا تحتكم إلى لغة القانون، لكنها لا تغفل الاشتغال بها، عبر مقوم أخلاقي، تسميه الحق في الدفاع عن النفس، والذي يجد صداه في الأرضية الاعتبارية للغرب، وللوبي الذي يساندها ويروج أطروحتها وسط الشعوب. وتفيد المعركة في المنابر والمحافل الدولية، في هدم الأساس الأخلاقي، في ادعاء إسرائيل ملكيتها الحق في الدفاع عن النفس. جان ماري توفنان، أستاذ القانون الدولي، مدير مركز القانون الدولي في جامعة باريز نانتير، كتب في الموضوع، في اليومية الفرنسية «ليبراسيون»، كيف أن الوضع القانوني للعملية الجديدة التي تخوضها إسرائيل في غزة تحدد في واقع الأمر في 2004، عندما أصدرت المحكمة الدولية حكمها في قضية الجدار العنصري، الذي بنته تل أبيب، بل اعتبر أن ما نطقت به المحكمة الدولية يضع حداً فاصلاً بين القانوني وغير القانوني. فماذا قالت المحكمة الدولية؟ جاء في منطوق القضية وقتها، أن إسرائيل تملك الحق في الدفاع عن مواطنيها، لكن الإجراءات المتخذة، مع ذلك، لابد لها أن تكون متلائمة مع القانون الدولي، والسؤال الذي يبادر إلى الجواب عليه الأستاذ الغربي هو: هل إسرائيل فعلاً تتصرف ضمن بند الدفاع المشروع عن النفس، كما تقرّه مقتضيات القانون الدولي؟ بالرغم من احتفالنا بالقرار، الصادر عن محكمة لاهاي إثر القضية التي رفعتها جنوب إفريقيا ، نعتقد بأن دعوة إسرائيل إلى أن تراقب كيفية إجراء الحرب لا تنقصه السخرية السوداء ( الطنز المغربي ساركازم) ،لأن الذي يقوم بالقتل هي الدولة الإسرائيلية نفسها ! يستطيع العالم أن ينام ويده ملطخة بالدماء بدون أن يحلم بالكوابيس، ولا ينهض فزعا من هول ما يرى أو ينهض متصببا عرقا، بعد أن يرى تراب فلسطين يتصبب دما. العالم أغلق على نفسه في قاعة محاطة بالشاشات التلفزيونية تنقل المباريات ومسابقات الجمال وتبادل القبل بين الرؤساء، ومشجعات فرق السلة، والعشيقات اللواتي يتقدمن إلى الشاشة للمشاركة في تلفزيون الواقع. العالم بارد الأعصاب والعواطف والأخلاق، ومعطل الحواس والعواصم… ليس هناك بؤس أخلاقي، كما هذا الذي تعيشه النخبة الحاكمة اليوم في الغرب، بؤس يضع معادلة غريبة في فهم العواصم العالمية، تفيد بأن الفهم الوحيد الممكن في شرط الوجود الفلسطيني، هو أن يكون هناك تناسب بين إنجازه لكيانه والقبول بقتله… وليس هناك بؤس مثل انهيار فلسفة الأنوار أمام الشرط الفلسطيني !؟ تبدو النخبة المتحكمة في العالم في حالة شرود متقدمة، حالة تسقط الشرط الأخلاقي من الوضع اللاإنساني عندما تعالجه بثوابتها السياسية الجديدة، فقد منعت النخبة إياها المسيرات المتضامنة مع الضحايا، الذين تجاوز عددهم عشرة آلاف، ودعا رئيسا مجلسي الشيوخ والنواب الفرنسيين إلى «مسيرة كبرى» الأحد في باريس رفضا لمعاداة السامية، من حسن حظنا هناك الشعوب، وهي قامت بواجبها الأخلاقي وما زالت ضد الحرب وضد القادة وضد ساستها… ومن حظنا أن هناك اشتراكيين إنسانيين أمثال بيدرو سانشيز، وأن إسبانيا اليوم هي الأقرب إلى عرب المتوسّط وغيرهم، حيث تميزت مواقفها في الأسبوع الأخير، ما جلب عليها غضب إسرائيل، فقد خرج رئيس الحكومة، الاشتراكي بيدرو سانشيز، عن الطوق الغربي، بإعلان موقف غير منحاز، ولا يحابي دولة الاحتلال. اختار الجانب الصحيح من التاريخ، وذلك بالوقوف على مرمى غزّة والتصريح بما لا تحبّ دولة نتنياهو. اختار منبرا له معبر رفح، ليقول ما يؤلم الاحتلال في وضعه الراهن، ويؤلمه بشكل مضاعف، أولا، عندما شدّد، في زيارته للمنطقة، على «رفض القتل الأعمى للفلسطينيين في غزّة والضفة الغربية»، ونيته في أن تعمل حكومته الجديدة «في أوروبا وفي إسبانيا، من أجل الاعتراف بالدولة الفلسطينية.» ومن بؤس الحالة أننا بدأنا نعبر بخوف «من يُنقذ الجندي أنطونيو غوتيريس «؟ فقد وجد الأمين العام للأمم المتحدة نفسه محاطا بالكراسي المتحركة في مجلس لا يتحرك. ولعله قبل ذلك استسلم للأمل، في أن سلاحا قديما لم يستعمل منذ عقود، هو المادة 99 من ميثاق الأممالمتحدة كفيل بأن يكشف عن مهاراته العسكرية في مواجهة ضراوة الحرب، وتجارها، ووقف آخر تقنياتها وحشية ! ومن المفارقة أن أنطونيو غوتيريس هو نفسه الذي وجد التعبير الصالح لوصف حالته، ووصف منظمة دولية مهمتها الحركة من أجل السلام ب»الشلل «. أنطونيو غوتيريس، الذي كان يتحدث أمام منتدى الدوحة في قطر، تأسف ل»فشل مجلس الأمن الدولي« في اتخاذ قرار بوقف إطلاق النار في قطاع غزة، »بسبب الانقسامات الجيواستراتيجية« . هي طريقته للقول بأن الحرب تسير في طريقها الدموي السيار، لأن حسابات العواصم تختلف عن بعضها، من يرى الدم عملة جيدة في بورصة القيم الميركانتيلو إمبريالية في كسب المزيد من المواقع والمصالح والحلفاء، وبين من يرى أن هدف السلام هو حماية شعب من إبادة جماعية ولا بد من هذا السلام لكي يجد المنقسمون على توزيع الخريطة الجديدة للشرق الأوسط مكانا هادئا للتفاوض. غوتيريس محاصر بالشلل، في وقت الحرب، لهذا يتوفَّق للغاية في تأزيم ما تبقى من الضمير الأمريكي المتبقي من عالم حر فقَدَ الكثير من قيمه، عندما يقف وحيدا في طريق الجلجلة وأمام الجيوش المتحالفة ضد جثث الأطفال الفلسطينيين، ولعله يُؤزِّم أمريكا بذكريات ما احتفل به خيالها الهوليودي وهي تصنع فيلم معجزة إنقاذ الجندي رايان Saving Private Ryan) لمخرجه ستيفن سبيلبرغ : إنقاذ قلب أم من فاجعة رابعة بعد أن نالت الحرب حصتها كاملة من الأسرة بموت ثلاثة أبناء، والعمل على وقف القدر العسكري في اختطاف الجندي رايان، الابن الرابع. في الاستبدال الرمزي، يقف غوتيريس ليحدث العالم عن عائلات بلاد غزة تباد عن بكرة آبائها وأبنائها، وشعب يُدفع إلى مقبرة جماعية بلا نشيد ولا إنجيل عسكري . ومن حسن الحظ أن هناك حراكا جيواستراتيجيا لرفض مقومات النظام العالمي الحالي، اقتصاديا وسياسيا وإنسانيا، من خلال قيام تكتلات جديدة تطالب بإعادة النظر في تقسيم العمل الدولي وفي مركزية القرار في الحرب والسلم، سواء من خلال دول الجنوب الشامل أو من خلال الحركات الإنسانية من قبيل الأممية والتحالف التقدمي … وعلى أصحاب الحق أن يبحثوا عن «ادوارد سعيد جديد» من أجل مخاطبة الضمير العالمي من داخل الشرط الفلسطيني… لا حل إلا بقيام الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس، ولا حل إلا بالحلَّين: فإما الحل الشامل أو الحريق الشامل، كما تدعو إلى ذلك قيادة الاتحاد كل الصف الإنساني التحرري الوطني: دولتان جنبا إلى جنب في سلام وعيش مشترك.. وفي انتظار ذلك، ليس للفلسطيني إلا أن يتمسّك بتراجيديته، فهي دليل حريته، وقدرته على الصمود. ليس أمامه سوى أن يواصل أسطورته، كما يحْسُن به: شهيداً تارة، وفدائيا دائما، وعاقلا وسط الجنون العالمي الشامل.