هل فقد الغرب أخلاقه السياسية ودفاعه عن قيم الحرية، الديموقراطية والمساواة بين بني البشر، هذه القيم التي يردد إعلامه أنها كونية ومن حق كل سكان الأرض، لكنه اليوم ينفي هذه الحقوق عن الإنسان الفلسطيني، الذي ترتكب ضده كل فظاعات الاحتلال بشكل يومي من قصف للمدنيين وقطع للماء والكهرباء والأدوية، وهي كلها جرائم حرب بمفهوم الأممالمتحدة والقانون الدولي. اليوم، كيف سيفسر قادة الغرب هذا التضامن الأعمى مع دولة الاحتلال وتجاهل الضحايا المدنيين خاصة من الأطفال الذين يسقطون إلى حدود كتابة هذه السطور، (حصار عسكري منذ ثلاثة أسابيع على عملية طوفان الأقصى، والذي خلف أكثر من 5000 قتيل منهم 2000طفل تقريبا)، هل الفلسطينيون أقل قيمة من الإسرائيليين؟ هل أصبح الغرب يتجاهل جرائم الحرب ضد المدنيين والإبادة الجماعية لهم؟ هل الغرب عاجز عن القول لحكومة وحشية ومتطرفة بإسرائيل التي تمثل اليمين الأكثر تطرفا بأن تتوقف عن القتل الوحشي واليومي لسكان غزة منذ أكثر من أسبوعين. وليس سرا أن الإسرائيليين أنفسهم تظاهروا ضدها منذ توليها المسؤوليات بتل أبيب. وهي نفس الحكومة التي صعدت، منذ وصولها، الاستيطان والقمع في الضفة الغربية والقدس دون أن يتحرك باقي العالم، خاصة الغرب الذي يوفر لها الدعم المادي والعسكري والإعلامي، وعلى رأسه الولاياتالمتحدةالأمريكية. الإعلام الغربي، خلال الأسبوع الأول لهذه المواجهة بين حماس ونتانياهو وحرب الإبادة ضد المدنيين بغزة، تحول إلى بوق للدعاية الإسرائيلية ونشر كل ما يدعيه المكتب الإعلامي لنتانياهو ومراسليه عبر العالم دون التحقق أو التأكد من الأخبار بما فيها الحديث عن دعاية قطع رؤوس الأطفال، وهي الخدعة التي انطلت حتى على الرئيس الأمريكي نفسه ورددها في أول تدخلاته لدعم الاحتلال. وهو منزلق سقط فيه كل الإعلام الغربي إلا استثناءات نادرة بل إن إعلام الكيان الصهيوني كان أكثر موضوعية وتوازنا أحيانا في تعامله مع هذه الحرب ضد غزة من إعلام الغرب نفسه، الذي حركته العواطف والدعاية والمصالح أكثر منها المهنية. الشرخ الكبير بين الغرب وباقي العالم تفجر خلال الحرب الروسية على أوكرانيا، لكنه ازداد مع الحرب الإسرائيلية على غزة، والتي سبقتها أعمال التخريب والاستيطان والقمع ضد الفلسطينيين بالضفة والقدس. طبعا هذه الحرب بينت الانهيار الأخلاقي للغرب في تعامله مع قضايا العالم ومنها القضية الفلسطينية. رغم أن هذه القضية هي جد معقدة. وهذه الحرب تضعف السلطة الشرعية وأطروحات السلام. لكن لا يمكن أن ننتقد المقاومة لوحدها لأنها وصلت إلى ما وصلت إليه بفضل وجود متطرفين وعنصريين في الحكومة الإسرائيلية الذين يدعون يوميا لقتل الفلسطينيين والعرب وإنهاء قضيتهم. حكام الكيان الصهيوني قاموا بإضعاف محور السلام، ومشروع الدولتين بالمنطقة الذي انطلق من اسلو قبل أن يسقطه الإسرائيليون ويضعفون السلطة الفلسطينية التي كانت تحمل هذا المشروع، وعملوا على تقوية التطرف وسط الفلسطينيين. وهو تخريب بدأ من إسرائيل منذ اغتيال إسحاق رابين، وهي بداية سيطرة المتطرفين على السلطة بإسرائيل وإنهاء مسلسل السلام الذي كان يعتقد الكثير بالعالم ومنهم كاتب هذه السطور أن تنعم المنطقة به، وذلك لتحقيق السلام بين شعبين ودولتين كما نصت على ذلك مقررات الأممالمتحدة. لكن المتطرفين خاصة بإسرائيل نجحوا في تخريب هذا الأمل، واليوم التصعيد بين الجانبين يخدم أجندة نتانياهو وحلفائه من المتطرفين، والذي يجر المنطقة للحرب فقط ليفلت من قضاء بلاده. هنا يكمن ضعف الغرب الذي يعرف ذلك ويستميت في دعمه لشخص يقود العالم إلى الحرب من أجل الإفلات من تهم الفساد، وهو ما جعل جاك اطالي المستشار السابق لميتران يصفه بمجرم حرب في تصريح لإحدى الإذاعات الفرنسية. اليوم القضية الفلسطينية ليست هي ضد اليهود بل هي ضد المشروع الصهيوني، الذي يحتل أراضي فلسطين ويستمر في التوسع الاستيطاني حتى اليوم، وهي قضية سياسية وليست دينية من وجهة نظري. الجانب الإسرائيلي يضم في حكومته أعتى المتطرفين واقترفوا مند بداية الاحتلال لأكثر من 70 سنة أبشع المذابح في حق الشعب الفلسطيني، كما قضوا على كل مبادرات السلام سواء من المنطقة أو باقي العالم. ومنهم أحزاب حتى اليوم لها أدبيات عنصرية ضد العرب وتدعو إلى رميهم في البحر والتوسع على أراضي باقي البلدان العربية، وهو ما يعني أن المتطرفين من الجانبين لهم نفس الأجندة. وكبيرهم نتانياهو وحلفاؤه يحلم بإخلاء غزة أيضا وطرد الفلسطينيين الغزاويين نحو مصر. اليوم الحرب في المنطقة والتأثير عليها أصبح بيد المتطرفين بكل المنطقة، وأصبح دعاة السلام عجزين عن النطق بكلمة واحدة في ظل تصاعد القتلى يوميا بين الفلسطينيين من المدنيين، الذين يؤدون ثمن هذه الحرب ويسقط منهم 14 ضحية كل ساعة حسب الأممالمتحدة، والقادم أفظع على سكان غزة، وهو ارتفاع القصف الجوي على القطاع، وحسب نيويورك تايمز، فإن إسرائيل ستطبق «قاعدة حماة»، وهي إشارة إلى العمل الإجرامي الذي قام به نظام حافظ الأسد ضد سكان هذه المدينة السورية التي قام سلاحه الجوي بدكها على رؤوس ساكنيها، وهو ما تسبب في هلاك عشرات الآلاف من السوريين المعارضين لنظامه، وهو السيناريو الذي يريد أن يستلهمه نتانياهو ويطبقه على سكان غزة وينتظر فقط مباركة عمله من كل بلدان الغرب التي مازالت تردد أن من حقه «الانتقام» ، لكن عجز جيشه عن مواجهة مقاتلي حماس والمقاومة الفلسطينية سيدفعه إلى الانتقام من المدنيين من أجل تقديم «نصر» عسكري لأتباعه، وهو الأمر الذي لم يتحقق رغم أسبوعين من الحصار العسكري، في قصف جوي مع قطع الماء والكهرباء وكل أشكال المؤن من أغذية وأدوية. ماذا يردد الإعلام الغربي؟ من حقه الانتقام للمدنيين الذين قتلوا في السابع من أكتوبر الأخير. الغرب فقد كل المشروعية لأنه هو الوحيد القادر على إيقاف هذه الحرب بعد أن كان منبعها منذ وعد «بلفور». اليوم إسرائيل بدون الدعم الأمريكي وتسابق قيادات البلدان الغربية وكبار المسؤولين إلى زيارتها ودعمها سياسيا وعسكريا لا يمكن أن تتمادى في سياسة الإبادة الجماعية للفلسطينيين. لأن كل ما تقوم به في غزة اليوم يحرمه ويجرمه القانون الدولي ويعتبره جرائم حرب، وهو نفس القانون الذي وضعته هذه الأمم بعد انتصارها في الحرب العالمية الثانية. الغرب (يمكن القول إن موقف النرويج وايرلندا وبعض وزراء إسبانيا لهم موقف يدين هذه الإبادة التي يسكت عنها باقي الغرب وكذلك المعارضة بفرنسا التي يتزعمها جون لوك ميلونشون والتي أدانت هذه الإبادة)، يتنكر اليوم لقيمه ويفضل دعم حكومة للاحتلال شعارها الاستيطان وإبادة الفلسطينيين. من يمكنه اليوم إنقاذ إسرائيل والغرب من هذا الانهيار الأخلاقي أمام باقي العالم. حتى الصين تقول إن ما يقع بغزة تجاوز حدود الدفاع عن النفس وأصبح عقابا جماعيا للفلسطينيين، بل إن رئيس روسيا فلاديمير بوتين قارن ما يحدث للفلسطينيين وحصار غزة بالحصار الذي تعرضت له ستالين غراد السوفياتية في الحرب العالمية الثانية.رغم أن لا أحد ينسى الإبادة التي قام بها بوتين نفسه في حق الشعب السوري من خلال القصف الجوي والصاروخي لمواقع المعارضة السورية. اليوم، أمام ما يحدث في غزة للمدنيين من إبادة، وفي غياب قوى كبرى يحكمها المنطق والأخلاق في تدبير العلاقات الدولية، لا أحد يمكنه توقع حجم الانفجار الذي يمكن أن تشهده المنطقة.