لا نكتب كلنا بخط مستقيم، ولا يمكننا ذلك ما دام كل واحد منا «يصطاد» أشياءه بطعوم معقدة، كما يتطلب ذلك أي فخ راشد. وحده الكاتب يربط نصه بحمولة مميتة ويحرص على تثبيتها جيدا بين السطور لرد كل قارئ متلصص يتوفر على عدة مجهرية دقيقة لفضح «الشيء القصصي». لا بد، أولا، أن يتوفر هذا الشيء على طاقة وقدرة على الصراع والتخفي، وأن يكون جاهزا للتغير باستمرار، ومتأهبا للانتقال من حالة إلى أخرى، ومن مكان إلى مكان، ومن سياق إلى آخر، وفق قواعد غير منطقية أحيانا. الشيء القصصي غير خاضع للمنطق، كما يمكنه أن يبصق لؤلؤا أو حرباء. الشيء القصصي هو بقعة الشمس التي تتحرك في كل نص. يراها القاص ويتتبعها وينفخ فيها ويتيه فيها دلالا، بينما يكون منها القارئ، كيفما كان مستواه أو درجة جبرته، على مسافة كافية تستفز فيه البحث. يبنى الشيء القصصي بحساسية بالغة عالمه المتشابك من التفاصيل المكثفة والدقيقة، ويضرب حوله طوقا يبرز نسبة ضئيلة جدا من طبيعته، وأحاسيسه، ووجوهه التي يطغى الواحد منها على الآخر على النحو الذي يراه الكاتب، أو السارد، مناسبا. ليس هناك وجه أو شكل واحد للشيء القصصي، وهو إضافة إلى كل ذلك ليس متاحا، وغير كامل، وعنيد بشكل لا يطاق، لا يمنح نفسه بسهولة، أو على الأقل ليس دفعة واحدة، بل على جرعات مثقلة بقدر من الإيهام والتلبيس. الشيء القصصي لا يمكنه أن يكون عموميا أو قابلا للحيازة الكاملة. إنه كل شيء تتفاعل عناصره في المختبر لتمنحه هوية جديدة، حتى لو ظل يحتفظ باسمه. الاسم هنا مجرد قناع، أو ما يمكن أن نسميه «وهم الثبات على حال». وإذا كان الشيء القصصي، أيا كانت طبيعته، عنصرا حاسما في استدعاء ما يجاوره من أشياء أخرى، فإن القصة الشيئية تقوم على حركة الشيء تجاه السرد واللغة، بل أيضا تجاه الحبكة والفضاء، فتنبثق منه أحداثها وطفراتها الحكائية، وتتعزز علامات حيرتها. الشيء له شعور خاص ينبني على التوسيع، وعلى تجريب جميع الممكنات القريبة والبعيدة، بل أيضا على المضي أبعد فأبعد في تركيب علاقات أخرى مستحيلة تهزم المنطق والحس. لا مدى للاتساع، ولا نهاية للتركيب. الاسم واحد، والاحتمالات لا متناهية. وتبعا لذلك، فإن القصة الشيئية لا تكتفي إلا بذلك الشيء الذي يشكل نفسه بالتقاطع مع جغرافيات أخرى، ومع أراض غير مطروقة، وأبعاد غير معروفة، أي ذلك الشيء الذي يحضر بوصفه قوة اقتراحية تجعل الحكايات والأشكال والسرود والحبكات تتناسل دون توقف داخلها. وهذا يذكرنا ب»غرفة» بول أوستر الباريسية؛ تلك الغرفة التي يكفي شخص (شيء) واحد لجعلها مكتظة. «هناك كون بأكمله، هناك مجرة مصغرة تقبض على كل ما هو مديد وناء مجهول». لا ينبغي للشيء في هذا النوع من الغرف القصصية أن يتعرض للإجهاد، لأن فقدان الحيوية يجعله ينقلب عليها. هذا هو الخطر العارم الذي قد تتعرض له القصة الشيئية ما لم يتوفر القاص على خطط علاجية سريعة للتدخل في بنائها وإنعاش تدفقها وحقن وريدها بدماء جديدة، أو على الأقل على توسيع الشيء ونقله إلى ممكنات أخرى كثيفة. الشيء حي، وحيوي، ويستمد استثنائيته من قدرته على التحوُّل، بل على التدخل لتغيير المصائر والمسارات، والأكثر من ذلك أن بإمكانه أن يصير شيئا آخر كلما أطلنا النظر فيه ومنحناه لغة ولسانا. وبهذه الطريقة في العمل، بوسعنا أن نقول إن القصة الشيئية تكتفي بنفسها، لأن «الشيء» يلعب عددا لا حصر له من الأدوار، وأن يعيش حيوات تكاد لا تنتهي. هذا ما يدركه كاتبها الذي يدرك جيدا أن مهمته هي أن يتقدم بالشيء إلى أقصاه، وأن يعيد تركيب أجزائه بشكل «بحثي» جيد، أي بما يتيح له أن يتغير دون أن يفقد اسمه. في القصة الشيئية تكبر شهية الشيء، وتتضخم، فيبحث عن أصله وفصله وتاريخه وأنسابه وقراباته، وقد يلجأ إلى إقامة علاقات أخرى تتحقق عبرها الوثبة التخييلية لتُرى اللامرئيات وتخلق عالمها الخاص بجدية تامة قد تضاهي جدية التجربة العلمية، خاصة أن «اللامرئي» هنا، لتتحقق الشراكة بينه وبين «الشيء»، يخضع لروائز الدحض والإثبات. وسيكون من الخطأ أن يُترك لنفسه، لأن بوسعه أن ينشئ سلسلة أخرى من الحركات التي لا تتصل ب»الشيء» الذي اختاره الكاتب موضوعا للكتابة. وهذا ما يمكن أن نسميه انقلابا على القصة الشيئية التي ستفقد، حينئذ، مركزها، وتتحول فقط إلى حاضنة لمجموعة من الحكايات التي لا ناظم لها. الانقلاب يعني هنا أن يعيش الشيء سلسلة من التغيرات البعيدة عن ماهيته وجوهره، وأن ينتقل إلى ماهيات أخرى دون تحديد مسبق. إن التحديد المسبق هو ما يصنع «القصة الشيئية»، غير أنه ليس ذلك الذي تحصره القواميس والمعاجم والموسوعات والأنطولوجيات، بل يصنعه ذلك الغوص اللامتوقع في الشيء ومراقبته وإعادة تدويره والاحتفاظ بتفاصيله وحيازة مختلف السرديات التي تناولته، وإخراجه على وجوه كثيرة بالشكل الذي يعفيه من أن يصير شيئا آخر، أو أن يشيح بوجهه نحو لحظة ضائعة وخاطئة.