جعل العاهل المغربي، محمد السادس، من الجدّية قيمة محورية في بناء قواعد العمل، وأساسا مركزيا، كما في تقييم حالة الأمة على قاعدة القيم بمناسبة خطاب العرش يوم 29 الشهر الماضي (يوليو/ تموز). لذلك، ربط كثيرون التنصيص المتكرّر، (14 مرّة في خطاب دام 14 دقيقة) على قيمة الجدّية بانتقال إدارة الحكم في المغرب إلى مرحلة التشديد على هذا البراديغم (النموذج) في بناء العلاقات في كل مواطن الإنتاج، المادي منه والرمزي، كما في كيفية ترتيب الأولويات في العلاقة مع الأشخاص والأشياء والأفعال والمسارات. وفي الخطاب الذي أثار نقاشاتٍ واسعة وتأويلاتٍ مختلفة، حسب الموقع والوظيفة وأفق الانتظار (انظر مقالة الكاتب «خطاب العرش أفق انتظار داخلي» في «العربي الجديد»، 25/7/2023)، حضر بعدان في الترافع من أجل الصرامة الأخلاقية والسلوكية في التعامل مع الشأن العام: بعد تسجيلي، يذكّر بإنجازات الشباب المغربي في الرياضة مع مونديال قطر، وفي النبوغ العلمي بإنتاج أول سيارة من صنع مغربي خالص، كما في الدبلوماسية التي استندت إلى الجدّية منصّةً ثابتةً في مقاربة العلاقات الدولية. وبعد ترغيبي يبشّر بفوائد الجدّية، كما يدعو إلى تكريسها أكثر من أجل «الانتقال الى المرحلة الجديدة». وهي عتبة ضرورية في تحديد أفق المغرب والخيارات الاستراتيجية للدولة. ولعلّ في الربط بين هذا الأفق والقيم ما يدعو إلى الاعتقاد أن منسوب البحث عنها في تسيير الموارد البشرية، كما في مراقبة الإنجازات، سيزداد ويرتفع، ولعلّ في ذلك تجاوبا مع مطالب ملحّة تخترق المجتمع مع تزايد إكراهاته ومواطن تقدّمه. ولن نعدم عالمَ سوسيولوجيا أو أخلاق الدولة يقول لنا إنه في التَّماسّ بين العقيدة النيوليبرالية والسجل الإمبراطوري للدولة المغربية، وفي السعي نحو الجمع بين السلوكات التقليدية والفهم النيوليبرالي لفن الحكم، المبني على الاستحقاق، تجدُّ الدولة المغربية، وفي قلبها الفاعل المركزي ممثلا في الملكية في تحيين سلم القيم الإيجابية، وربط القيم، بوصفها مفهوما من التراث الروحي للأمة، بخدمة التطوّر الذي يحدُث في كل مناحي الحياة الوطنية، في ترابطاتها الداخلية والخارجية. الصرامة في الأخلاق والتسيير والسلوك وفي أداء الواجب، والالتزام بالوقت والمواعيد، تخترق كل طوابق المجتمع وطبقاته وليس سرّاً أنّ الملك يعلن مواقفه من الذين يستشعر عدم جدّيتهم، ولطالما نال العديدون منهم الغضب أو الإعفاء السياسي أو إنهاء الحياة العمومية تحت بوّابة قوس دستوري شعاره ربط المسؤولية بالمحاسبة، كمهمة اشتغلت عليها مجالس الحكامة، منْ قَبيل المجلس الأعلى للحسابات. وليس سرّا أنه بلغ التذمّر الملكي، حدَّ أنه أعلن عدم ثقته في بعض السياسيين، وتعاطف مع الشعب الذي لا يثق بدوره في هذا الفصيل الذي يُفسد الحياة الوطنية. وورد في خطاب العرش لسنة 2017 ما كان قد شكّل زلزالاً لدى النخبة على صيغة سؤال استنكاري: «وإذا أصبح ملك المغرب غير مقتنع بالطريقة التي تُمارس بها السياسة، ولا يثق في عدد من السياسيين، فماذا بقي للشعب؟». وقال في خطاب في السنة التالية مع افتتاح البرلمان في 2018 إن «المغرب يجب أن يكون بلاداً للفرص، لا للانتهازيين»، وأنه في «حاجة إلى وطنيين حقيقيين»، وهو نفسه الذي انتقد مغرب «الانتهازية» ومغرب السياسيين الذين يغلّبون مصالحهم الضيقة. هذه الترسانة من القيم كلها حضرت في إسناد معنى الجدّية الذي يريده العاهل المغربي، حتى لا يغرقه بعض «المفسّرين» في الغموض والالتباس والوعظ الطرقي (الزوايا)، بعيدا عن المغزى الذي يريده المواطنون العاقلون الجدّيون المثابرون. بيد أن ذلك لا يعني تقليص دائرة الجدّية في الدولة، إذ إن الصرامة في الأخلاق والتسيير والسلوك وفي أداء الواجب، والالتزام بالوقت والمواعيد، تخترق كل طوابق المجتمع وطبقاته، ولا يعني بها رئيسُ الدولة فقط دواليبَها، بل تمس جزءا من المجتمع، ويمتدّ طيفها من أبسط عامل يدوي إلى أكبر مسؤول في هرم السلطة، من الميكانيكي الذي يخلف موعده إلى الزعيم السياسي الذي يغيّر حزبه، ومن السبَّاك إلى أكبر مسؤول في هرم السلطة. يتبع