تعنيني المسيرةُ الخضراء، تعنيني الأحداثُ والمناسبات الوطنيةُ الصغرى والكبرى، لا فرق. حلّت أولَ أمس السادس من نوفمبر الذكرى الثامنةُ والأربعون لانطلاق المسيرة الخضراء التي خطّط لها الملك الراحل الحسن الثاني وتجاوب معها بحماس مذهل أزيد من ثلاثمائة ألف مغربي من أعمار مختلفة، وآلافٌ منهم شعُروا بالغبْن لأنهم ما اختيروا في لائحة الشرف، أحسوا كأنهم أُقصوا من وطنيتهم هي فطرةٌ فيهم لا نَعرةٌ ولا نزعة ٌحزبية، أو ابتغاءَ غنيمة ستكون من نصيب البعض لاحقًا، ففداءُ الأوطان في ذاك الزمن كان عقيدةً وبلا ثمن. تعنيني المسيرة الخضراء كلما حلّت ذكراها لأنني، أولاً، حُزت شرف الاشتراك فيها، وثانيًا، لأن قلمي الغضّ يومئذ(1975) تابَعها ساعةً بساعة في أدقّ تفاصيلها وحركتها من مراكش إلى أغادير فطرفاية ومنها إلى الانتشار العظيم للشعب المغربي الأبيّ يومئذٍ على باب الصحراء قبالة التلال التي خلفها مدينة العيون، ما زلت أسمع النبض في قلبي يدق وأنا أكتب رسالتي لجريدتنا» المحرر» نالت شرفًا إضافيًا بعد منعها(1981)، ينتظرها قراء المغرب قاطبة، هي ومقالاتُ وتغطياتُ زملاء لي وآخرين من العالم أجمع. أتذكر منهم المغاربة. ثالثًا، لأنهم لم يكونوا صحفيين وحسب بل جنودًا مجهولين لم يوَسَّموا ولا نالوا أيّ امتياز بعد أن وضعت المسيرة « أوزارها» واستعدنا صحراءنا، لا بد لي من ذكر الراحلين الغاليين وهما الصحفيان العتيدان حسن العلوي الدّفلي، ومحمد الأشهب، وتحية ومعذرة للباقين. لا تعنيني المناسبات الوطنية تاريخًا ورقمًا، تدخُل في روزنامة البلدان كافّة، ومنها الذكريات الأليمة أيضا كما يحتفل الصهاينة بعيد استقلال (دولتهم) التي أقاموها على أرض اغتصبوها وشرّدوا شعبها شتّتوه بديلاً لشتاتهم، ويُمعنون اليوم في إبادة أخلاف نكبة 1948، ونتذكر نحن العرب نكسة حزيران/ يونيو 1967 يتجرّع من بقيت له ذاكرةٌ منها مرارةَ هزيمة شنعاءَ لم نخُض فيها أي حرب، ولا كنا وقتها منتصرين لنزهو بشيء ما عدا أملٍ أُجهِض واتّصل. أحب فيها المعنى، ثم ما ينبغي استخلاصُه من دلالة، وآخرون ينتظرونها بشغفٍ تُتيح يوم عطلة يضاف إلى أزمنة وعقولٍ ونفوس متعطّلة. لن أتحدث عن المعنى ولا الدلالة فلست مفتي الديار، ولن أزاحم زعماء اليمين والوسط واليسار واللا موقع أيضا، في طرح وشرح وتأويل كليهما وقد مضى على هذا الوطن منذ استقلاله ثم المسيرة بعده عقود فيها أيامٌ تستحق مثل أيام العرب قديما منقوشةٌ في الذاكرة ومشتعلة في الوجدان، فهكذا حقّا حب الأوطان. في المقابل، لا أستسيغ أن تصبح الدولة وحدها تقريبًا الراعي المهيمن وشبهَ المحتكر والمذكِّر الموسمي بالذاكرة الوطنية، والمواطنون أو من في حكمهم المعنيّون الفعليون بها، لو عنت لهم، يفاجَؤون بهذه المناسبات الذكرى، ويُسّرُّون يتمططون في رخاء وقتها المتعطّل. وأتساءل بأيّ قدر تستدعي في المُهج والعقول الأحاسيسَ والمغزى، كما أتساءل إن لم يكونوا قد أوكلوا صناعة هذه الذاكرة حمولةً ودلالةً إلى سلطة ومؤسساتٍ تزعم أنها تمثّل الجميع ويمكن أن تنوب عن الوعي الوطني، لمَ لا إذا كانت هي من يشرِّع من فوق ويدبّر الشؤون كلّها بلا استشارة وحوار متكافئ، وبوجود هذين الأداتين وهياكلهما شكليًا تفعل ما تشاء، لم لا إذا كانت بعد صروحها الرسمية الهائلة قادرةً على صنع الأحزاب والنقابات ومنابر الصحافة ومواقع التواصل الاجتماعي لا لصنع الرأي العام وإنما لتوحيده وتدجينه في قالب واحدٍ أَحد. لا عجب، تسمع الناس في ما بينهم يتأفّفون (ماشي شغلي!) أو (هذا شغلهم!) و(اخبارها عند اكبارها) يئسوا أن يُسمع رأيهم، وهَبْ صوّتوا في مدينة على نائبٍ أو عضو مجلس بلدي، سيأتي من يتطاوس ينفُخ في الهواء استخفافًا بهم وجاثمًا على رؤوسهم(إنّا ها هنا قاعدون!) . بالرغم من كل شيء نحتفل بالذكرى 48 للمسيرة الخضراء، جيلنا الذي صنعها وآمن بجدواها ورافقها في خطوات تحققها بشريًّا وعسكريًّا ودبلوماسيا وتعميرًا وتضحياتٍ عظام، ما ابتغينا جزاءً ولا شكورًا. ثم الجيل الذي ولد في أحضانها سمع صغيرًا أغنية الزحف التي أنشدتها الملايين يومئذ(الله أكبر، الله أكبر/ صوت الحسن ينادي بلسانك يا صحرا/ فرحي يا أرض بلادي أرضك صبحت حرة) ولا شك نسيَ من ألّف كلماتها الراحل الجميل فتح الله لمغاري. وبركبِها أهزوجةُ جيل جيلالة الشهيرة هم في طراوة العود وفتوّة الصوت ينشدون: « لعيون عينيا/ والساقية الحمرا ليّا/ والواد وادي يا سيدي/ الواد وادي/ نمشيو في كفوف السلامة/ الله والنبي والقرآن معانا». حين أسمع هذين الأغنيتين أعود أطير، وأراني كما منذ 1975 ذلك الشاب الفارس طليعة الزاحفين يتبعنا عشرات الآلاف عن يميني الراحل امحمد بوستة وعن يساري رئيس الحكومة أحمد عصمان أمدّ الله في عمره. أراني بعد في مجلس اللجنة الرابعة للأمم المتحدة بنيويورك بجانب القائد الاتحادي الراحل عبد الرحمن اليوسفي نستمع لممثل المغرب يدافع بالحجج الدامغة عن مغربية الصحراء، وفي المنصة ذاتها ممثل الجزائر منذ ذلك التاريخ وهو يسفسط وبلاده لا تعيا كذبًا وجهالة ًفي محاربة وحدتنا الترابية. إنني بما عركتني التجارب ومررت به من حوادث الدهر وكابدتُه من أفراح وأتراح بلادي لم أبع فيها لم أشر لم أقايض لم أكسب إلا حبّها والإخلاص لها، رأسمال تا الله لو تعلمون عظيم ثم ما تكدس فوق جلدي وكبدي من حروق أمتي وجراح نافذة في قلبي ما عاد يتحمله جسدي، لا طاقة لي للوصول إلى ينابيعي أعاند في كبت مشاعري وأكابر فقط كي لا أقع من شموخ عزٍّ فات؛ أقول دائمًا لا صورة يعدل المغربيّ الفقيرَ وهو يزحف بجلباب مرتّق ورزّة تلف الرأس وأمٍّ على كتفها وليدُها يزحفان من أجل تحرير الصحراء وهما هم هنّ جميعُهُنّ مؤمنون بسطاء يحملون بالأيدي علمًا يرفرف كتاب الله ربُع» تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير». اعطني واحدا اليوم من هؤلاء، أبغي مائة فقط، وسأموت قرير العين! لكن عينيّ الآن مفتوحتان ليلا ونهارًا على ما لا يطاق، رموشي مغموسةٌ في الدماء، ورأسي مقصوفٌ بين يقظة ضاجّة ونوم أعمى بأطنان الصواريخ، أمشي في طرقات غزّة ألتقط الأشلاء، يدًا، قدمًا ، جمجمةَ طفل كان قد بدأ الحياة، والمحتلّ مهنته قتل الأمهات والآباء، وصرنا أمة بلا إباء، وإما نتظاهر في الشوارع سلاحنا انتظار السماء؛ فمن يلبّي الدعاء؟!